اعترفوا بهزيمتكم



بعد سبع سنوات من الثورة السورية، هل نعرف شيئًا عن فكرة المحاسبة، أو نقد الذات ومراجعة الأخطاء؟

أعتقد شبه جازمة أننا نهرب من فكرة المحاسبة تلك، فلو أن أحدًا من النخبة السياسية أو الثقافية فكّر فيها؛ فمن الأكيد أن لن يكون هناك وجود لكيان يحمل الائتلاف المعارض حتى اليوم، ولن نقرأ بوستات من شخصيات باعوا السوريين الشعارات والوعود الكاذبة، وتبوؤوا المناصب في الائتلاف أو الحكومة المؤقتة، ولما بقيت تلك الأسماء التي كتب عن فسادها مقالات وتقارير صحافية، وتناولتها السوشيال ميديا بكثافة، دون أن تكلف تلك الشخصيات نفسها عناء الرد أو التبرير، وبالطبع بلا أي ردة فعل من الكيان السياسي الذي ينضوون جميعهم تحت اسمه.

لو أننا لم نهرب من فكرة مواجهة الذات؛ لما صدقنا تصريحات “فيلق الرحمن” الإعلامية، وشعاراته الرنانة إلى ما قبل سقوط مناطقه بيد النظام وروسيا، وبعد سقوط المئات من الشهداء، والآلاف من المشردين والمرحلين والمهجرين.

هل قرأ أحدنا الأرقام التي أقلّ ما يمكن أن توصف به أنها صادمة وفاجعة؛ إذ خرج نحو 100 ألف مُهجّر من الغوطة إلى مناطق النظام، بحسب أرقام الأمم المتحدة، وفضّل 37 ألفًا منهم البقاء في مناطقهم التي دخلها النظام، بينما اتجه 24 ألفًا إلى مناطق المعارضة، وغني عن القول أن أهل الغوطة باتوا يعرفون، من تجارب من سبقهم من المهجرين، أن الجملة الإعلامية الاحتفالية والفجائعية بهم ستنتهي سريعًا، بمجرد وصولهم إلى مناطق المعارضة، وتقارير تقديس بطولاتهم التي امتلأت بها الشاشات السورية والمواقع الإخبارية، ستتحول إلى تجاهل وضرب من النسيان، والذين بدؤوا حملة التسول باسمهم لجمع الأموال سيجدون ضحية أخرى للتسول باسمها والصعود على كتفها، ومن ثم سيكون على أهل الغوطة مواجهة الحقائق على الواقع، ولهم في أهل الزبداني والمعضمية وداريّا ومضايا عبرة، إذ غاب ذكرهم عن الإعلام وطويت قضيتهم، ولعل الصور القادمة من إدلب لافتراش أهل الغوطة الأرض، لعدم قدرة المدينة وريفها على استيعاب المزيد من المهجرين، تتحدث عن الواقع الذي ينتظر الخارجين من الأقبية، ولولا المبادرات الفردية لأهل تلك المناطق التي تستقبل المطرودين من بيوتهم؛ لكانت حياتهم أسوأ بكثير، طبعًا مع انشغال حكومة الإنقاذ باللباس الشرعي.

لو أننا نقبل أن نقف أمام المرآة قليلًا؛ لما سمحنا لأنفسنا كإعلاميين على ترداد شعارات الفصائل، ولما شجعنا الانتصارات الكاذبة، ولما وجدنا المبررات للاقتتال المباشر بين الفصائل في الشمال السوري، وبالتأكيد لما تناولنا فيديو قبنض بسخرية عارمة، وتجاهلنا حقيقة أن أهل الغوطة اليوم محكومون من قبنض وأمثاله، لقد سخرنا منه، وهذا حق، لكن هل كانت سخريتنا لأنه يستحقها، أو لأننا نريد الهروب من واقع بقاء رئيس قبنض سعيدًا بقبنضه، وهو يستغل الناس؟

من حكم الثورة؟

مَن تفاوض في أستانا باسم الثورة هم العسكريون الذين سلّموا مناطقهم في حمص القديمة وحلب، ومن ترأس وفد أستانا هو طبيب ترأس الحكومة المؤقتة، وما يزال مسؤول الإعلام لدى الائتلاف السوري المعارض ملتصقًا بكرسيه ومنصبه، على الرغم من أنه لم يتقدم بإعلام المعارضة خطوة واحدة، على العكس بقي إعلام الائتلاف “من المفروض أنه يمثل إعلام المعارضة”، بقي حجريًا قديمًا مرهونًا بعبارات خشبية، بلا طائل ولا أي معنى.

النظام حصل على بثينة شعبان التي يتسابق إعلام المعارضة في السخرية منها وشتمها، ولكن المعارضة لم تحصل على أي شخصية، نسائية كانت أم غير نسائية، تقتحم الإعلام الغربي، وتوصل صوت أشرف وأغلى ثورة بالتاريخ لجهة كمية الدم التي أريقت في جوانبها.

نعم، فلنقف قليلًا ونعترف بالهزيمة، ونواجه أخطاءنا ولا نرميها على الآخر. ومن ثم يمكن لنا أن نتابع ما بدأناه في هذه الثورة.

هل يستطيع من سيطر على إعلام ومنابر الثورة، من “سياسيين وعسكريين وصحافيين ومثقفين”، أن يعترفوا بالهزيمة، وهم بعد طول الممارسة لصنعة الكلام يصدقون أن الشعب يصدق أن “الحكي من ذهب”. هل سيدركون يومًا أن بيانات “فيلق الرحمن”، وبيانات “جيش الإسلام”، وصرخات التكبير والجهاد، والاحتفالات بعيد الثورة، والشعارات الرنانة، والصمود الأسطوري، والحرية التي للأبد، وتعبير “بشار الأسد الجبان” في الغوطة، والصراخ أمام الشاشات، والتلاسن في الاجتماعات، وغير ذلك من أساليب التجارة الكلامية يندرج تحت عنوان “الحكي ببلاش”.

عليهم أن يجيبونا على:

هل كان على أهل الغوطة أن يجوعوا ست سنوات، وأن يتحملوا صراعات الفصائل، هل كان على أهل الغوطة “بيت الثورة الحقيقي” أن يعيشوا رعب القصف والمجازر والكيمياوي الأسدي، هل كان علينا أن نسكت عن تجاوزات تلك الفصائل وتجار الغذاء والدواء والماء بحق السكان هناك، هل كان على السوريين أن يتحملوا تشبيح تجار الكلام، وهم يخونون ويكفرون كل من ينتقد تلك الفصائل والتجار، هل كان على السوريين أن يشاهدوا فيديو محمد قبنض، وهو يستمتع بإذلال الخارجين من الغوطة، هل كان علينا أن ننشر صور أهلنا في الغوطة، وهم يتسابقون إلى سندويشة، هل كان علينا كل ذلك لنعترف بأننا هزمنا!

الهزيمة الكبرى، المجلجلة، أتت من الغوطة.

هي الغوطة الصامدة ذاتها، والغوطة الجائعة ذاتها، والغوطة ذاتها التي تغنى بها الصحافيون والناشطون، الغوطة ذاتها التي كان صحافيو الفصائل يتغاضون عن مظالمهم، في سبيل القوة التي تمنحها تلك الفصائل لمن يدافع عنها إعلاميًا، الصحافيون ذاتهم الذين هاجموا كل من قال إن “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن” يمعنون في ابتزاز السوريين تحت اسم “ثوار”. الغوطة ذاتها التي خرج أهلها باتفاقات فردية، كان الهدف منها حفظ بعض الرؤوس، بعد أن استشهد 1500 من أهلها في أسابيع ثلاثة.

الجميع اشترك في جريمة الأسابيع الثلاثة الأخيرة: الفصائل داخل الغوطة، المعارضة السياسية التي دبجت بيان الصمود إثر البيان، الإعلام والإعلاميون الذي تحولوا إلى نوّاحات، استخدموا أسلوب التسول وأسلوب الشعارات الرنانة، الجميع اشترك في جريمة الغوطة، نحن كلنا مجرمون، كل من كذب، وكل من قال صامدون، وكلّ من خاف، ولم يعترف باستخدام “فيلق الرحمن” للرصاص الحي لتفريق تظاهرة، خرجت في الغوطة، لتطلب الخروج من الموت المتهافت هناك.

الهزيمة الكبرى في الغوطة بدأت بالتجاهل الكامل لكل الحقائق على الأرض، خلقنا عالمًا وهميًا واستمتعنا باختلاق الأكاذيب التي ترضي غرورنا، وكم كلفنا هذا الغرور في الغوطة، مئات الشهداء، آلاف المقهورين، أطفال يحتاجون إلى سنوات طويلة لاستعادة بعض التوازن النفسي، أين هم قادة الفصائل اليوم، ينتظرون روسيا أن تتنازل وتقبل التفاوض معهم. نعرف ويعرف العديد من الصحافيين أنهم توسلوا للوصول إلى أي نوع من أنواع الاتفاقات، ولكن النظام هو من كان يرفض، كان مدركًا تمامًا أنه سينتصر انتصارًا ساحقًا في الغوطة، سيهزم ثورة كانت لا تزال تجد في أهل الغوطة “وليس فصائلها” حضنًا دافئ، هل تعرفون لماذا كان متأكدًا؟ لقد رأى منهجه في تجبر قادات الفصائل، لكنهم لا يملكون خبرة 40 سنة، في التمسك بقوة السلطة عبر الفساد والظلم مثله.

تهاوت مدن الغوطة واحدة تلو الأخرى، وبقي إعلام المعارضة رافعًا مخلصًا للشعارات، بعيدًا عن الحقيقة، ولا يزال الجميع يكذب على الشعب، ويرفع علامة النصر، فوق جثث الناس التي خرجت من الأقبية إلى مراكز الإيواء، وفوق دم من استشهد ثمنًا لمكاسب قيادات الفصائل أمراء المعابر.

سقطت الغوطة، لأن من أسس مؤسسات وهيئات الثورة استطاع من أول يوم زرع الفشل فيها، فلم تقم على أساس مطلب السوريين، وهو الحرية والديمقراطية والكرامة، بل قامت على أساس الدكاكين والولاءات والحصص والممولين.


هنادي الخطيب


المصدر
جيرون