on
طفولة الشبيحة والمجرمين
خراب الأبنية والأحياء السكنية الذي حلّ في سورية، في السنوات الأخيرة، يشكل رأس جبل الجليد للخراب المعنوي والنفسي والاجتماعي للسوريين، وكم كان ابن خلدون نبيهًا ودقيقًا، عندما عنون فصلًا من فصول مقدمته الشهيرة تحت عنوان: “الظلم مؤذن بخراب العمران”.
نعم، خراب عمران سورية المادي والبشري حقيقة تتطلب منّا التأسيس، اجتماعيًا وفلسفيًا ونفسيًا وتربويًا، لسورية المستقبل وسورية الأمل بالتوازي مع مرحلة التأسيس المادي والعمراني والسكني، إنّ إصلاح البنى الفوقية للسوريين لا يقل أهمية عن إصلاح البنى التحتية لمدنهم وقراهم وشوارعهم.
نقطة البداية التأسيسية لسورية الحرة الديمقراطية يجب أن تنطلق من إصلاح الطفولة ومناهج التربية والتعليم، وهي النصيحة التي أوصى بها عميد الأدب العربي دولَ الشرق، فمن يعش طفولة صحيحة وجوًا أسريًا سليمًا ومدرسة تربوية تعليمية راشدة؛ لا يمكن لقوى الأرض أن تجعله عرضة للقبول بحمل السلاح وقتل أبناء شعبه أو إذلالهم، كيف يمكن لدولة أن تبني جيشًا وطنيًا، إذا كان أفراد هذا الجيش قد تربوا على عقيدة توحي لهم أنّ العدو الذي يتربص بنا داخلي، وهو من داخل صفوف الشعب لا من خارج الحدود؟
مع الثورة السورية؛ تبيّن لنا حجم عللنا وأمراضنا الاجتماعية والنفسية، ويلزمنا للشفاء منها النظر إلى الشخصية السورية نظرة واحدة، بغض النظر عن التفاوت بين شدة العلل وأثرها فينا، بل ربما يكون هذا التفاوت مدخلًا لفهم الأسباب العميقة لأمراضنا الاجتماعية والنفسية، دراسة مجتمع كهذا تحتاج إلى شجاعة وشفافية ومكاشفة تجعلنا لا نخجل من رغبتنا حتى في معرفة عادات الطعام والشراب وطرق التزاوج والرضاعة والتعامل مع المواليد، منذ صرختهم الأولى حتى المستوى الأخير من دراستهم، وكيف نخجل إذا كان ممهد الثورة الفرنسية أو الأب الروحي لها، كما قيل، وصاحب نظرية العقد الاجتماعي قد كتب كتابًا لطيفًا سماه (أميل)، تربية الطفل من المهد إلى الرشد؟
تأملت مع حجم العنف الذي مورس بحق السوريين، وسوء البلاء الذي نزل بهم في ظواهر، ظاهرها يدعو للسخرية والضحك، وباطنها أشد ما يكون دلالة على نكوص المجتمع السوري.
إنّ النظر إلى النائب السوري الذي طلب من الجائعين والعطاش الهتاف بحياة الأسد أولًا، لا يختلف عن الشيخ الذي حمل البسكويت بيده، وهو يقول لأطفال الغوطة المحاصرين: “من يعدني بصلاة الفجر على وقتها وبوضع الحجاب على رأسها، هم فقط من سيأخذون البسكويت والهدايا”. إنّ الربط بين حاجات الناس وآلامهم وبين الهتاف للأسد أو للنبي محمّد سيِّان، فالباعث واحد والدلالة واحدة والمرض واحد.
ظاهرة لعب الشبيحة وجنود الأسد في حدائق الأطفال، وركب المراجيح أو الأحصنة والقلاّبات، تدل دلالة قاطعة على المرحلة الطفولية السيئة التي حُرموا من التمتع بها. ذلك أن الطفولة البائسة والطفولة المحرومة التي يعاني منها أهل الريف السوري عمومًا، والمجتمع العلوي خصوصًا، جعلت هؤلاء الشبيحة لاحقًا غير أصحاء نفسيًا.
لاحَظ الألمان بعد جرائم النازية بعض عيوب التربية في مجتمعاتهم، ولذلك جعلوا روضات الأطفال مكانًا وملاذًا للطفل للعبث واللعب وصنع الأشياء والرسم والخربشة، حتى يكاد يكون اللعب مقدسًا عند الألمان، بينما كان اللعب إلى الأمس القريب في سورية معيبًا وضياعًا لوقت الطفل، حتى إنّ كثيرًا من المدارس السورية كان ضمن برامجها حصص للرسم وللموسيقى وللرياضة، ولا يعرف الأطفال من هذه الحصص إلا وقتًا لاستراحة المعلمة أو للفوضى والمشاجرات بين الأطفال في الباحات دون توجيه أو إرشاد.
يرجع الطفل إلى منزله ليستمع إلى توبيخات أمه عن تلويث هندامه وحذائه، أو يطلب منه الذهاب لمساعدة أبيه في حراثة الأرض، ويرى أباه وهو يضرب البقرة والحمار بعنف شديد، وهو يحرث الأرض (يفلحها)، بل إنّ صديقًا علويًا أخبرني أنه كان ينزل من القرية إلى المدينة، وقد ربط حذاءه المفصول عن نعله بشريط معدني دون جوارب، في عز الشتاء، ثم عمل مهنيًا عند خبير سنّي في مصلحة الألمنيوم، وكان الأخير يتجبر عليه ويشتمه موبخًا عند كل خطأ يرتكبه، وهو يقصد تعليمه وتربيته، كما يظن!
لا أجد أي انفصال بين الحالة التشبيحية التي وصل إليها العلويون وغيرهم في سورية، وبين حياة الطفولة لدى عموم السوريين.
إذا كانت أفكار التسلط والطغيان تجعل الناس أشقياء منذ طفولتهم، كما يقول روسو؛ فكيف إذا كانت التربية فاشلة وممنهجة بطرائق سيئة دينية سنية أو علوية طلائعية بعثية؟ فما الفرق بين ضرب طفل ليحفظ فاتحة الكتاب، كما كان يحدث في بعض جوامع السنّة، وبين ضرب طفل ليحفظ:
يا شباب العرب هيا… وانطلق يا موكبي
وارفع الصوت قويّا… عاش بعث العرب
أما عن تخلف التربية الجنسية، فحدّث ولا حرج، فإذا كانت عقدة أوديب حاضرة بقوة في سياقها الطبيعي، فكيف إذا بلغ الجهل عند الزوج والزوجة مبلغه، إذ يُمارسان الجنس أمام طفليهما الصغير وهو ينظر إليهما من سريره، وهما يظنان أنه لا يفهم، وأن هذه الصور تصبح مطبوعة في ذهنه وتكرس عنده نزعة العداء والكراهية، دون أن يعرف مصدرها، وأزعم أنّ الحالة الهستيرية للجلاد أو الشبيح وهو يزمجر ويضرب بقسوة ضحيته لها ارتباط بحالات جنسية كثيرة، أهمها رؤية الخيانة الزوجية لأمّه وهو طفل بين الرابعة والعاشرة، أو بين تعذيب أبيه لأمّه أمام عينيه وهو صغير.
يقول روسو: إنّ الطفل المدلل الذي يضرب المائدة انتقامًا منها، أو يجلد الحائط، لن يستريح في كبره حتى يستمتع بضرب الناس أو جلدهم.
لا ريب أنّ الأسد الأب ملَك من مقومات الذكاء ما جعله يؤسس المجتمع العلوي على التربية الإسبرطية الخشنة، فهو يدرك أنّ ارتقاء العلويين، اجتماعيًا وثقافيًا وماديًا ومدنيًا، يعني مزيدًا من الشعور بالانتماء الوطني إلى سورية الوطن، لا إلى سورية الأسرة أو الطائفة، وجاءت تجربة الصراع الغبي أو المشبوه بين الأسد والإخوان المسلمين، وخروج الأسد منتصرًا، أو لنقل خروج العلويين منتصرين على الإخوان المسلمين ليعزز فكرة التربية الإسبرطية عند العلويين، وأصبحت الكليات الجوية والحربية والبحرية قبلة الشباب العلوي ومستقبله، ومن يراقب بدقة يجد أنّ النظام عمومًا وأجهزته الأمنية العميقة كانت ضد تمدين العلويين، بالمعنى المدني الأوروبي، واستطاع أن يجعل من شباب الطائفة العلوي لبنات يسور بها حصنه وقلعته.
إنّ حالة التعفيش وسرقة الدجاج التي رأيناها هي من سوء تربية المجتمع السوري الذي يجب أن نعترف بفشله في أن يكون مجتمعًا سليمًا، قبل أن يكون دولة سليمة، فلا يمكن للمجتمع المنظم والمهذب أخلاقيًا وتربويًا، أن يفشل، إذا قام بثورة على دولة فاشلة. وعندما يكون الصراع بين مجتمع فاشل ودولة فاشلة أخلاقيًا ولا ذرائعية سلوكًا، فمن المؤكد أنّ الغلبة ستكون للدولة الفاشلة.
في رواية هرمان هسة (دميان)، يصوّر كيف انقلبت حياة إنسان بكاملها من كذبة عابرة ارتكبها، وهو طفل عندما أقسم يمينًا أنه سرق تفاحًا، كتعبير عن الشطارة بين رفاقه، وكيف دخلت حياته بعدها في دوامات دفع الكثير حتى يتجاوزها. وها هم سوريون كثر استطاع الأسد أن يجعلهم يعيشون على كذبة كبيرة: نحن الدولة (ولاك)، ولم ينلهم من هذه الدولة إلا ما يمسخ شخصيتهم من الطفولة إلى الموت، ولم ينتبهوا، وهم في طريقهم نحو الموت، إلى أن هناك مراجيح وألعابًا وفرصًا كثيرة للتمتع بالحياة، لم ينتبهوا إليها إلا وهم على طريق الجحيم.
لا أمل في هذا الجيل الذي هجّر أهله أو سرق بيوت جيرانه أو قتل أصحابه أو صار يعتاش على آلام الناس والمعتقلين. فلتكن عيننا وأقلامنا وألسنتنا على تربية جيل سوري مختلف، يرى الحرية الفردية مقدمة للحرية الجماعية، وأصالة الإنسان قبل أصالة المكان والأديان. هزمت النازية وكانت ألمانيا، وستهزم الأسدية وستكون سورية.
منصور حسنو
المصدر
جيرون