هاجس القص والحكاية الشعبية



لعل هاجس القص لا يقل إلحاحًا عن الرغبة في تلقي القص، ولعل المتعة التي يعيشها السارد لا تقلّ أبدًا عن المتعة التي يعيشها المتلقي؛ ذلك لأن السارد والمتلقي معًا يعيدان صياغة الحياة بالطريقة التي يشتهيانها: الأول من خلال امتلاك القدرة على خلق الحياة، بما في الحياة من عناصر مختلفة. والثاني بتمثله لهذه الحياة، وإغنائها برؤية إضافية تتناسب مع قدرته على التخييل.

ولم يكن هاجس القص هذا ليولد عرضًا في نزعات الإنسان الأولى. فلقد كان سبيل الإنسان للتواصل مع الآخرين من جهة، ووسيلة من وسائل فهم ما يحيط به، وتفسيره واتخاذه مثلًا حينما يصلح أن يكون مثلًا من جهة ثانية.

والأكثر من هذا وذاك هو رغبة البوح التي تلح على صاحبها، فتجعله أسيرًا لها أحيانًا، منساقًا إليها على الرغم من وجود معوقات البوح، كما حدث لصاحب العربة أحد أبطال تشيخوف. ولئن كان بوح صاحب العربة من نوع الشكوى؛ فإن أشكال البوح متعددة، وفي مقدمتها القص.

ومما يسعف الإنسان في عملية القص خيال جامح، ينزع إلى إراحة صاحبه في كشف الحقيقة، أو ما يعتقد أنه حقيقة، والحقيقة هنا -كما يذهب عبد الملك مرتاض- “أدبية لا تاريخية، وإبداعية لا واقعية، وذلك على الرغم من أنّها تجسد عصرًا أو مجتمعًا أو أناسًا، كأنهم أحياء يرزقون”. عبد الملك مرتاض. في نظرية الرواية. ص 167.

إن هاجس القص هذا لا يختصّ به شعب دون شعب، ولا أمة دون أخرى. وبالتالي فهو نزوع إنساني يتجاوز العرق واللون، ويجعلنا لا نتصور شعبًا ما، في أي مكان ما، دون أن يكون له إرث سردي يترجم فلسفته في الحياة، ورؤيته للكون، ومن هنا تبرز الأسئلة التالية: كيف ولدت هذه النصوص السردية الشفهية التي يتناقلها الأحفاد عن الأجداد، وينقلونها بدورهم إلى أحفادهم؟ ومن الذي ألّفها؟ وما الغرض الذي رمى إليه السارد الأول -المؤلف والمبدع- من سرده هذا؟

بالتأكيد، إن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة لن تكون قاطعة، ما دامت تدخل في إطار المحاكمة العقلية المبنية على الافتراض والتخمين. غير أن الإجابات التي تتوصل إليها المحاكمة العقلية ينبغي أن يكون فيها قدر كبير من الشفاء، لمن أراد الوصول إلى إجابة شافية.

إن هذه النصوص السردية التي نسمعها من الجدات، والتي نقلتها الجدات عن الجدات، إنما هي كغيرها من المظاهر التراثية تشبه كرة الثلج، تجمع في مسارها ما تجمع، حتى تغدو كتلة كبيرة، وهذا ما يجعلنا نعتقد أن الحكايات التي يتناقلها الناس الآن لم تصل إلينا بذلك النقاء البكر؛ فالراوي -كما يذهب عبد الملك مرتاض- “لا يروي حديثًا حدث، ولا خبرًا وقع، ولا تاريخًا كان، لكنه يروي أحداثًا تخيلها سواؤه على نحو ما، فيحيلها هو إلى ذلك الشكل من النسيج السردي، مضيفًا إليها عناصر أخرى، لتكون أروع وأجمل وأغنى وأكمل”. المصدر السابق ص 171.

الرأي الذي يذهب إليه الدكتور مرتاض يجعلنا نبني عليه رأيًا آخر، هو أن هذه النصوص السردية -الحكايات الشعبية تحديدًا- تتجاوز حرمة النص وحرفيته، إلا في ما يتعلق بالحوار المنظوم أو المسجوع، أو العبارات السردية التي يقوم بناؤها على المقابلة أو الترداد داخل النص السردي؛ فإن الراوي يجد نفسه مضطرًا إلى الحفاظ عليها، وإذا زيد عليها شيء، فإنما يزاد شيء من جنسه إن نظمًا فنظم، أو سجعًا فسجع، أو مقابلة فمقابلة، وغير ذلك من أشكال البديع التي قد نجدها في الحكاية.

وفي ما يبدو فإن عمر الحكايات الشعبية التي تروى الآن ضارب في البعد، لكنه تشكل تشكلًا جديدًا مع التشكل السكني حاملًا معه الهيكل العام الذي ينتمي إلى المنبت الأول، وهكذا فقد جاء المسرود باللهجة المحكية في هذا المكان أو ذاك، ساردًا الواقعة المتخيلة نفسها مع التصرف ببعض التفاصيل.

فحكاية “الجرجوف” التي تنقلها يمنى العيد عن كتاب “حكايات وأساطير يمنية”، هي نفسها حكاية “جبيني” التي سمعناها من أمهاتنا وجداتنا في السويداء. إذ نجد البنات اللاتي ذهبن لجني ثمار “الدوم” يعتذرن عن الصعود على الشجرة، في حكاية الجرجوف، بسبب ثيابهن الجديدة التي يمكن أن تتمزق إثر الصعود.

وقد نقل الراوي الحوار باللهجة اليمنية المحكية فيما جعل السرد بالفصحى:

“طلبنَ من الأولى أن تصعد إلى الشجرة، فرفضت خوفًا على ثيابها، ثم قلن للثانية: اطلعي أنت، فأجابت معتذرة: (زنة أمي الجديد باتختزق). وتكرر كل فتاة العبارة نفسها، حتى يرسو الصعود على البنت الفقيرة ذات الأسمال البالية”. (تقنيات السرد الروائي). يمنى العيد ص 32.

وفي حكاية (جبيني) نجد الراوي ينقل الحوار باللهجة الجبلية، حينما تعتذر الفتيات عن الصعود إلى الشجرة لجني ثمار الزعرور، إذ تقول كبرى البنات:

“أزغر مني بتطلع عنّي”، أي لتصعد من هي أصغر سنًا مني، وتكرر البنت التي تليها العبارة نفسها إلى أن يرسو أمر الصعود على جبينة، والتي لم تجد أصغر منها فتعتذر، إذ تضطر إلى الصعود. (في قديم الزمان). فوزات رزق ص133

وتنصرف الفتيات في كلتا الحكايتين، بعد أن يعبئن سلالهن تاركات الفتاة المسكينة على الشجرة. والذي أطلق عليه الراوي اليماني لقب “الجر جوف”، أطلق عليه الراوي الجبلي لقب “الهاتف”.

وينقل السارد اليماني الحوار بين الفتاة والجرجوف، مثلما ينقل السارد الجبلي الحوار بين الفتاة والهاتف كل بلهجته. والأكثر من هذا وذاك فإن الحكايتين تعتمدان على مرجعية واحدة وهي قصة يوسف عليه السلام مع إخوته.

من كل ذلك نريد الوصول إلى نتيجة مهمة، هي أن جذر هذه الحكايات واحد، صاغها مبدعها في زمن لا نستطيع تقديره، ثم تعاورتها الألسن، فأصابها التطوير والإطالة، والحذف والزيادة، بما يتناسب مع طبيعة البيئة ومتلقي الحكاية. وهذا يقودنا إلى نتيجة أخرى، هي أن مؤلف هذه الحكايات ليس واحدًا، وإنما نشأت الحكايات بالتراكم شأن كل موروث شعبي؛ إذ يرمي كل جيل فوقه شيئًا من خصائصه وفلسفته وقيمه، فإذا هو إنتاج جماعي يجمع الخصائص المشتركة لأجيال متعاقبة.

بقي أن نشير، في ما يختص بالأسئلة المطروحة، إلى الغرض الذي رمى إليه السارد الأول -المؤلف- فإن بعضهم يرى “أن هذه المظاهر -مظاهر السرد- يجب أن تبدو على أنها مجرد لعبة فنية جميلة، يتسلى بها القارئ أو يتلهى ولا نقول يفيد منها بالضرورة ويتعلم”. د. مرتاض ص167.على أننا نرى أن بعض هذه الحكايات تقدم دروسًا في الأخلاق والتربية، ولا نستطيع القول إن ما جاء فيها من دروس أخلاقية قد جاء محض مصادفة.


فوزات رزق


المصدر
جيرون