رائحة الزمن المغلق



يغلف ضباب كثيف وغموض، أجواء المدينة التي يخترقها نهر من العتمة، والوحول. ثمة مياه عكرة في مجرى النهر، وأنا وحيد أعوم في الظلام. فجأةً تنبثق حولي مئات الوجوه الهائمة. شاحبة اللون، تتحرك بفعل التيار الذي يجرفها. حركة الأجساد كانت على شكل موجات عشوائية. بعضها ينسجم مع مجرى النهر، وبعضها الآخر كان يصارع عكس التيار. هناك دوامات في جوف النهر، كانت تبتلع بعض الأجساد التي تحاول ما استطاعت الكفاح كي تنجو بأرواحها.

لفتني شخص كان يصارع الدوامة، للعبور إلى الضفة الأخرى للنهر، حيث كانت تقف امرأة، خُيل إليّ أني أعرفها، بل أشتهيها بكل ما لدي من توق للمتعة، والطغيان. لم تكن المسافة بيني وبين الآخر كبيرة. كنت –أيضًا- أحاول العبور إلى تلك النقطة. انتابتني مشاعر متناقضة تجاه الرجل، وكأن لعبة خفية بدأت بيني وبينه، في التسابق للوصول إلى تلك المرأة التي بدت طيف حلم.

تطور الصراع بيننا. ارتديت أمامه وجه الجرأة، وأعلنت شعار “المقاومة”. لا أعرف إذا انطلت حيلتي عليه، ولم يهمني أن أعرف. سخرت منه في داخلي، لأنه أظهر خوفه، واستغاث بي. خوفي المغلف كان أكثر حدةً وسوادًا، لكني كنت أكثر حنكةً، وأسرع منه في ارتداء القناع. بدأت ملامح الرجل تغيب، وقواه تضعف، وهو يصارع الدوامة للعبور إلى الضفة الأخرى للنهر. اختلطت مشاعري تجاهه، بين الود تارةً، والرغبة المضمرة في إيذائه تارةً أخرى، لكن ضميري لم يطاوعني أن أتركه لمصيره. مددت يد المساعدة له، على الرغم من يقيني أنه يعلم أنني مثله أبحث عن تلك المرأة في وجوه كل النساء. ألتهب بنار جسدها الرشيق حين يتلوى كنشيد النهر، وأحلق معه كروح متألقة في صباحات مشرقة. أشف، وأمسي فراشةً ملونة تنشد رحيقها بين حقول الأزهار الشاسعة.

بدأ الصراع بيني وبين الآخر يأخذ أشكالًا أخرى. كانت المسافة إلى ضفة/ المرأة، لما تزل غائمة، ضبابية، موحشة، لكنْ لاح لي معبر خشبي عتيق، على بعد أمتار. أخذت أعوم وأتخبط بكل ما تبقى في جسدي من طاقة كامنة، للوصول إليه. رأيت الآخر يفعل الشيء ذاته!

فوجئت حين وصولي المعبر أننا لسنا وحدنا؛ إذ ثمة أجساد ورؤوس وأيد وأنفاس متلاحقة تتدافع بعنف عند أعتاب المعبر. الكل يريد العبور. فكرت للحظة: المعبر منخور بالرطوبة، وربما متآكل بفعل الزمن، فهل سيتحمل كل هذا التدافع؟!

انتابني خوف شديد، لكني عبرت بسلام، ورحت أبحث بعيوني عن تلك المرأة، فوجدت نفسي تحت أضواء مصابيح قديمة، تتراقص شاحبةً على طول الطريق الموازي للنهر. كان ثمة جوامع عتيقة تبعثُ أصواتًا تشبه الأنين، وتناهى إلى سمعي أصوات أجراس كنائس تذكرُ بالصقيع!! كنت أتوق إلى شيء من الدفء خلف تلك الجدران. يمزقني الحنين. كان المكان يموج بصخب الحركة، وتنافر الأصوات والروائح. تساءلت: تُرى أين سأجد امرأتي وسط كل هذا الزحام؟!

أين أجد امرأتي التي لم أستطع سبر أغوار نفسها حتى الآن؟! هي كالبحر: صافية.. هادئة أحيانًا، وهائجة.. عاصفة أحيانًا أخرى. هي امرأة لا يمكن أن تقرأ على صفحة وجهها ما يشي بالتقلب. غامضة.. مجللة بالنور والألغاز.

فرحتُ حين تذكرت حاسة الشم القوية لدي. أنفي لا يخطئ رائحة الأنثى. مجرد أن يمر طيفها، أسمع هدير دمي. جسدي يشتعل. تمور فيه تياراتُ كهربائية عنيفة. يمامتي لها رائحةُ خاصة نفاذة. عطرها ياسمين. أميزه بين عشرات النساء.

إذن؛ لتكن حاستي هي البوصلة، وبدأت التجوال بحثًا عنها….

راحت تعبقُ في أنفي على طول الطريق، روائح مختلطة، صادرة عن المحال التجارية، والمطاعم، والحانات، والأفران، وبائعي الزهور، والفلافل… روائح حريفة تختلط حموضتها مع روائح المراحيض العامة، والعطور الرخيصة. روائح بدرجات مختلفة: جذابة ومنفرة.. قوية وخفيفة … كنت ألتقط تلك الروائح، وأفرزها عن بعضها، ثم أرتبها بشكل ملائم في صندوق ذاكرتي.

كنت مأخوذًا وسط الضجيج والروائح. أعوم في ضباب الأشياء، لكن الرائحة التي أبحث عنها لم تستفزني بعد! راحت نظراتي تغزو محلات الألبسة النسائية، لعلي ألمح طيف امرأتي بين النساء. كان ثمة مهرجان لعروض أزياء باريسية هفهافة: نساء جميلات كن يدخلن ويخرجن بحركات مغناج، ينشرن حولهن روائح “البارفانات”، ومساحيق الجمال من كل الأنواع. بعضهن يرتدين معاطف فضفاضة، ويضعن على أكتافهن شالات صوفية ملونة. امرأتي لم تكن واحدة منهن!

اقتربت من إعلانات أضواء كهربائية، تشتعل وتنطفأ بألوان قزح. ساورني شك بامرأة تقف خلف واجهة إعلان. قلت لنفسي: لعلها هي. اقتربت منها، فشعرت بخيبة أمل أمام “المنيكان” التي جذبتني. أطرقت برأسي، وغرقت مجددًا في أمواج أغاني الكاسيت الرخيصة، التي تلوث الأجواء بضجيجها!

كاد التعبُ واليأسُ ينالان مني، لكني رأيت على بعد بضعة أمتار مبنًى ضخمًا، ينتصب بتجهم وثبات. أثار فضولي. اقتربت منه، وكلما اقتربت أكثر، كانت رائحة لعينة، عانيت منها في الماضي، تلتقطني بجاذبية مغناطيسية. رائحة حريفة، هي حصيلة روائح متنافرة جدًا، لا يمكن وصفها، وليس بإمكان المرء تكوين تصور واضح حولها، إلا إذا عاش التجربة، واغتسل في جحيمها. روائح لا يمكن مقارنتها بروائح المداجن، أو حظائر الأبقار المقفلة. إنها روائح إفرازات كتل بشرية ضخمة. حُشرت قسرًا في أقبية، رطبة، ومغلقة بدوافع غامضة!!

أدهشني وجود الرجل الآخر الذي ضيعته على الطريق. كان يقف ووجهه إلى الجدار، ورأسه منكس إلى الأرض، ويداه خلف ظهره. وقفت مترددًا عند باب يؤدي إلى صالة كبيرة، هي أشبه بصالة مكتبة… دخلت الصالة، وكان اثنان قد سبقاني في الدخول إليها!! ثمة هدوء مريب يخيم على أجواء الصالة، لا يقطعه سوى صوت “المكيفات”، وقرقعة آلات التصوير. لفتني أثاث الصالة الحديث: سجاد.. ستائر حريرية.. مقاعد جلدية، وفي صدر الصالة تنتصب مكتبة مليئة بالكتب والمصنفات، وهناك امرأة فارعة الطول تجلس خلف مكتب أنيق. أشارت إليّ بإصبعها، كي أتقدم نحوها. كان وجهها مطليًا بمسحوق عجيب. لها عينان زجاجيتان، وحاجبان مرسومان بدقة. حينما نظرت إليها أطلقت من عينيها حزمًا شعاعية أربكتني. قالت بلهجة عملية باردة: ماذا تريد؟!

باغتني السؤال، وارتعشت خوفًا، وحرت في إيجاد جواب. حين طال صمتي، أخرجت مصنفًا رمادي اللون. ألقت نظرة سريعة على محتوياته، وأضافت بعض الأوراق. أخرجتها من درج مكتبها. قالت: خذ هذا العرض. اطلع على شروطنا، بعد ذلك قد نتفاهم، ثم ضغطت على جرس. عرفت أن المقابلة قد انتهت. جاء الرجلان اللذان دخلا قبلي، وساقاني إلى الخارج. نظرت إلى الأوراق. كانت عبارة عن إعلانات لمواد مختلفة: كيمياوية، وأجهزة كهربائية، وإلكترونية، وأسلحة، ومسدسات كاتمة للصوت… وأشياء أخرى!!

لمحت عند خروجي من باب الصالة الرجل الآخر يخرج من باب مقابل: عيناه جاحظتان. مسكونتان بالرعب. يضع يديه على بطنه، ويصدر حشرجات ألم شديد. كان غارقًا في الزبد والكدمات التي غطت وجهه. يترنح في مكانه، وقد رسمت دماؤه دوائر من حوله. لم يتسع الوقت لي لاستيعاب الموقف. كدت أختنق بسبب الضغط الذي عانيته، وبسبب رائحة الدم الذي تخثر أمامي بسرعة غريبة، ومال لونه إلى السواد. لم أعرف كيف خرجت مسرعًا من المكان، لا ألوي على شيء!

تهت في دهاليز المدينة، وأنا أبحث عن مراحيض عامة، لتفريغ أحشائي، والتخلص من حالة الغثيان التي لم تفارقني. أنقذتني حركة غير عادية قريبة من جامع، فيما كان صوت مؤذن يعلو ويهبط برتابة. دخلت من باب مقنطر، يفضي إلى رواق طويل مظلم. تجاوزته إلى باحة دار قديمة، متآكلة الجدران، يرشح منها لون حشائشي لزج. كانت تعلو في المكان أصوات علب معدنية، وصرير أبواب سوداء ثقيلة، وهدير مياه جارية. كان الجو مشبعًا بموجات هواء ساكن، محمل بروائح رطوبة عفنة!

ذكرتني بتلك الرائحة القديمة، الغامضة، الملتصقة بجلدي. شاهدت على الجدران الكالحة خربشة رسومات لنساء عاريات بأوضاع مضاجعة. ارتعش في أسفل أحشائي شيء ما. شعرت بمزيج من التوتر والاشمئزاز!!

لا.. لا ليس هذا ما أريده. قلت لنفسي، وخرجتُ راكضًا من المكان!

عضني الجوع بقسوة، واستحوذ التعب على جسدي الناحل بعد طول تجوال. تذكرت صديقًا قديمًا يسكن المدينة، ربما بإمكانه أن يستقبلني بعض الوقت. راودتني الفكرة، لأجرب. نبشت من صندوق ذاكرتي الطريق المؤدية إلى بيته، وانطلقت بلا تردد… ضغطت جرس البيت. أطل وجه زوجته: جميلًا.. باسمًا.

أهلًا عادل.. والله زمان … ثم أطلقت ضحكةً جميلة غسلت فيها تعب النهار.

–  تفضل. (ثم تقدمتني برشاقة إلى غرفة الجلوس).

سألتها: أين سعيد؟!

– نظرت إليّ دهشة: ألا تعلم.. أن سعيد راح جوا، تحت التعذيب… واغرورقت عيناها بالدموع.

– آسف. قلت مرتبكًا. لا علم لي. أنا في وضع صعب.

تشاغلت عني لإخفاء حزنها، ثم قالت:

– أعذرني قليلًا. سأحمم طفلي.

قلت: هل بإمكاني مشاهدته، وهو يستحم؟!

كان أثاث الغرفة متناثرًا، تفوح منه رائحة الطفولة. شعرت بالفرح جدولًا يتهادى في صباح ندي. راقبت كيف كانت تحمم طفلها بفيض حبها الأمومي.

ثرثرنا قليلًا… وكانت تعتريني الدهشة، كلما اكتشفت وجهًا جديدًا لهذه المرأة القوية، وفيما الألفة تزداد بيننا سألتها:

– هل تذكرين تلك الليلة الشتائية، كم كانت دافئة، حين جلسنا في غرفة بيتنا العلوية، متحلقين حول المدفأة. يومها كان سعيد حزينًا، يسند رأسه إلى صدرك؟

تعالى رنين ضحكتها وعلقت:

– ما زلت رومانسيًا كعادتك..

– وهل صارت الرومانسية شتيمة؟!

نظرت إليّ بحنان، وكان الطفل قد نام بسريره هانئًا. سألتني بعد لحظة صمت: ما رأيك أن نخرج إلى حديقة الدار؟

– لا بأس. أجبت

كان الجو في الخارج يتنفس رائحة الربيع، والعالم يموج بعطر الطبيعة. تموت المسافات الفاصلة بيننا. كانت ترتدي ثوبًا رقيقا.. شفافًا. حركت نسمات المساء ثناياه، فظهرت مفاتن جسدها الجميل، الممشوق. اقترب وجهي من وجهها. هفت رائحة الأنثى، وأنفاسها اللطيفة. اختلطت الروائح في ذاكرتي: عبق الياسمين، بفحيح الأرض. بأنفاس المرأة… عشت لحظة انخطاف، وغبت في عالم غير محسوس، أو مرئي!

ضحكت المرأة. ضحكتها أغنية. كل خلايا جسدي انتفضت.. تسارعت نبضات قلبي.. حلقت إلى حافة شاهقة بين الموت والحياة. العالم من حولي يحتضر، والإله يتحدى، ثم ضاع المشهد في سكون سرمدي!!

نفسي مرةً أخرى تائهًا في شارع عريض. أسمع أصوات أجراس كنائس، قادمة من بعيد. كانت إيقاعاتها تعلو وتنخفض باحتفالية، ذكرتني بأيام الأعياد: شموع، وهدايا أطفال، وأزهار، وروائح بخور، ونساء جميلات يبتهلن إلى الرب من أجل عودة الحبيب… انتابتني أحاسيس غريبة. فيها شيء من الفرح الضائع، والأحزان الصغيرة، والكثير من قلق الانتظار!

أدهشني أن جدران الشوارع مليئة بنعيات تدعو إلى حضور قداس وجناز للصلاة على راحة نفس الفقيدة، وأخرى على الطريقة الإسلامية تنعى الصبية ذاتها.

رأيت من بعيد.. من آخر الشارع المتعرج موكبًا جنائزيًا ضخمًا، يتقدم باتجاهي. على رأسه حملة الأبواق، وقارعوا الطبول. وقفت متسمرًا في مكاني. خاشعًا أمام جمالية المشهد. ثمة أطفال كانوا يرتدون الأبيض، ويحملون الأكاليل، بينما شباب كانوا يرفعون تابوتًا مصنوعًا من خشب الآبنوس، يتخايل بأبهة فوق الأكف، على وقع لحن جنائزي يعانق السماء. كان النعش مكشوف الغطاء، يحتضن صبيةً شمعية اللون، ترتدي ثوب زفاف أبيض. تسكن بين يديها الصغيرتين الجميلتين باقة أزهار بنفسجية. لم أتأكد فيما إذا كانت هي امرأتي التي أبحث عنها، لكني تأكدت أن نوم الصبية كان: هادئًا، جليلًا، أبديًا!


علي الكردي


المصدر
جيرون