الترحال ما بين السخرية والصرامة!



كل أسبوع عليّ الانتقال من قطب إلى آخر؛ طبعًا، ليس قصدي الانتقال من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي، رغم أنني أعيش ذلك من خلال أحلام اليقظة، التي تتمدد وتبقى عند البني آدم، كلما طعن في السن، فتكون الأحلام تعويضًا عن القصور والتقصير في كل شيء. قصدي، بكل بساطة، الانتقال من زاوية الرأي، وهي زاوية “هادفة” تقتضي العبوس والجدية المبالغ فيها، كي تقنع القارئ بثقلها، إلى زاوية ساخرة خفيفة تستدعي الـضحك، وإن كان الجو جو حزن ومقت، وكان الأستاذ باسل عودات؛ رئيس تحرير موقع (جيرون)، بالتآمر مع  الأستاذ غسان الجباعي، مدير تحرير القسم الثقافي في الموقع نفسه، قد فرضا عليّ هذا الخيار الصعب، ولم يكن أمامي إلا الموافقة على ما أراداه، والتكيف مع حاجة السوق الثقافي، وإلا فالبدائل كثيرة، والكتّاب “على قفا مين يشيل”، والحسّاد بالجملة، ينتظرون غيابي كي يشنوا هجومًا معاكسًا لاحتلال “الحاجز” الذي كنت أتمترس وراءه، مهاجمًا نظام الاستبداد. الخلاصة أنني وجدت نفسي ما بين هبة ساخرة، وهبة صارمة مدججة بسلاح الفكر، كل أسبوع، وعليّ الانتقال بينهما بخفة ورشاقة الغزلان.

الطب المعاصر

طبّ هذه الأيام مضحك؛ ما إن غادرت العيادة “الصحفية”، حتى وجدت نفسي البارحة عند طبيب القلبية، وبعد رسوبي في الكتابة السريعة عن الحب والحرب، كان الفحص هو امتحان لياقتي على السير السريع، فقلت للطبيب: يا دكتور طول عمرنا ونحن نجري خلف رغيف الخبز، ثم خلف الراتب، والآن كل السوريين يجرون بأقصى سرعتهم “الماراتونية” خلف الدولار، فهل هذا دليل صحة أم موت؟ هل ستكون النتيجة لصالحهم وصالحي؟

قال لي مبتسمًا: لن يجعلني كلامك أخفي عنك النتيجة، فقد استمر تمرين المشي السريع سبع دقائق ونصف، وهذا يعني أنك ما زلت قادرًا على غش الصبايا والإيحاء بأنك شاب في الخمسين من عمره.

كنت سعيدًا بالنتيجة التي أعلنها الطبيب، ولكن خفت من المسؤوليات التي قد تترتب على “شبوبيتي” المزعومة، وخاصة مع السيدات، لأن هذه الشبوبية تشبه الشعر المصبوغ في فاعليته، ما أن يلمسه الماء حتى يظهر بياضه…

النساء والعولمة

استجابة لضغوط الأصدقاء والصديقات بضرورة إطلاع زوجتي على ما أكتبه “فيسبوكيًا”، في الزاوية الساخرة، وفي مقالة الرأي، ولكي أقطع الطريق على من يتهمني بالديكتاتورية ومعاداة النساء، وحجب المعلومات عن الجماهير في زمن العولمة، وانسجامًا مع نفسي التواقة للعدل والإنصاف؛ بذلت كل الجهود الممكنة كي أشد زوجتي إلى دائرة (فيسبوك)، وهذا ما حصل، فقد تكللت مساعي بالنجاح، ودخلتْ بقوة إلى دائرة “الفسبكة”، ولكن، كما يقال، لكل انتصار ثمن، فقد بدأنا نجوع في البيت، فلا أحد عنده دقيقة فراغ لتحضير طبخة اليوم، أو جلي الصحون أو تنظيف البيت، أو وضع الثياب في الغسالة، حتى إننا أصحبنا نفتقد الوقت لتبادل ابتسامة والنطق بكلمة غزل. بل إنني، في إحدى المرات، وقعت في ورطة حقيقية؛ فبعد تمهيد طويل، استطعت إقناع زوجتي بالذهاب إلى السرير، ولكن ما إن وافقتْ واقتربتُ منها كي أطبع قبلة على خدها، حتى تذكرت أنني وعدت صديقة فيسبوكية، بالحديث معها في هذا التوقيت بالذات، فكان عليّ أن أعيد أسطوانة إقناعها بالعكس، يعني بالضرر الذي سيصيبنا نتيجة التمدد بالسرير في الوقت نفسه. ابتسمت زوجتي على مضض ووافقت، ولكنها اكتشفت بعد قليل سبب عودتي للكمبيوتر، فقالت بصوت عال: أنت طالق فيسبوكيًا بالثلاثة.!!

حدث هذا كله بسبب محاولتي سماع صوت الأصدقاء، وتطبيق نصائحهم ونقهم عن المساواة والديمقراطية وحقوق المرأة….

ما في غريب “بيناتنا”

كان أبو إلياس عجوزًا عجنته الأيام وخبزها، التقيته في قرية “أم شرشوح”، عام 1973، عندما كنت معلمًا في القرية، وقد انتحى طرفًا بريًّا من القرية، وجاور نهر العاصي، الذي كان يقارب على الجفاف. أحد الأيام، وكنت شاردًا ووحيدًا على ضفة النهر، ناداني ليقدّم لي فنجانًا من القهوة العربية المرة، بعد أن غطسنا في “حلاوة القهوة” المغشوشة، التي بدأ يفرضها الأسد على السوريين. قال لي هامسًا، وقد تلفت يمينًا ويسارًا، عندما أراد نقد المسيحيين وخرافاتهم: “هلق ما في حدا غريب بيناتنا”، ثم تابع عرضه لخرافات المسيحيين عن أنفسهم..

وكان قصد أبو إلياس من قوله: “هلق ما في حدا غريب بيناتنا”، يعني لا يوجد مسلمون يشمتون بنا.. والحقيقة التي برهنتها أيام الثورة، أن كل السوريين يشمتون ببعض؛ أفرادًا وطوائف وأقليات وأكثريات، وأحيانًا إخوة وأخوات..

نحن، لعجزنا، أبناء ثقافة الشماتة بالآخرين وبأنفسنا، دون حاجة إلى الانتقال من قطب إلى آخر.


ميخائيل سعد


المصدر
جيرون