حماة الديار أم الجيش العقائدي؟



فتحت الثورة السورية التي انطلقت في آذار/ مارس 2011، بكل ما لها وما عليها، أمام المواطنات والمواطنين السوريين بوابة أمل، ومكنتهم من استعادة أحلام التغيير، أسوة بما حدث في تونس ومصر، وما أصبح مشروعًا في أكثر من دولة.

إلا أن تعقيدات الحالة السورية وضعت مطالب التغيير في مواجهة استحقاقات، لم تعرفها الحالتين التونسية والمصرية، وأجّلت سقوط النظام طيلة هذه السنوات، تتمثل أولى هذه التعقيدات بالانقسامات العمودية في المجتمع السوري، وهي تُشكّل، بعكس الانقسامات أو التصدعات الأفقية، دورًا معيقًا لأي حركة تغيير أو ثورة. إضافة إلى الديماغوجيا التي حافظ النظام على تصديرها، بأنه قطب المقاومة والممانعة الوحيد في المنطقة ضد مشاريع الإمبريالية والصهيونية، وما يمكن أن يترتب على ذلك من علاقات ومواقف إقليمية ودولية، وبشكل خاص مع إيران وميليشياتها الطائفية، ومع الكثير من قوى اليسار العربي والعالمي التي ما زالت تدافع عنه، لكن العامل الأهم من كل ذلك يكمن في طبيعة علاقة هذا النظام بالمؤسستين العسكرية والأمنية.

الانقلابات العسكرية:

لفهم خصوصية هذه العلاقة، نتوقف عند بنية الجيش السوري الذي ورث عند تشكيله عام 1946، بطولات يوسف العظمة ومعارك الاستقلال، إلا أنه دخل بسرعة مع العقيد حسني الزعيم لعبة الانقلابات السياسية عام 1949، التي انتهت بالانقلاب العاشر الذي قاده حافظ الأسد عام 1970، وأطلق عليه اسم “الحركة التصحيحية”.

في تعليق لرجل القانون فارس الخوري، رئيس المجلس النيابي في سورية آنذاك، على انقلاب حسني الزعيم، اعتبر أن ذلك شكّل “أكبر كارثة تعرفها البلاد، بعد حكم تركيا الفتاة”، وجوهر هذه الكارثة التي أشار إليها الخوري، أنها أدخلت العسكر إلى ملعب السياسة، فأصبحت المؤسسة العسكرية تصنع الحكومات، وتضع الدساتير عبر سلسلة من الانقلابات، كان أخطرها انقلاب 8 آذار/ مارس 1963، الذي أنتج سلطة تحالف العسكر مع حزب البعث والأيديولوجيا القومية.

ويبدو أن أحد اللاعبين المهمين في هذا الانقلاب، من بين “ضباط المجموعة العسكرية” التي تشكلت زمن الوحدة في مصر، هو الرائد حافظ أسد الذي كان يدرك هذه المعادلة، واشتغل عليها بدأب في الانقلاب اللاحق شباط/ فبراير عام 1966، إلى أن استوت له الأمور في انقلاب تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، حيث تخلص الأسد الأب، عبر هذين الانقلابين، من كل قادة حزب البعث التاريخيين، كما تخلص من كل القادة العسكريين للصف الأول والثاني، ممن يمكن أن يشكلوا منافسين له، وبعد سنوات قليلة من الانقلاب الأخير، استطاع الأسد أن يزيح كل فريق الضباط الذين ساعدوا في حركته “التصحيحية”، لينتج في المحصلة الأخيرة سلطة سلالة ديكتاتورية فاسدة، أحلّت الحزب القائد محل الدولة، وتاليًا أحلّت القائد الشخص محل الحزب القائد، تيمنًا بالعقيدة السوفيتية التي شَبّكت معها نظم ما يُعرف بحركات التحرر العالمي، ومنها سلطة البعث طبعًا.

الجيش العقائدي:

خلال هذه الصيرورة الأخيرة؛ برز شعار “الجيش العقائدي”، وأصبح لزامًا على كل سوري يرغب في دخول إحدى الكليات العسكرية أن يكون منتميًا إلى حزب البعث، فالمؤسسة العسكرية تدين بولائها للحزب بصفته “القائد للدولة والمجتمع” معًا، كما جاء في المادة 8 من دستور 1973، كبديل عن ولائها للوطن، وانسجامًا مع قوننة دور ووظيفة الجيش المنصوص عليها في المادة 11 من ذلك الدستور، التي قضت بأن “القوات المسلحة ومنظمات الدفاع الأخرى، مسؤولة عن سلامة أرض الوطن، وحماية أهداف الثورة في الوحدة والحرية والاشتراكية.”

إلا أن هذه المؤسسة العسكرية التي أوكل لها الدستور “مسؤولية سلامة أرض الوطن وحماية أهداف الثورة في الوحدة والحرية والاشتراكية”، ابتعدت عن ذلك إلى حماية نظام الديكتاتورية والفساد، الذي عطل العمل حتى بالدستور الذي وضعه هو، وعاشت سورية، منذ انقلاب آذار/ مارس عام 1963 حتى 19  نيسان/ أبريل عام 2011، أي أكثر من 48 سنة مستمرة، تحت وطأة حالة الطوارئ، استعاض خلالها النظام عن الشرعية الدستورية لكل وجوده وإجراءاته، بالشرعية الثورية المستمدة من العقيدة السوفيتية، وبالتزامن مع إلغاء الحياة السياسية في سورية، ومصادرة كل الحريات العامة والخاصة، واحتكار كل مؤسسات الحكومة لصالحه.

ابتعد “الجيش العقائدي” كثيرًا عن الاحتراف والتراتبية العسكرية، وانتشرت بين الصف الأول من قياداته، وعلى مستوى متدنٍ من رتب الضباط أيضًا، مظاهر الولاءات الشخصية على أسس مناطقية أحيانًا، أو أيديولوجية في بعض الأحيان، وبظلال طائفية، كان يخجل السوريون من تسميتها، في كثير من الأحيان، أو من الاعتراف بها، حيث أطلقوا على إحدى تلك الظواهر اسم “حكومة عدس”.

هذه الولاءات وتلك الانقسامات جاءت على النقيض من أي بنية أو وظيفة أو هدف وطني، وكانت أحداث الثمانينيات، في حماة وحلب وإدلب، خير نموذج على ذلك، حيث زج النظام بالجيش في مواجهة تنظيم “الإخوان المسلمين”، مستخدمًا قطعات عسكرية خاصة كـ “سرايا الدفاع” و”سرايا الصراع” و”الوحدات الخاصة”، التي كانت تحتكر، دون باقي قطعات الجيش النظامي، امتيازات مهمة في التدريب والتسليح والرواتب أو المكافآت أيضًا، فاستسهلت تلك القطعات العسكرية إطلاق النار على المدنيين، ممن لم يحملوا سلاحًا أو لم ينتموا تنظيميًا، وحصلت نتيجة ذلك عدة مجازر جماعية، في مدن حماة وجسر الشغور، إضافة إلى مجزرة “سجن تدمر العسكري”، دون أن يتم توثيق أيّ منها من قبل المنظمات الحقوقية، ودون أن يتوقف عندها المجتمع  الدولي؛ ما منح المؤسسة العسكرية سمة طائفية بامتياز، في رؤية أغلب السوريين إليها.

تزامن هذا التحول في بنية ووظيفة المؤسسة العسكرية، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في سورية، التي أنعشت مظاهر وآليات الفساد حتى داخل المؤسسة العسكرية، فأصبحت تجد الكثير من الضباط الذين كانوا سابقًا يكتفون باستخدام المجندين في منازلهم، باتوا لا يترددون عن نقل مجموعات منهم إلى قراهم، للمساهمة في نشاطات زراعية، أو في مشاريع بناء خاصة بهم، أو بعائلاتهم أحيانًا، كما انتقلت إلى تلك المؤسسة العسكرية كل أمراض المجتمع السوري، من تمييز ومحاباة وفساد ورشوة وتطييف.

وانتشرت القصص عن ضباط يساومون عساكرهم على ثمن الإجازة، أو المبيت الليلي، حتى إن بعض المقتدرين ممن يساقون إلى الخدمة الإلزامية، أو ممن لديهم عمل يَدر دخلًا جيدًا، كان بإمكانهم البقاء في أعمالهم وبيوتهم، مقابل إتاوات شهرية وهدايا عينية تدفع للضباط. هذه الحالة، عززت بالمقابل، ظاهرة التخلف عن تأدية الخدمة العسكرية الإجبارية، لمن لا يملك سبيلًا إلى ذلك الفساد، حتى أصبحت قضايا الفرار من الخدمة الإلزامية تحتل المرتبة الأولى في القضاء العسكري، وكانت قوائم الفارين تتصدر، في كل مرة، أي عفو رئاسي، دون جدوى.

هذا “الجيش العقائدي” الذي بات مدجّنًا ومدرّبًا، فقط من أجل حماية ديكتاتورية النظام، ورأس النظام تحديدًا، هو من رفع شعار “الأسد أو نحرق البلد”، والذي على أساسه أطلق “حماة الديار” النيران على المتظاهرين أمام المسجد العمري في درعا، وفي كل سورية؛ لأن أطفالًا خطوا بأناملهم الصغيرة على أسوار مدارسهم: “الشعب يريد إسقاط النظام”.

السلام والرحمة لروح فارس الخوري الذي رحل عن دنيانا عام 1962، بحيث لم نقرأ فجيعته بالجيش العقائدي الذي قتل السوريين وهجّرهم ودمّر سورية.


أنور بدر


المصدر
جيرون