الإرهاب والشعبوفوبيا.. تاريخ بلا نهاية



مفهوم الإرهاب من أكثر المفاهيم غموضًا في التداول السياسي اليومي، في النزاعات الداخلية والدولية، فكل طرف يتهم الطرف الآخر بالإرهاب، لتبرير ممارساته في القتل التي تبلغ مستوى جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية، حسب القانون الدولي الإنساني. ويراد دائمًا من هذا الالتباس المفاهيمي تبرير ممارسات دولة قوية ضد دولة ضعيفة، وممارسات دولة احتلال ضد دولة محتلة أو شعب تحت الاحتلال، وممارسات سلطة متغولة ضد شعبها، وترك دائمًا مساحات واسعة لإثارة الصراعات وتأجيج مشاعر الحقد والكراهية، عوضًا عن مشاعر الوئام والسلام.

لقد التصق مفهوم الإرهاب بالإسلام، تزامنًا مع تفكك الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة والقطبية الثنائية، وبدء مرحلة جديدة تتفرد فيها الولايات المتحدة الأميركية بمصاير العالم. ولم يكن تبني منظمة القاعدة صدم طائرتين مدنيتين ببرجي مركز التجارة العالمي في منهاتن، وصدم ثالثة بمبنى البنتاغون عام 2001 من قبيل الصدفة، إنما كانت عملية إرهابية عملانية لترسيخ مفهوم عن نهاية التاريخ، كما يراه فرانسيس فاكوياما -وهو منظر السياسة الخارجية الأميركية عقب انهيار المعسكر الشيوعي من أصل ياباني- فحواه الانتصار النهائي لليبرالية الغربية، بجناحيها الأطلسي والآسيوي، في مقابل قفلة الماركسية للتاريخ بالشيوعية. لقد بدأت قصة الإرهاب من ها هنا، وتحديدًا من إعلان فاكوياما حرب الليبرالية الغربية، بعيد انهيار الشيوعية، على عدوها الوحيد الباقي وهو الإرهاب الإسلامي، من دون تحديد ما هو الإرهاب وأي فعل ينطبق عليه هذا الوصف.

الإرهاب -بجملة واحدة- هو “كسر إرادة فرد أو جماعة أو دولة أو شعب، من قبل فرد أو جماعة أو دولة أو شعب، بواسطة ما يملك من فائض قوة“؛ فاستعمال فائض القوة الجسدية من قبل الزوج على زوجته هو إرهاب. واستعمال السجان فائض قوته على السجين هو إرهاب. واستعمال جماعة مسلحة فائض قوتها ضد جماعة غير مسلحة هو إرهاب. واستعمال دولة فائض قوتها العسكرية ضد دولة لا تضاهيها قوة هو إرهاب. واستعمال دولة احتلال فائض قوتها ضد دولة محتلة أو شعب أعزل تحت الاحتلال هو إرهاب، واستعمال سلطة متغولة على شعبها فائض قوتها ضده هو إرهاب. والقمع والقهر والظلم والإقصاء والإلغاء والاستبداد… كلها إرهاب؛ كونها لا تصدر إلا عمن يملك فائض قوة.

إن الاستخدام الضبابي لمصطلح الإرهاب، خارج إطار هذا المفهوم، يقود حتمًا إلى مساواة غير عادلة، بين من يدفع عن نفسه القتل بوسائل قوة دفاعية تافهة، ومن يهاجم بأحدث وسائل القوة فتكًا وتدميرًا. وبالنظر إلى معادلات الإرهاب التي أحد طرفيها (إسلامي)، منذ إطلاق قصة الإرهاب والإسلاموفوبيا؛ نجد أن الطرف الإسلامي هو الطرف الذي لا يملك فائض قوة، في مواجهة فائض قوة يملكه الطرف الآخر.

مما يثير التساؤل، لماذا اختيرت “القاعدة” -وهي في الأساس تنظيم إسلامي صناعة أميركية، وجد لتعبئة المسلمين في مواجهة رياح الشيوعية القادمة إلى العالم الإسلامي من أفغانستان- كي تبدأ معها الألفية الثالثة بقصة الإرهاب والإسلاموفوبيا، بزخم أشد من زخم اجتياح القومجي صدام حسين للكويت الغنية بالنفط، والذي تزامن مع نهاية تاريخ فاكوياما، وانتهى بعد عمليات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، باحتلال العراق وشنق صدام حسين عشية عيد الأضحى العيد الكبير عند جميع المسلمين؟

لم يكن انهيار النظام الشيوعي، على أعتاب الألفية الثالثة، مجرد نتيجة منطقية لاختلال ميزان القوة بين معسكرين إبان الحرب الباردة، أو نتيجة مؤامرة عليه -كما يدعي البعض- فهذا هراء، إنما هو نتيجة منطقية لحالة استعصاء تاريخي، بلغها الاستبداد الشرقي في أبشع صوره في الاتحاد السوفيتي، بانفضاح لبوسه “الإنسانية” التي حَمَّلَها على ماركسية نظرية، وأسقطها عن منهجها العلمي المستند إلى جدلية التطور. هذا الاستبداد هو ذاته مسلط على رقبة شعوب (الفالق الإسلامي) -المنطقة الممتدة من أفغانستان شرقًا حتى المملكة المغربية غربًا- الذي يحمل بصمة جيواجتماعية واحدة، تنذر بانفجار محتوم نظرًا إلى حاجة شعوبه للتحرر من نير الاستبداد وتبعاته التدميرية للذات الوطنية. وربما من قبيل صدف التاريخ أن تكون أفغانستان مجمع المتناقضات، الليبرالية والشيوعية والإسلام، يبدأ التاريخ فيها قصته الإرهاب والشعبوفوبيا، ويختمها على نحو سبرتراجيدي في الربيع العربي.

إن الصراع بين الشرق والغرب لم يأخذ صبغة أيديولوجية، بقدر ما تأثر بالمصالح الاقتصادية والجيوسياسية، وكانت خيارات الشعوب، بين الشيوعية والليبرالية والإسلام، ثانوية في أولوية المنافع والمصالح والمكاسب للدول والحكومات. كما كانت تحالفات الدول تقوم بالظاهر على أيديولوجية مشتركة، لكنها في الباطن على مصالح مشتركة، وما إن تتغير المصالح حتى تتغير التحالفات، ولا يبقى من التحالفات السابقة سوى أيديولوجية مشتركة، تقبع تحت قشرة المصالح، تتحين أي فرصة تتغير فيها التحالفات، لكي تخرج إلى السطح من جديد. إن كل اشتراكيات الشرق تشبه الحمل الكاذب خارج رحم الشيوعية السوفيتية، وكل ليبرالياته تشبه الولادات المتعسرة لأجنة تولد مشوهة من رحم الليبرالية الغربية. فلا الماركسية استطاعت إنتاج اشتراكيات قابلة للحياة، في بيئات خارج منظومة المركزية الأوروبية، والتي كان ماركس نفسه يقدّر أن التناقض، بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، يأخذ مداه في واحدة أو أكثر من دولها، ويقود حتمًا إلى الانتقال نحو الشيوعية، مع أن التناقض، عندما يبلغ مداه، قد لا يولد تشكيلة اقتصادية-اجتماعية جديدة، إنما قد يطور التشكيلة السائدة نفسها. ولا الليبرالية تمكنت من إنتاج رأسماليات تشبه رأسماليات المركزية الأوروبية، لأنه في الحالتين لم تقم في دول الفالق الإسلامي نهضة صناعية، تتيح تطور قوى الإنتاج باتجاه أي من العلاقات الإنتاجية الاشتراكية أو الرأسمالية، على عكس دول أوروبا الشرقية مثلًا، التي كانت شعوبها تواقة للتحرر من الاستبداد السوفيتي، وفي الوقت ذاته تنشد التغيير الديمقراطي، ولديها قاعدة صناعية بنتها قبل وبعد تموضعها في حلف وارسو الشيوعي، عدا عن مجاورتها اللصيقة لأوروبا الغربية، وما يعنيه احتواؤها من أهمية استراتيجية لأوروبا، كونها امتدادًا طبيعيًا لها، وفي الوقت نفسه تفصلها عن روسيا التي فشلت في أن تكون ليبرالية.

ومن سخريات مفهوم الإرهاب آنف الذكر، أن الدول التي تمتلك فائض قوة: (فيتو) في أعلى سلطة دولية (مجلس الأمن)، تمارس إرهاب الدولة عندما تستعمل فائض قوتها، إما لتحقيق مصلحة لنفسها أو منع مصلحة عن غيرها، وبالتالي من غير المأمول أن يقف إرهابي ضد الإرهاب، أو يحرك دعوى جنائية ضد إرهابي آخر يرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية… إلا إذا توافقت مصالح الفيتويين الخمسة، عندئذ ربما تصبح حمامة سلام في نظرهم إرهابية بامتياز.

في الفالق الإسلامي، وأمام هذه اللوحة الكاريكاتيرية، بقي الإسلام الموروث الثقافي الوحيد منتجًا أصليًا لا يبرح ذهنية المسلمين حتى أولئك الذين يحملون أيديولوجية أخرى، ماركسية كانت أو ليبرالية أو قومية أو غيرها. وعند أول خطر شيوعي على بلد مسلم؛ تمكنت الليبرالية الغربية من تعبئة المسلمين في تنظيم القاعدة، لمواجهة خطر الشيوعية التي صُوِّرَت للمسلمين على أنها بديل للإسلام، ولا تعفى الشيوعية السوفيتية من مسؤوليتها عن تثبيت هذه الصورة النمطية في الذهنية الدينية عمومًا، والإسلامية على وجه الخصوص، نتيجة ممارساتها العدوانية تجاه الأديان.

لقد انتصرت الليبرالية الغربية في معركتها الحضارية مع الشيوعية السوفيتية، وسرّ نجاحها يكمن في اعتمادها على المنهج العلمي المستند إلى جدلية التطور التي تتيحها ديمقراطيتها، وتؤمنها دينامياتها في التغيير رغم عدم ماركسيتها، ولكن ذلك ليس فضلًا من السماء، بل من عند الفلسفة الألمانية (من جدل هيغل ومن جدل ماركس) وهذا ما لا ينكره التراث الفكري الإنساني، هذا عدا عن تجنبها السقوط في أسر دغمات نظرية تجاوزها الزمن. بهذا الانتصار؛ لم يعد ثمة خطر شيوعي، فتوجهت أنظار الاستراتيجيين الغربيين إلى خطر الإسلام السياسي: القاعدة وتفرعاتها من باب الإرهاب، والإسلام الديني من باب الرهاب (إسلاموفوبيا). وفي الحالتين الهدف هو صناعة عدو، وإن كان من لدن صديق، لإبقاء المنطقة تدور في دوامة الخيارات غير المحسومة، ويبقى ارتباطها عضويًا بالمصالح الغربية، سواء الاقتصادية (نفط، سوق، عقول، تكنولوجيا..) أو الجيوسياسية (موقع، إسرائيل، تسليح، تحالف..). والإرهاب والرهاب الإسلاميان أداتان نافذتان، تستخدمهما الليبرالية الغربية لإعاقة شعوب الفالق الإسلامي من دخول نادي الليبرالية، بعد إغلاق نادي الشيوعية، وحرمانها إمكانية التفاوض معها على المصالح بندية. وفي الوقت ذاته تؤدي شيطنة الإسلامويين إلى خيبة أملهم في قيام حاكمية الشريعة، كما يتصورونها كنهاية لتاريخ أمتهم الإسلامية.

لقد أصبح من شبه الثابت استخدام الإرهاب غير المعرف دوليًا؛ لتعطيل أي ديناميات للتغيير في دول الفالق الإسلامي، سواء من قبل الليبرالية الغربية لتخوفها من أي تغيير على مصالحها، أو من قبل الاستبداد الشرقي الذي يُؤْثر التعايش مع مصالح دولية متضاربة، على حساب مصالح شعوبه. وكما انساقت الأنظمة الصديقة للشيوعية السوفيتية في الحرب الباردة ضد الخطر الشيوعي، تنساق الأنظمة الصديقة لليبرالية الغربية، في الحرب الساخنة ضد الليبرالية في دول الفالق الإسلامي. وبين الإرهاب كفعل فردي أو جماعي أو دولي، والرهاب من ردة فعل الشعوب الطامحة للتغيير الديمقراطي؛ تفقد الليبرالية الغربية وهجها في منطقة الفالق الإسلامي، كما فقدته الشيوعية قبلها، ولربما يبلغ الوضع منعرجًا قد ينذر في المستقبل بارتدادات جيواجتماعية، بلبوس ديني وعرقي على طول الفالق، ما لم يحدث تغيير جوهري في الوعي الجمعي لليبرالية الغربية، بعلاقتها مع الإسلام وشعوب المنطقة، ليس من باب قصة الإرهاب السمجة، ولا من باب الشعبوفوبيا التي تتناقض كلية مع جوهر الليبرالية، إنما من باب حق هذه الشعوب في التنعم بالحرية، السياسية والاقتصادية، وبالعدالة الاجتماعية. وبالكرامة الإنسانية، التي تنعم بهما شعوب الليبرالية الغربية، بجناحيها الأطلسي والآسيوي، ومن جهة أخرى لا تستطيع شعوب المنطقة حسم خياراتها التي تراعي خصوصياتها إلا في بيئة ليبرالية وتشاركية، ليس فيها إقصاء أو إلغاء..

إن الليبرالية الغربية، بتنوعها ودينامياتها، هي الوحيدة القادرة على فرض أو تسهيل تغيير جوهري في منظومة الاستبداد الشرقي، وإلا؛ فإن الإرهاب والرهاب الإسلاميين اللذين اخترعتهما سيطعنانها بالظهر، في عقر دارها الأطلسي والآسيوي. وفي الوقت ذاته، هي مدعوة إلى ترك أبواب ونوافذ الإنسانية مشرعة، كي يتوزع من خلالها النور، في جميع الاتجاهات الزمكانية، من دون قفلات ماركسية أو فاكويامية أو إسلاموية للتاريخ.


مهيب صالحة


المصدر
جيرون