بين الغوطة وعفرين…



تواجه المعارضة السورية، وأهالي عفرين في شمال سورية، تحديًا كبيرًا في قادم الأيام، يتجاوز توفير الأمن وحماية المدنيين، إلى تهيئة الظروف لتولي أهالي عفرين إدارة أمورهم والقيام بالمهمات المطلوبة، وهي كبيرة ومتشعبة.

استعدادًا لذلك، عقد عدد مهم من مثقفي وناشطي وفعاليات عفرين مؤتمرًا لهم، في غازي عنتاب، برعاية ودعم تركي، وانتخبوا هيئة من بينهم، شكلت عددًا من اللجان في مجال إعادة المهجرين، وأعمال الإغاثة والتوطين ومنع التعديات والثأر، وتوفير شروط انتخاب مجالس محلية منتخبة تتولى الإدارة المدنية، ولجان أخرى في مجال الإعلام والطفولة والقانون والصحة.

كان الائتلاف على تواصل مستمر مع تلك الهيئة، ومع الحكومة المؤقتة، وقد أصدر رئيس الائتلاف المُكلّف قرارًا، بتشكيل مجموعة عمل مكونة من أعضاء في الائتلاف والحكومة السورية المؤقتة، ومن شخصيات عفرينية من ضمن هيئة (المؤتمر المدني) الذي بات الاسم الجديد لـ (مؤتمر الإنقاذ)، وبأمل أن تمارس هذه المجموعة دورها قريبًا، بالتنسيق مع الحكومة التركية وجهاتها المعنية بالملف، وضمن وضع برنامج عمل ميداني سيجري تنفيذه.

بين نكبة، أو هزيمة، أو مأساة الغوطة، وما جرى في عفرين، تفاوت كبير، بل تناقض. وتستحق أحداث الغوطة ومستقبلها وقفة مراجعة موضوعية، وكذلك عفرين.

الذي جرى في الغوطة -كحصيلة- هو اختلال مريع في ميزان القوى، عبر سياسة الأرض المحروقة التي مارسها النظام المجرم، ومعه سلاح الجو الروسي، وبإسناد إيراني واضح، وبعد حصارٍ دام ست سنوات؛ كانت هذه النتائج متوقعةً، لكن الحقيقة تقتضي الوقوف أمام العامل الذاتي وفعله.

تحمّل سكان الغوطة ما لا طاقة لمعظم البشر به، صبروا وصمدوا، قاوموا كل أنواع الموت والجوع والحصار، حتى بعد جحيم الإبادة الذي تواصل دون تقطّع، منذ بدايات شباط/ فبراير من دون وجود ملاجئ مجهّزة، حيث إن الأقبية التي هربوا إليها لم تحمهم من مفعول الصواريخ والبراميل والقنابل الفوسفورية والحارقة، ومع ذلك، ظلوا ثلاثة أشهر يواجهون الموت اليومي، وصوتهم العالي يُصرّ على البقاء والتمسّك ببيوتهم وأملاكهم وموطنهم، وكانت إرادتهم التي يُعلنون عنها في تواصل مباشر معهم ترقى إلى الفعل الخارق، لكن وقد نجح النظام في اختراقات واسعة، وفصل شمال الغوطة عن جنوبها، وحرق المناطق الزراعية التي كانت تشكل سلة غذائهم المحدود، بواقع عجز المجتمع الدولي عن فعل شيء ملموس، ورفض روسيا تطبيق القرار 2401 القاضي بهدنة لمدة شهر، وانسداد الأفق على أي مخرج، أجبر الكثيرين على قبول الخروج، وعقد اتفاقات برعاية روسية.

من جهة أخرى، بعيدًا عن واقع المجتمع الدولي وخذلانه، وعجزه عن القيام بخطوة واحدة توقف حرب الإبادة والتهجير؛ كان للعوامل الذاتية دورها في الواقع الحالي، ونخصّ بها واقع الفصائل العسكرية الرئيسة الثلاث التي تناحرت وتقاتلت طويلًا فيما بينها بخسائر ثقيلة، ونتائج أثقل تتعلق بطبيعة العلاقات البينية، بين قوى كان يُفترض أن تكون في جبهة واحدة لا العكس، وآثار ذلك الاقتتال على الحاضنة الشعبية، والروح المعنوية. وقد استمرت مفاعيل الصراع قائمة حتى الساعة، حيث فشلت كل الجهود والمحاولات لتوحيد العمل، وتشكيل غرفة عمليات موحّدة، والتنسيق بين قطاعات الغوطة الشمالية والوسطى والجنوبية، وبرز الإشكال بوضوح أكبر، في مشاريع المفاوضات مع الروس وتوسيط الأمم المتحدة، وبعض الأشخاص والجهات. لم تتوافق الفصائل على مبادرة مشتركة، وإن أرسلت بعض الرسائل الجماعية، ولم يقبلوا بمرجعية سياسية تتولى التواصل مع المجتمع الدولي، وتحمل مبادرة موحدة، عدا عن آثار هذه الحالة على الحاضنة الشعبية التي عانت من غموض وجهل ما يجري وسط بحر من الشائعات المُحبطة، والقصف الجهنمي اليومي، ووصول الأمور إلى اتفاقات منفردة في حرستا من قبل (فيلق الرحمن)، وفي الوسط عبر (أحرار الشام)، بينما لم يصل (جيش الإسلام) إلى اتفاقية شاملة مع الروس.

الغوطة خسارة كبيرة للثورة، وفقدان لأهم المناطق المحررة التي كانت في خاصرة النظام، وكانت عاملًا مهمًا في الوصول إلى دمشق، خاصة عندما كان ذلك يبدو متاحًا، وبذلك يمكن تفسير مستوى العنف الذي مورس على الغوطة. وبفرض أمر واقع جديد عليها، تكثر الأسئلة حول المصير القادم، بين إخراج كافة المقاتلين وعائلاتهم وترحيلهم للشمال، وتغيير ديموغرافي يجد امتداده فيما يجري في الغوطة الغربية وريف دمشق، والعمل على تحويل هذه الكتلة البشرية الكبيرة إلى ملحقين بالنظام، عبر ضخّ إعلامي منهّج، واستغلال الأخطاء، وواقع الحصار والجوع والموت، وآثاره في أحوال المواطنين.

في المقابل، هناك من يرى في عفرين انتصارًا ساحقًا، بطرد قوات (بي واي دي) وتحريرها منهم ومن مشروعهم الخاص، وهناك من يريد أن ينسب هذا إلى (الجيش الوطني الحر) الذي، بالرغم من إسهاماته المعتبرة في العمليات العسكرية، وتقدّم الصفوف، يبقى دوره محدودًا، ضمن الخطة التركية للتحرير وفيما يلي ذلك.

لا شكّ أن النجاح التركي كان كبيرًا، بالنظر إلى المدة والخسائر، وتجنيب عفرين والقرى التابعة لها عمليات التدمير الشامل، كالذي فعله ويفعله الروس والنظام، والتحالف الدولي في مدن سورية ومناطقها التي تعرّضت لحرب إبادية شاملة، وهذا يفسر تأخر الروس في سير العمليات، وممارسة الضغط الثقيل لإجبار قوات (قسد) على الهروب، وتجنيب المواطنين المذابح الكبيرة.

حدثت تجاوزات، وأعمال “تعفيش” ونهب، وتقول الحكومة السورية المؤقتة إنها ستُعالجها عبر محكمة تنظر بسرعة بكل فعل يُخالف التعليمات، كما أن تركيا تقول إنها تولي أهمية خاصة لضبط الأمن، وإعادة المسروقات إلى أصحابها، وتوفير شروط الأمن لعودة أهالي عفرين إليها، بالتعاون مع (الجيش الوطني الحر) الذي ساهم في المعارك.

تستنهض الغوطة المغدورة ضمائرنا لفعل المطلوب في المرحلة القادمة، والتركيز على التواصل مع الناشطين لتبقى الثورة مستمرة وسط مناخ ملائم، بينما تمثل عفرين التحدي الحقيقي والمدخل. التحدي في توفير شروط نجاح إدارة المنطقة من قبل سكانها، وعبر مجالس محلية منتخبة تمثل جميع فعاليات عفرين وقراها بكل التفرّعات الكثيرة اللازمة.

إن النجاح في إدارة المنطقة، وتوفير الأمن ومتطلبات الاستقرار والعمل، ستتجاوز عفرين إلى عموم الوطن السوري، خاصة في المناطق المحررة، وتلك التي ستُطهّر من التنظيمات الإرهابية، وهذا المدخل يمكن أن يكون طريق الثورة القادم، بشكل رئيس، إلى تشكيل المعادل الخاص بالثورة، وخوض العملية السياسية بشروط مختلفة تملك فيها أوراقها على الأرض، وتحوّل واقع اليأس، والإحباط إلى دينامية جديدة، تعود فيها الثورة إلى أصولها الشعبية، السلمية.


جيرون


المصدر
جيرون