on
إيران وسراب «الهندسة الإقليمية»
مرّة بعد أخرى يتأكّد أن مقالات محمد جواد ظريف في بعض المنصّات العربية لا تعدو كونها مجرّد ثرثرة متذاكية، بدليل أن لا أثر لها في السياسات الإيرانية طالما أن صاحبها لديه منصب حكومي، وليست الكتابة صفته الأولى المعروفة. وعلى افتراض أنه يعبّر عن «رأي شخصي» فإن مواقف ساسة آخرين تقلل مما يقول وتهمشّه، بل لعلها توضح أن رأي الوزير لا يعتدّ به، كونه ليس من صانعي السياسات. والأهم أن التجربة والمعاينة أثبتتا بما لا يدع مجالاً للشك، منذ انتخاب حسن روحاني رئيساً عام 2013، أن الحكومة معنيّة في الشأن الخارجي بالعمل على رفع العقوبات وإبرام عقود وصفقات ومحاولة اجتذاب استثمارات مع أي دولة غربية لا تضع إصلاح النظام الإيراني وتغيير سلوكه الإقليمي بين أولوياتها. أما بالنسبة إلى العالم العربي، وبالأخص إلى الجوار الخليجي، فلا الحكومة ولا وزارة الخارجية مخوّلة التصرّف أو الاجتهاد لـ «تحسين العلاقات». وإذا كان نجاح المساعي مع العالم الغربي ظل في أضيق نطاق ولم يحقّق أهداف النظام، فإن «النجاح» عربياً اقتصر على اختراق البلدان التي ساهمت إيران في زعزعة استقرارها وتدمير مدنها واقتصاداتها.
في الأعوام الثلاثة الأخيرة لم يعد النظام الإيراني يميل إلى إخفاء أدواره التخريبية، بل بات عسكريّوه ورموزه وعناصر حرسه «الثوري» أكثر ظهوراً وإصراراً على علنية سياساتهم، وبالتالي لم يعد النظام بحاجة إلى جهود «اللطافة» التي يبذلها ظريف كما لو أنه رجل «علاقات عامة» لبلاده. لذلك يُطرح السؤال: لماذا يكتب طالما أنه يعرف قبل قارئيه أن ما يكتبه لم يعد له معنى، بل بات يعني العكس تماماً. ففي زمن مضى كان بإمكانه أن يُشهر العلاقة بين «الثورة الإسلامية» والقضية الفلسطينية كعنوان للتعاطف والمؤازرة، لكن النتيجة العملية لهذه العلاقة كانت مشابهة لما فعلته إيران في أي بلد استهدفته في تعايش أبنائه ووحدته الوطنية، إذ بثّت الانقسامات وعمّقتها وسعت إلى مأسستها ليصبح ذلك البلد أداة في يدها ومجرّد ورقة في مشروعها. وفي الحال الفلسطينية تحديداً فإن الفارق الذي صنعه الإيرانيون أنه قسم شعباً في حاجة ماسّة إلى وحدته من أجل قضيته، فكان أن صبّ التدخل الإيراني في مصلحة إسرائيل أولاً وأخيراً. إذاً فهذه أصبحت ورقة محروقة، ولعلّها «أم الأوراق» التي تبعتها كسوريا والعراق واليمن، فضلاً عن البحرين ولبنان.
مع ذلك يذهب ظريف بعيداً في تجاهل الواقع لترويج نسخة فيها ما فيها من خداع واستفزاز عمّا يتخيّله عن استقرار المنطقة و«الأمن المشترك» مع العرب. فالسيناريو الأفضل عنده كان لتلبية «الدعوات» الإيرانية لـ «الحفاظ على الجيرة والأمن والمصالح»، وما دام العرب لم يتعاملوا مع هذه الدعوات فإنه يحمّلهم مسؤولية «تغليب منطق المواجهة» في ما سبق وما سيلحق. أي بكلام آخر، أخطأ العرب بعدم ترحيبهم بـ «تصدير الثورة» المثبت في الدستور الإيراني، وبعدم اعترافهم بسيطرة إيران على «العواصم العربية الأربع»، وبعدم تقديمهم الولاء لـ «الإمبراطورية الفارسية»، وبعدم استجابتهم للشحن المذهبي الحاقد، وكذلك برفضهم عقلية حربي «داحس والغبراء» و«البسوس» اللتين يشير إليهما «ظريف»، وكأنه يبرّئ نهج «تصدير الثورة» منهما. فكل ما سبق من إغفالات «ظريفية» يمحو تلقائياً كل ما حاول التبشير به في ما سمّاه «الهندسة الإقليمية الجديدة» التي تقترحها إيران، خصوصاً أنه ضمّنها كل المبادئ التي لم تبرهن طهران طوال أربعة عقودها أنها تحترمها.
ليس فقط أن إيران ليست الجهة المؤهّلة لطرح تلك «الهندسة»، بل إن شرطها اللازم والوحيد أن تتمكّن إيران من إصلاح وضعها الحالي كدولة غير طبيعية، ومن الواضح أنها لم تعد قادرة على ذلك. ولعل الأهم أنها باتت مدركة أن «الهندسة الإقليمية» لم تعد شأنها وحدها، كما تخيّلتها حين باشرت مغامراتها. فمن الواضح أن تمدّداتها في الإقليم بلغت ذروتها، لكن عدم اليقين يدفع بالعديد من ساستها إلى المطالبة بعدم إضاعة «الاستثمار» في سوريا، وإلى مراقبة التحوّلات، ولو البطيئة في العراق، وإلى ضرورة السيطرة على البرلمان اللبناني، وإلى إدامة الحرب في اليمن… لكن كل شيء توقّف عند أعتاب الخليج العربي، ومنذ إفشال التمدّد الإيراني إلى البحرين وإجهاض مفاعيله في اليمن، أصبحت هناك معادلة جديدة في المنطقة اضطُرّت إيران إلى مراجعة حساباتها، إذ لا يمكنها تغييرها بـ «حروب بالوكالة» ولا خرقها من دون أن تتضرّر مباشرة. فأي حرب لا تقتصر حرائقها على طرف واحد.
(*) كاتب لبناني
الاتحاد
المصدر
جيرون