المعارضة السورية ومعركة الرأي العام العربي



منذ سنة 2010، قبل اندلاع الثورة السورية السلمية، ومن ثم انتقالها إلى مرحلة المقتلة والتدمير المنهجي للبنية المادية والبنية الإنسانية، عُقدت مؤتمرات علمية عدة، في المنطقة العربية أو خارجها؛ لمعالجة الحركات الاحتجاجية المختلفة في المنطقة، وتحليل أسبابها وتصور مآلاتها، وكانت تلك الحركات قد بدأت في تونس ثم امتدت إلى عدد آخر من البلدان. كان الحدث التونسي، ثم المصري، هما المهيمنان، وكانت المداخلات العلمية تستند أساسًا إلى عدة عناصر مساعدة في فهمها، كالاقتصاد السياسي، والعلاقات المدنية/ العسكرية، ومسارات الإصلاح السياسي والاقتصادي الفاشلة، في مختلف الدول المعنية بحركات الاحتجاج هذه، وطبيعة التركيب الطبقي والإثني والطائفي في بعضها. وفي مرحلة ما بعد سقوط السلطات المستبدة القائمة في هاتين الدولتين: مصر وتونس، انتقلت المعالجة عمومًا إلى ملاحظة وتحليل الحراك المجتمعي ومحاولة ملاحظة التباينات بين المسارات وفي النتائج. كما تركزت كثير من الدراسات، بشكل مفصّل، حول اختلاف دور الجيوش وموقفها من المجتمع، استنادًا إلى البعد التاريخي الذي يُبرِز عوامل وعناصر تركيب هذه المؤسسة في الدول المعنية، كما بدى الأمر عليه، بجلاء شديد، في مقارنة دور العسكر في مصر ودورهم في تونس.

في مرحلة لاحقة، امتدت الدراسات التي ارتبطت بالمسارات العنفية التي نهجتها، أو أجبرت على انتهاجها، الاحتجاجات في ليبيا والبحرين وسورية، للتطرّق إلى بنود مختلفة أو جديدة، على الرغم من الحفاظ على ما تقدم وشموله لكل التجارب والأقاليم؛ فصار لزامًا تحليل المسائل القبلية وتأثيراتها المختلفة في المجتمع، كما في السياسة، وأخذها بعين الاعتبار لفهم المسار الليبي. كما وجب التطرّق إلى الأبعاد الإثنية والطائفية، مع التحولات الدراماتيكية التي طرأت على الحركة الاحتجاجية السلمية في سورية، على الرغم من ثانوية أهميتها في بداية الحراك، وتطور هذه الأهمية سلبًا في سياقاته المتعرجة.

إلى هذا كله، عدّ البحث العلمي أن التوقف عند مسألة التأثير في الرأي العام المحيط، تحتاج إلى دراسات موسّعة لقياس مدى “انتقالية” الحَراك، عمليًا ونظريًا، إلى مجتمعات راكدة أو مترددة أو هي عنه منكفئة. وبعد أن برز تعاضد وتضامن القوى اليسارية والقومية العربية ومن في حكمها، وكذا الحركات الحقوقية مع القضية التونسية كما المصرية، والاحتفال بالانتصار الموءود مصريًا والمتعثّر تونسيًا؛ فوجئ المراقب المحايد بسلبية الموقف عمومًا لهذا المجموعات، بناءً على أدلجة الإنسانية عوضًا عن أنسنة الأيديولوجيا. وهيمنت نظرية المؤامرة على ذهن وتحليل هذه الفئات، في ما يتعلق بما تبعَ الحلقة الأولى والثانية من الثورات العربية، لتتساقط رماحهم، ليس النقدية فحسب، بل الشتائمية أيضًا، على احتجاجات السوريين. وكانوا مُعزّزين في ذلك بالرهاب من الحركات الإسلامية التي تصدرت المشهد المصري والتونسي، بعد أن كانت بعيدةً نسبيًا من إشعال شرارته. كما يُمكن الإشارة إلى أن اليسار العربي، كما الحركات القومية العربية، عدا استثناءات مهمة كانت كقوى سياسية شديدة التقارب المعنوي والمادي، من أسوأ التعبيرات الحاكمة مثل صدام حسين ومعمر القذافي وأشباههما من المخلوقات السياسية.

مع سورية، تبلورت الأمور أكثر وتركّزت، فصار الحديث يجري دون أي مساءلة ضمير عن مؤامرة كونية لتمرير أنابيب الغاز، تذكرنا بقصة رفض السلطان عبد الحميد لبيع فلسطين، والتي اعتبرها أصحاب القراءة التاريخية المبتورة سببًا أساسيًا، لانهيار الإمبراطورية العثمانية بعيدًا عن موتها السريري الناجم عن أزماتها البنيوية. وعزف الكثيرون، ممن تنطحوا لقضايا الانسان نظريًا، عن قبول حمولة الأخبار من سرديات ووثائق، معتبرين أنها من صنع أجهزة أمنية غربية، وأن جُلّ الضحايا فيها من الممثلين المحترفين. وتبجح البعض الآخر بمفردة “البوصلة” التي ضاعت والتي يجب أن تكون مركزة على المسألة الفلسطينية دون سواها. وهذه البوصلة المهترئة والصدئة هي نفسها التي حملها جُلّ القادة العرب، تبريرًا لتقاعسهم عن دعم فلسطين وقضيتها، وتعزيزًا لآلاتهم القمعية تجاه شعوبهم. وصارت المسألة الفلسطينية مشجبًا أيضًا لهذه القوى، بعد أن استهلكتها السلطات المستبدة. وتبيّن أحيانًا، مع الاستثناءات المهمة دائمًا، أن دافعها للتضامن مع الفلسطينيين ليس أخلاقيًا أو إنسانيًا، بل هو محض أيديولوجي.

بالمقابل، عجزت المؤسسات المعارضة عن القيام بأي خطوة، تجاه هذه القوى السياسية الواسعة والمؤثرة. وبدا الإعلام الذي تؤثر فيه هذه القوى، وكأنه إعلام جبهات حرب، بعيدًا من المهنية ومن ألف باء مسألة التسويق السياسي لقضية عادلة. واعتبر القائمون على تلك المؤسسات -وجلّهم غير مهنيين- أن الآخر إما أن يكون معنا أو علينا معاداته. ولم يسع الإعلاميون “الثوريون” إلى محاولة فهم الأسباب والخلفيات، ومحاولة اختراع الأساليب المناسبة للتعامل معها. ويكاد يقول البعض منهم، محقًا، إن هذا لن يفيد في شيء، خصوصًا عندما يتبين لنا أن الطرف الآخر قد سدّ ضميره عن قبول الحقيقة، وصار ممن يُنكر الواقع مختبئًا وراء شعارات أو اعتقادات جوفاء. وعلى الرغم من شمولية هذا الواقع لعدد كبير ممن نتحدث عنهم، فإن الواجب “الوطني” والمهني يفرض، على من يحمل قيم الحرية والعدالة والكرامة، أن يسعى للآخر البعيد عنه، وألا يكل ولا يمل من صدّه ومن تخوينه، علّه في مرحلة زمنية ما يستطيع أن يجذبه، ولو سنتيمترات قليلة، تجاه كلمة الحق.


سلام الكواكبي


المصدر
جيرون