أطراف الصراع في سورية أمام استحقاقات ما بعد عفرين والغوطة



 مقدمة

أولًا: مؤشرات دالة على تداعيات الحدث

ثانيًا: ماذا بعد عفرين

ثالثًا: استحقاقات ما بعد الغوطة الشرقية

رابعًا: تداعيات الحدث على الدول الثلاث الضامنة

خامسًا: خاتمة

مقدمة

شكلت معركتا عفرين والغوطة مفصلًا مهمًا في مسار الثورة السورية والصراع الدامي الدائر منذ سبع سنوات ونيّف، وسوف تتركان في الغالب أثرهما العميق في رسم المشهد النهائي، الذي قد يرسو عليه هذا الصراع. ولا تأتي أهمية المقاربة للمعركتين من تزامنهما، أو من أن كلتيهما من ترتيبات أستانة وتوازع الحصص بين الدول الضامنة الثلاث، ولا من سرعة الحسم فيهما التي لم تكن متوقعة فحسب، بل إن أهمية المقاربة تنبع من تتبع ورصد التداعيات التي سوف تترتب عليهما، والاستحقاقات التي ستفرضانها على الدول المتدخلة بشكل أساسي، وأين ستتركز محاور الصراع المقبلة وما مآلاته؛ ذلك أن الأطراف المحلية، نظامًا ومعارضة، أصبحت خارج معادلات الصراع أو التقرير فيه، وتحولت إلى مجرد أدوات بيد الفاعلين في سياق السعي المحموم لكل طرف لتثبيت حصتة من النفوذ ودوره في رسم مستقبل سورية ضمانًا لمصالحه، وهذا الوضع لن يُعفي الأطراف جميعها من تداعياتها ولا من استحقاقاتها.

أولًا: مؤشرات دالّة على تداعيات الحدث

لعل من أسوأ تلك التداعيات دخول تركيا نادي الدول التي تحتل أجزاءً من الأراضي السورية بدعوى حماية حدودها الجنوبية من خطر الصعود الكردي، الذي يمثله (حزب الاتحاد الديمقراطي) وأذرعه العسكرية. هذا التحول في السياسات التركية، من داعم لثورة السوريين في مواجهة نظامهم المستبد، أو صديقة لهم على الأقل، إلى دولة محتلة، سوف يُنهي عاجلًا أو أجلًا ما تبقى من وجود لفصائل المعارضة المسلحة في الشمال السوري عبر تأجيج صراعاتها البينية وتحويل قسم منها إلى أتباع، تنحصر أولوياته ومهمته في حماية المصالح التركية ليس أكثر.

بالمثل وبالتزامن مع معركة عفرين، وعلى مخرجات أستانة ذاتها، لكن مع استخدام عنف أوسع أمنه الطيران الروسي، سارعت روسيا وإيران لإنهاء أي وجود مسلح للفصائل المعارضة في محيط العاصمة دمشق ووضعها تحت هيمنة هاتين الدولتين بغطاء سيطرة النظام. صحيح أن معركة الغوطة لم تحسم كليًا حتى الآن لكن وقائع الميدان تسير في هذا الاتجاه. وبالمثل أيضًا، فإن لمعركة الغوطة تداعيات واستحقاقات على الأطراف المشاركة فيها، ذلك أن أطرافًا دولية أخرى موجودة في الإطار العام للصراع، حتى لو لم يبدر عنها مواقف رادعة واقتصرت ردّات أفعالها التي رُصدت على البعد الإعلامي في فضح الممارسات الروسية، من غير المتوقع أن تقف ردودها عند هذا الحد، ذلك أن الصراع مازال مفتوحًا، والحلول السياسية ما زالت بعيدة. فكيف ستستجيب كل من روسيا وإيران لهذه التداعيات المحتملة واستحقاقاتها؟

 

ثانيًا: ماذا بعد عفرين؟

منذ أن رسخ (حزب الاتحاد الديمقراطي) الكردي وأذرعه العسكرية هيمنته على الساحة الكردية في سورية بعد معركة عين العرب (كوباني) في العام 2014، بعد أن حسم خياراته بالتحالف مع الولايات المتحدة، من دون أن يُغادر بقية تحالفاته مع النظام والروس والإيرانيين، ربما في أسوأ ممارسة براغماتية مارسها حزب سياسي، راحت تركيا ترفع الصوت والتهديد بمحاربة هذا الحزب بوصفه “قوة إرهابية” تحاول إقامة كيان كردي كأمر واقع على حدودها الجنوبية يهدد أمنها القومي، وهي تتبع (حزب العمال الكردستاني) التركي المُصنف حركة إرهابية في تركيا والولايات المتحدة. هذا الموضوع، يُعتبر أهم عامل في توتر العلاقات الأميركية- التركية من دون أن يستنفدها، فالهدف الذي لا تعلنه تركيا من خلال تدخلها في (الملف السوري) وتقلبات مواقفها، لكنها تعمل عليه، يتحدد بأن تكون أحد المقررين في شكل الحكم المقبل في سورية أسوة بما تسعى إليه الأطراف المتدخلة الأخرى كضمان لمصالحها في هذا البلد.

في 20 كانون ثاني/ يناير الماضي، باشرت تركيا معتمدة على قوات (درع الفرات) حربًا شرسة على منطقة عفرين التي تسيطر عليها (وحدات الحماية الشعبية) التي تتبع (حزب الاتحاد الديمقراطي)، وأتمت السيطرة عليها في 17 آذار/ مارس الماضي بسرعة لم تكن متوقعة، على الرغم من الكثافة النارية التي استخدمتها جوًا وبرًا، ذلك أن (وحدات الحماية) كانت تضم عديدًا كافيًا من المقاتلين وكمًا كبيرًا من الأسلحة الحديثة والنوعية، وتعتمد تحصينات قوية في منطقة جبلية وعرة وواسعة تمتد على مساحة أكثر من ثلاثة آلاف كيلو متر مربع.

ما كان لتركيا أن تبدأ هذه الحرب لولا الضوء الأخضر الروسي تنفيذًا لاتفاقات أستانا بين الدول الثلاث الضامنة، فقد سحبت روسيا قواتها الرمزية التي كانت ترابط في عفرين وسمحت للطيران التركي بأن يمارس فعالياته الكثيفة طوال هذه الفترة. بالمثل، لم تعارض أميركا هذا التوجه التركي، فقد أعلن قائد قوات التحالف الدولي لمحاربة (داعش) “أن عفرين خارج نطاق عمليات الحلف”، وتكرس هذا الموقف الأميركي من خلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأميركي السابق، ريكس تيلرسون، إلى أنقرة مع بدء العمليات العسكرية، وأجرى حوارات، وربما توصل إلى تفاهمات لم يعلن عنها رسميًا، تخص العلاقات التركية- الأميركية بخصوص الأعمال العسكرية التركية الجارية ومستقبل عملياتها اللاحقة في مناطق أخرى. وقد ادّعت تركيا، من دون أن تؤكد أميركا هذه الادعاءات، أن الولايات المتحدة موافقة على العمل العسكري في عفرين وسوف تنسحب وتسحب (وحدات الحماية) من منبج، في وقت عززت فيه أميركا وجودها العسكري. لكن المؤكد أن ما تم اتفاق الطرفين عليه، هو تشكيل لجان مشتركة لبحث سبل تعزيز العلاقات بين الطرفين وتفعيل سبل تذليل التوتر في العلاقة بينهما، فكلا الطرفين لا يريد أن تذهب علاقاتهما إلى مزيد من التدهور، الأمر الذي استثمرت فيه روسيا وما زالت.

في نشوة النصر التي انتابت القيادة التركية، ما برح أردوغان وبقية مسؤولي حكومته يهددون بمتابعة العملية ليس في منبج فحسب، بل مدها إلى تل أبيض وعين العرب (كوباني) ورأس العين والحسكة والقامشلي وصولًا إلى جبل سنجار في العراق، وبغضّ النظر عن مدى واقعية هذه التهديدات، ومدى قدرة تركيا على المغامرة في تنفيذها، بحكم أن المنطقة تحت السيطرة الأميركية المباشرة، كما أن سنجار تتبع دولة العراق، ولا يمكنها تجاهل الحكومة العراقية التي أخرجت قوات (حزب العمال الكردستاني) منها وتبحث في حل لبضع مئات من ميليشيا محلية أيزيدية تتبع الحزب، إلا أنها تُعبر بصورة دقيقة عن تعقيدات الصراع في سورية وأن ساحته متبدلة بصورة دائمة، وليس من سيطرة ثابتة لأي طرف من الأطراف المتدخلة حتى الآن.

ما حققته تركيا باحتلالها عفرين لم يكن قليلًا، فقد فرضت نفسها لاعبًا ميدانيًا في الصراع السوري، الأمر الذي كثيرًا ما ترددت فيه، ولن يعنيها كثيرًا نعتها بدولة محتلة، لكن لهذا الإنجاز تداعيات مؤلمة واستحقاقات ليس من البديهي أن تستطيع تلبيتها. فهذه الحرب التركية هجّرت مئتي ألف مواطن كردي من قراهم ومدنهم ودمرت الكثير وقتلت المئات، فكيف ستواجه تركيا هذه الاستحقاقات المنتظرة؟ ولعل أولى التحديات في عفرين إعادة المهجرين إلى بيوتهم وإعادة الخدمات التي دمرها القصف، وهذا يستلزم إشاعة الاستقرار وتطمين وتشجيع الهاربين على العودة، خاصة أن (قوات الحماية)، وقوات النظام والميليشيات التابعة لها في نبّل والزهراء تمنعهم من العودة، كما أن الحديث عن نية تركيا بإعادة قسم من اللاجئين السوريين الموجودين في مخيمات داخل الأراضي التركية، ليس واقعيًا قبل أن يُقرّ المجتمع الدولي، أو الدول القادرة على تأمين منطقة آمنة على الحدود التركية السورية، إعلان هذا الأمر، وهذا غير قائم حتى الآن، كما أن للاجئين السوريين مناطقهم خارج عفرين ويهمهم العودة إليها.

لعل من التحديات المهمة التي تواجه تركيا بعد احتلال عفرين، ضبط الوضع الأمني والسيطرة على حالة الانفلات التي مارستها (قوات درع الفرات) من نهب وتعفيش لممتلكات المهجرين من عفرين، في ظاهرة ألحقت ضررًا وعارًا بسمعة أولئك المقاتلين بصفتهم (ثوارًا)، كان من المتوقع منهم أن يقدموا نموذجًا مغايرًا لما اعتادت أن تفعله قوات النظام في كل المناطق التي اجتاحتها.

في السياق ذاته، فإن تركيا تواجه استحقاق إقامة إدارة محلية ناجحة نظرًا إلى خصوصية عفرين القومية من جهة، وإلى ضرورة تقديمها لنموذج مغاير لذلك الذي فرضته (قوات الحماية الشعبية) الكردية من جهة ثانية؛ ولذلك أمنت بالتزامن مع نهاية معركة عفرين اجتماعًا موسعًا لـ (رابطة الأكراد المستقلين) المناهضة لـ ( حزب الاتحاد الديمقراطي) في غازي عنتاب التركية، وانتخبت مجلسًا محليًا مؤلفًا من ثلاثين عضوًا لإدارة المنطقة بدءًا من 30 آذار/ مارس الماضي، ومن غير المعروف إلى أي مدى سيحالفه النجاح، ويتعاون السكان المحليون معه.

ستكون منبج التحدي الأكبر الذي يواجه تركيا ما بعد عفرين، فتركيا التي ما برحت ترفع الصوت مطالبة بانسحاب (قوات الحماية الشعبية) منها، تصطدم تطلعاتها بالوجود الأميركي في المنطقة، ولا يمكن لتركيا أن تدخل في مواجهة مع القوات الأميركية، لذلك تسعى تركيا لتأمين اتفاق مع الولايات المتحدة حولها، علمًا بأن الولايات المتحدة كثيرًا ما طلبت من (قوات الحماية) مغادرة منبج، لكنها -على ما يبدو- لم تكن جادّة في طلبها هذا، وتركت القضية للتفاوض والمساومة مع الجانب التركي على مجمل العلاقة التركية- الأميركية بخصوص الملف السوري. فالولايات المتحدة بذلت جهدًا كبيرًا للتقريب بين حليفيها التركي و(حزب الاتحاد الديمقراطي) الذي يمثل الحليف الأمثل لها على الأرض، من دون أن تصيب نجاحًا حتى الآن.

لقد جرى الحديث إبان زيارة تيلرسون الأخيرة إلى أنقرة عن خيار إدارة مشتركة أميركية تركية لمنبج، لكن من المستبعد أن تقبل به تركيا؛ فهي لن تقبل أي حلول يكون (حزب الاتحاد الديمقراطي) طرفًا فيها لئلا تعطيه شرعية تنسف خطابها بهذا الخصوص من جذوره، وهذا يفسِّر الضجة التي أثارتها حول تصريحات الرئيس الفرنسي في عقب استقباله وفدًا من (قوات سورية الديمقراطية) التي أعلن فيها “عن نية فرنسا تعزيز وجودها العسكري في الشمال السوري”، بحسب ما زعم ألدار خليل، عضو الوفد، واضطر الإليزيه إلى توضيح الموقف الفرنسي بما ينفي تصريحات خليل بالشكل الذي طرحت به، علمًا بأن فرنسا أرسلت قوة قوامها سبعين عنصرًا إلى تل أبيض. ربما يكون التحرك الفرنسي قد جاء كأحد المخارج المطروحة، بأن تتولى قوات فرنسية ضبط الأمن في منبج بمساعدة المجلس المحلي فيها وانسحاب (قوات الحماية) والقوات الأميركية مقابل عدم دخول القوات التركية، لكن المرجح ألا تقبل تركيا مثل هذا المخرج أيضًا بدليل حدة التصريحات التركية تجاه فرنسا.

يبقى الاستحقاق الأخطر أمام تركيا بعد عفرين، وهو أقرب إلى الاختبار الصعب، يتمثل بالتزاماتها تجاه الطرفين الضامنين الآخرين، روسيا وإيران، بخصوص منطقة خفض التصعيد الرابعة، ألا وهو إنهاء وجود (هيئة تحرير الشام)، وإلا فإنها ستعطيهما المبرر لتفعيل العمليات الروسية في إدلب، فهل ستدخل تركيا في مواجهة مباشرة مع الهيئة؟ أم أنها ستعمد إلى تنشيط الصراعات البينية بين الفصائل الموجودة في الشمال ومنها (جيش سورية الوطني) الذي رعت تشكيله ودعمه بالتعاون مع بقية الفصائل، بخاصة أن المعارك محتدمة بين (هيئة تحرير الشام) و(جبهة تحرير سورية) في حرب استباقية شنتها الهيئة لمواجهة مثل هذا الاستحقاق، ويبدو أن هذا الاحتمال هو المرجح، ذلك أن (هيئة تحرير الشام) أبدت ليونة في تسهيلها انتشار نقاط المراقبة، التي أقامها الجيش التركي في هذه المنطقة تنفيذًا لاتفاقات أستانا بهذا الخصوص.

مثلما رتبت معركة عفرين استحقاقات على الطرف التركي، فإنها سوف ترتب على بقية الأطراف المعنية استحقاقات من نوع آخر. فـ (حزب الاتحاد الديمقراطي) وأذرعه العسكرية تجرعت هزيمة ساحقة وسريعة، تسببت بحالة إحباط شديدة في الوسط الكردي شبيهة بمثيلتها في كردستان العراق في عقب استفتاء الخريف الماضي، وتبخر معها حلم كردستان الغربية الذي كان يُضمره الحزب، فكيف سيواجه الحزب هذا الاستحقاق؟

من المفترض أن يُقدم الحزب على مراجعة صارمة لمجمل تحالفاته المتسرعة والانتهازية مع الولايات المتحدة والنظام والروس والإيرانيين التي انطوت على تناقضات من الصعب التوفيق بينها نظرًا إلى تناقض أجندات تلك الأطراف، تحالفات كلفت الشعب الكردي في سورية، راغبًا أو مكرهًا، خسائر بشرية فوق طاقته، فالأميركان خذلوه في عفرين وكذلك الروس، كما أنه عجز عن جرّ النظام إلى مواجهة مع الأتراك على الرغم من تخليه عن المناطق التي كان يسيطر عليها في حلب الشرقية لمصلحة النظام. وهل سيراجع موقفه من ثورة الشعب السوري وتجاوزه لمطالب الشعب الكردي وحقوقه في سورية لمصلحة أجندات قنديل التي تسببت في تهميش كل القوى السياسية الكردية، ودفعت مئات الآلاف من الشباب الكرد للجوء إلى تركيا وأوروبا هربًا من التجنيد الإجباري، يضاف لها سياسات التهجير لسكان المناطق العربية التي سيطر عليها، ومنعهم من العودة إليها لاحقًا، وكيف سيواجه احتمالات أن يتمدد العمل العسكري التركي إلى مناطق سيطرته على الحدود التركية السورية؟

من غير المتوقع أن يُجري (حزب الاتحاد الديمقراطي) مثل هذه المراجعة النقدية، كعادة الأحزاب الشمولية، وسوف يلتفّ عليها بمبرارات متنوعة، منها ما أُعلن في 27 آذار/ مارس الماضي من مدينة الرقة بحضور ثمانمئة مندوب من مختلف المكونات الاجتماعية والقومية والإثنية، عن تشكيل (حزب سورية المستقبل) الذي صدّر بيانًا طويلًا يحدد معالم سورية التي سيعمل من أجلها، وقد حاول البيان الابتعاد عن خطاب (حزب الاتحاد الديمقراطي) ومشاريعه السياسية، كما غابت عن حضوره عناصر الصف الأول من قيادات الحزب وتشكيلاته المدنية والعسكرية، فيما يبدو وكأنه محاولة إسباغ حالة سياسية جديدة تستوعب وتتجاوز أخطاء وسقطات الحزب، من دون أن تغيَر بالضرورة من نهجه وسياساته؛ على الرغم من أن بعض التحليلات ذهبت إلى القول إن هذه الخطوة جاءت بناءً على توجه أميركي يبتغي تشكيل حالة سياسية في منطقة سيطرته شرقي الفرات لا يكون العنصر الكردي طاغيًا فيها، ويدفع بقية المكونات للانخراط فيها أو عدم مناصبتها الشك والعداء، أو يمكن أن تفيد الولايات المتحدة في إطار سعيها لإنجاز اتفاق مع تركيا يُهدّئ من مخاوفها تجاه (حزب الاتحاد الديمقراطي) وحالة الإدارة الذاتية التي حاول تثبيتها في شمال شرقي سورية وعفرين بما يقطع الربط التنظيمي والإيديولوجي بين الحزب و(حزب العمال الكردستاني).

أما ما يخص (الفصائل المعارضة) التي شاركت تركيا حربها في عفرين، فإنها ستكون أمام تحدي حاجتها إلى استمرار المعارك ما بعد عفرين. فما زالت هناك مناطق تسيطر عليها (وحدات الحماية الشعبية) في تل رفعت ومحيطها، وفي حال تمكنت من السيطرة على هذه المناطق، فإنها ستصبح في مواجهة مباشرة مع قوات النظام في ريف حلب الشمالي ومع ميليشيات إيران في نبّل والزهراء، الأمر الذي يطرح التساؤل عندئذ عن مواقف تركيا وروسيا وإيران بصفتها دولًا ضامنة. ومن جهة أخرى لا يقل عن هذا التحدي أمامها ضبط الوضع الأمني بدءًا بضبط عناصرها المنفلتة.

 

ثالثًا: استحقاقات ما بعد الغوطة الشرقية

بالتزامن مع معركة عفرين، وعلى قاعدة التقسيم للنفوذ والمهمات التي تقررت في أستانة بين الدول الضامنة، جاءت معركة الغوطة الشرقية، حيث حشد النظام قوى كبيرة لهذا الغرض بعد أن سكتت بقية الجبهات. إن الحسم السريع أمّنه القصف الروسي الكثيف والدمار والقتل الكبيرين اللذين أوقعهما في مناطق سيطرة المعارضة، على الأخص منها منطقة حرستا، وبشكل أقل نسبيًا في حمورية وكفر بطنا ودوما، فقد قُتل خلال ثلاثة أسابيع أكثر من ألف وسبعمئة من الضحايا المدنيين الذين التزموا الأقبية التي دُمّرت فوق رؤوسهم. ومع ذلك ما كان للروس أن يحسموا المعركة بهذه السرعة، لو أن العلاقة بين الفصائل الموجودة داخل الغوطة، منذ أن حوصرت قبل أربع سنوات على غير الشكل الذي سارت عليه من تقاسم مناطق نفوذ وقتال بيني مدمر. وما قيل عن أن خروقات النظام لفصائل المعارضة ووجود عملاء في صفوفها، على صحة وجود مثل هذه الظاهرة، سرّعت الهزيمة، لا يعدو أن يكون تبريرات طفولية، لا تريد تحمّل مسؤولية الهزيمة المرّة التي حصلت، ومن ثمّ مسؤولية تشريد الأهالي إلى الشمال أو لجوئهم مضطرين إلى معسكرات النظام، من دون أن يعرفوا ماذا سيحلّ بهم من قتل وتصفيات وإذلال، وزجّ الشباب منهم في السجون أو في جبهات القتال ليَقتلوا ويُقتلوا.

لوحظ في معركة الغوطة التي لم تنته ذيولها بعد، بانتظار نهاية المفاوضات بين (جيش الإسلام) الذي يسيطر على دوما وبين الروس، أن هذه الفصائل تلقت القصف والضربات بشكل منفرد، وأن الفعل العسكري للنظام لم يكن هو الحاسم، ولم يكن واسعًا سوى في حمورية وكفر بطنا. كما أن الافتقاد إلى القيادة الموحدة، وبالتالي، غياب التنسيق بين هذه الفصائل، فضلًا عن تعدّد المرجعيات، سرّع لدى كل طرف عملية البحث عن تسوية على حساب الأطراف الأخرى. هكذا كانت (أحرار الشام) سباقة كعادتها في المناطق كافة، تبعها (فيلق الرحمن) بقبوله التسوية والترحيل، في حين أن (جيش الإسلام) لم يستخدم جهده العسكري وفقًا لإمكاناته التي كثيرًا ما استعرضها، الأمر الذي أثار كثيرًا من التساؤلات لدى بيئته الحاضنة على الأقل، وسوف تكشف نهاية المفاوضات التي ما زالت جارية منذ أسبوعين وحتى كتابة هذه السطور، عما سيستطيع تحصيله بخصوص رفضه المغادرة والتهجير، وسعيه للاحتفاظ بقوته العسكرية ضمن صيغة وشروط ما.

جرى تداول معلومات شبه مؤكدة حول أن الميليشيات الإيرانية لم تشارك في معارك الغوطة الأخيرة، وإذا صحّت هذه المعلومات، فإن الأمر قد لا يكون متعلقًا بالحاجة إلى جهدها من عدمه، فإيران حريصة على الوجود في هذه المنطقة التي تراها استراتيجية بالنسبة إليها، إنما يأتي، ربما، في سياق رسالة تطمينية من الروس لكل من الولايات المتحدة و”إسرائيل” مفادها أن الغوطة الشرقية لن تكون تحت النفوذ الإيراني، وهذا يخالف مخرجات أستانا التي جعلت محيط دمشق من حصة إيران، واعتبرت الغوطة منطقة توسع إيراني في محيط السيدة زينب. وهو ما يفسر الأخبار التي جرى تداولها عن جهد إقليمي ودولي يجري في الكواليس مع الروس لإبقاء (جيش الإسلام) في دوما. فكيف ستتصرف إيران حيال ذلك في حال صحته، وهل سيكون سكوتها موقّتًا ريثما تستقر الأمور لقوات النظام؟

لم يكن أحد يتوقع أن تنتصر الفصائل التي كانت تتحكم في الغوطة على الجهد الروسي الجوي والأرضي وحشود النظام الضخمة، لكن كان يمكنها أن تصمد شهورًا طويلة تضمن لها تسوية بشروط أفضل، غير أن تشتتها وطريقتها في إدارة مناطق سيطرتها طوال سنوات الحصار، الذي أفقدها تعاطف الحاضنة الشعبية إلى حدٍ بعيد، كما تجاهل المجتمع الدولي وعجزه حتى عن تطبيق قراره ذي البعد الإنساني رقم 2401، كلها عوامل أسهمت في سرعة انهيار الغوطة.

وفي جميع الأحوال، فإن هزيمة الفصائل المسلحة في منطقة مهمة في موقعها ورمزيتها في مسيرة الثورة السورية بحكم إحاطتها بالعاصمة دمشق، سوف تترك تداعيات مؤلمة على تلك الفصائل، بغضّ النظر عن الشكل الذي ستُسفر عنه المفاوضات مع (جيش الإسلام)، في مقدّمها خروج هذه الفصائل من معادلات الصراع، إضافة إلى أن الكثير من كوادرها سوف يغادرونها، كما سينحل قسم آخر منهم في فصائل أخرى، من دون أن نستبعد دخول بعضها في صراعات بينية في مناطق احتشادها في إدلب، تاركة خلفها تجربة لا يُعتدّ فيها.

 

رابعًا: تداعيات الحدث على الدول الثلاث الضامنة

احتلال تركيا لعفرين، وسيطرة النظام بجهد روسي على الغوطة الشرقية، حدثان نقلا الصراع في سورية بشكل فعلي من صراع بين أطراف محلية تدخلت به دول خارجية كل لغاياته، إلى طور جديد تتواجه فيه هذه الدول في صراع على النفوذ وتثبيت الحصص بشكل مباشر أو غير مباشر، قد يكون عسكريًا في بعض منه ودبلوماسيًا وسياسيًا في بعضه الآخر، وسوف يدوم إلى حين التوافق على حل سياسي، قد لا يأتي قبل أن تُنجز عملية اختزال لعدد المتدخلين.

في هذه اللوحة، تبدو إيران أكثر هذه الأطراف قلقًا على مستقبل وجودها في سورية، فقد توسعت بأكثر مما يمكن للغرب و”إسرائيل” ابتلاعه أو التعايش معه، لأنها تبحث في سياق مشروعها التوسعي في المنطقة عن أكثر من نفوذ، فهي التي بذلت جهدًا حثيثًا في تسعير عمليات التغيير الديموغرافي في المناطق المحاذية لـ “ممرها البري” الذي يربط طهران بالبحر المتوسط، وعمدت إلى تفعيل دور الشيعة العرب على امتداد هذا الممر، وشكلت منهم ميليشيات محلية في كل دولة لحمايته، في الوقت ذاته الذي لا يبدو فيه أن روسيا تشاركها توجهاتها المحلية، ومنها التغيير الديموغرافي، على الرغم من حاجتها إلى الوجود العسكري في الميدان؛ لهذا فإن الثقة بين الطرفين ليست راسخة كما يبدو، ويمكن أن تتزعزع من خلال المساومات عندما تبدأ، ذلك أن الروس تزداد أمامهم كل يوم صعوبة المواءمة بين أهداف حلفائها، مع اضطرارها إلى مراعاة الهواجس الإسرائيلية ومتطلباتها الأمنية. من جهة أخرى، لم يعد خافيًا الانزعاج الإيراني من التدخل العسكري التركي المباشر في الملف السوري، لأنه سيكون على حساب وجودها في وسط وشمالي سورية، أو أنه لا بدّ وأن يتصادم معه.

أما اندفاع روسيا العنيف في ريف إدلب الجنوبي وفي الغوطة الشرقية، حيث حسمت الموقف فيهما لمصلحة النظام، يبدو أن دافعه المهم هو القلق وعدم الاطمئنان حيال موقف أميركا التي حجزت مناطق شرقي الفرات ورسخت وجودها عسكريًا وسياسيًا فيما يبدو أنه استعداد لضم مناطق أخرى تستطيع من خلالها ربط منطقتها في الشرق مع منطقة درعا من خلال السيطرة على الشريط المحاذي للحدود السورية- العراقية، بحسب ما تذهب كثير من التحليلات، وربما أجّج القصف الأميركي الساحق لقوات (فاغنر) الروسية التي عبرت النهر في 7 شباط/ فبراير الماضي هذا القلق.

نعم! لقد أنهى القصف الروسي وضع الغوطة الشرقية، وهذا يُعتبر تطورًا نوعيًا في مسار الصراع. غير أن التحدي الأساسي الذي يواجه الروس، يتحدد بالتساؤل حول إمكانيتهم تثمير هذا الإنجاز وتحويله إلى مكسب سياسي، خاصة في ظلّ الضغط الغربي المتصاعد على خلفية محاولة قتل الجاسوس الروسي، سيرغي سكريبال، وطرد 151 دبلوماسيًا روسيًا من 23 دولة غربية، في أكبر عملية من نوعها في تاريخ الدبلوماسية الدولية، وفي ظلّ زيادة هيمنة الصقور الجمهوريين في إدارة ترامب.

 

خامسًا: خاتمة

مع التطورات المؤلمة الأخيرة يزداد الصراع في سورية وعليها تعقيدًا، وكلما ازداد عدد الدول المتدخلة التي تحتل أجزاءً منها، كلما ابتعدت الحلول السياسية التي سعى لها المجتمع الدولي منذ جنيف (1) عام 2012، ولم تجد داعمًا سياسيًا لدفعها نحو الأمام نظرًا إلى تدويل هذا الصراع منذ أيامه الأولى. كما أن مسيرة المعارضة السورية، السياسية منها والعسكرية، تسير بصورة انحدارية وتخسر المزيد من أوراقها يومًا بعد آخر، الأمر الذي يترك بصماته على حالة الشعب الذي خرج طلبًا للحرية والكرامة، وواجهته قوى الاستبداد من كل حدب وصوب، وخذلته القوى الدولية التي ربطت سياساتها حيال القضية السورية، بما يضمن ديمومة مصالحها الاستراتيجية في المنطقة وأمن “إسرائيل”. غير أن الحقيقة الوحيدة الثابتة حتى الآن تتلخص بأن هذا الصراع ما زال مفتوحًا، وأي سيطرة لأي طرف ستبقى موقّتة إلى حين رسوّ الصراع الدولي على صيغة لحل سياسي ما، يكون رهنًا بقبول الشعب السوري به.


مركز حرمون للدراسات المعاصرة


المصدر
جيرون