عن تناقض التصريحات الأميركية… حول سورية



التصريحات التي أطلقها دونالد ترامب قبل عشرة أيام تقريباً متحدثاً فيها عن عزمه سحب القوات الأميركية من سورية في وقت قريب جداً، أحدثت بلبلة وحيرة في أوساط متابعي الشأن السوري وتقلباته الحارقة. وقد صدرت كالعادة تصريحات ومواقف عن مسؤولين كبار في الإدارة الأميركية واتخذت شكل تصويبات أو توضيحات لما اعتاد كثيرون على اعتباره خفة أو شططاً أو تسرعاً في كلام الرئيس الأميركي وولعه بالطنطنة الخطابية والصور البرّاقة.
وقد شاع اعتقاد بأن كل تصريح يتفوه به ترامب لا بدّ أن ينطوي على حماقة إنشائية. يجدر القول إن ترامب ساهم ولا يزال يساهم بقوة في تعزيز هذا الاعتقاد إلى حد أن متابعين كثيرين صاروا يقصرون جهدهم التفسيري على تقدير حجم الحماقة وتبعاتها لا على حصولها. ومع أن احتمال التهور والخفة يبقى حاضراً، فإن كلام ترامب عن انسحاب أميركي من سورية ارتسم هذه المرة كأحجية أو لغز، لا بل حتى كمناورة مدروسة تهدف إلى خلط الأوراق وجعل العديد من اللاعبين يضربون أخماساً بأسداس ويقلبون المسائل على مختلف الاحتمالات والأوجه.
يتعزز هذا الظن بالنظر إلى صدور الكلام بعد الإعلان عن وجود قواعد عسكرية اميركية في سورية وخصوصاً في منبج، والتلميح إلى بقاء القوة العسكرية الأميركية في سورية طالما اقتضت الحاجة هذا التواجد، أي خارج أي جدول زمني. معركة عفرين والتدخل التركي المباشر المعطوفان على تحذيرات تركية لإدارة ترامب من خطر الاعتماد على حسابات خاطئة في منبج يقعان في خلفية تقلبات المواقف والتصريحات الأميركية. وهذا ما جعل كثيرين في أوساط المعارضة السورية وفي أوساط الأكراد يشككون في صدقية الدعم الأميركي لهم. بل حتى تزايد الحديث في هذه الأوساط عن احتمال تخلٍ أميركي عن الورقة الكردية لتهدئة العلاقة مع حكومة أردوغان.
التضحية بقوى وبشر لحسابات واعتبارات استراتيجية ليست أمراً جديداً على كل حال. لكن صورة القوة الأعظم وصورة علاقتها بحلفائها وأصدقائها لا تزال محط اهتمام بعض الدوائر النافذة في الدولة الأميركية العميقة.
فقد نقلت وسائل الإعلام عن مسؤول أميركي رفيع المستوى تصريحاً يقول فيه إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وافق خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي الأميركي، انعقد قبل بضعة أيام، على بقاء القوات الأميركية في سورية فترة أطول. لكن ترامب طالب في الوقت ذاته، بحسب المسؤول الأميركي ذاته، بسحب القوات الأميركية ذاتها من سورية في وقت قريب نسبياً. هذا النوع من التصريحات المتضاربة أو المتفكّهة لم يعد يثير الاستهجان كما لا يستثير السخط على لعبة استخفاف بالعقول. فالتضارب المشار إليه يتعدى لعبة الغموض البناء المعهودة في الخطاب الديبلوماسي. فالحال أن متابعي تصريحات ترامب وأنشطته ما عادوا يحتاجون إلى الحفر والتنقيب في ثنايا الكلام بحثاً عن التماسك المفترض لخطاب سائد ومنتصر.
صحيح أن ترامب اختصّ أكثر من سواه في ترجيح النجومية الاستعراضية على الرصانة السياسية، لكنه لم يقصر الأمر على نفسه وعلى طريقته الفاقعة في تأدية وظيفته ومهمته، بل افترض أن ناخبيه هم، في منظار نرجسيته ونجوميته المنتفخة، أكثر بكثير من قاعدة انتخابية أيدته على برنامجه. إنهم جمهور المتفرجين المتفاعلين عاطفياً وانفعالياً مع أدائه الشخصي والمعجبين به. السياسة والفرجوية هما، في عرف ترامب وأمثاله، تعبيران مختلفان تقنياً وإجرائياً عن واقع واحد هو السوق كما يفهمه الرابحون.
يفترض ترامب أن جمهوره ينتظر منه المزيد من المشهدية ومن الوصلات المثيرة. وجاء الكلام عن تعويله على الحملة الانتخابية الرئاسية لتعزيز نجوميته الإعلامية ليعزز الظن بأن فوزه بالرئاسة هو انتصار للطلب الشعبي، بالأحرى الشعبوي، على اللمعان والفرجوية وتفوقهما على الاعتبارات الأخرى. في هذا الإطار استقر في الأذهان أن تصريحات ترامب، وتغريداته وزغرداته، هي من طراز الفقاعات الإعلامية والدعائية التي يتطلبها منطق السوق ولا ينبغي بالتالي حملها على محمل الجدّ. ولكن لا ينبغي أن نستبعد وجود قوى نافذة في الدولة العميقة يروق لها هذا النوع من المزاوجة بين السياسة واعتبارات المصالح وبين لعبة الاستعراض التي تخاطب حاجة الأنوات المرضوضة إلى تعويضات ومكافآت رمزية.
بالعودة إلى جانب التضارب في تصريحات وزقزقات ترامب، يمكننا ان نتذكر مواقف واقوالا مشابهة صدرت عن سياسيين ومرشحين للرئاسة يتصفون برصانة كبيرة وبرجحان عقل وانضباط قيمي بالمقارنة مع الصورة الشائعة عن تهورات وشطحات ترامب. فلنتذكر، على سبيل المثال لا الحصر، ما كانت تقوله في بداية الأزمة السورية هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية في إدارة باراك أوباما. فهي كانت تجمع في تصريح واحد ما يكفي من التناقض كأن تدعو بشار الأسد إلى الإسراع في إنجاز الإصلاحات المطلوبة مع التأكيد في الوقت ذاته على انه فاقد للشرعية. عندما ندقق النظر في مثل هذه التصريحات التي يمكنها ان تصدم أي طالب ثانوي نفهم بسرعة ان الشق الأول من التصريح يخاطب الروس ويعدهم باحترام القواعد الديبلوماسية للعبة فيما يخاطب الشق الثاني المعارضة ويدعوها لمواصلة المواجهة الجذرية مع النظام. كان هدف الإدارة الأميركية إطالة أمد المواجهة وتحولها إلى حرب أهلية مديدة لاستنزاف الجميع بعد وضعهم على محك اختبار صعب لوزنهم وحماية مصالحهم، ونعني تخصيصاً الروس والإيرانيين والقوى المتحالفة معهم. وكان الأميركيون يعرفون أن عناصر الحرب الأهلية متوافرة وفي مقدمها سلوك النظام القمعي واعتبار الدفاع عن مصالح نخبه الأمنية والاقتصادية بمثابة دفاع وجودي عن حياة فئات عريضة.
من مفارقات الأمور ربما أن قمة أنقرة التي ضمت رؤساء تركيا وروسيا وإيران حملت تصوراً وخريطة طريق لإنهاء النزاع في سورية، علماً بأن حسابات الأطراف الثلاثة غير متطابقة. أما القوة الأميركية والدول الغربية عموماً فهي لم تقدم حتى الآن سوى نهج سلبي يقوم على تعطيل خطة الخصوم والمنافسين، لا على تقديم وجهة واضحة للحل السياسي في سورية. في لعبة الصراع بين القوى الغربية، وفي مقدمها أميركا، وبين القوى الثلاث التي اجتمعت في أنقرة والمتصفة نظمها بالسلطوية، تعول القوى الغربية على أرجحية نموذجها وثبات مؤسساتها. وهذا ضعيف المعنى سياسياً.

(*) كاتب لبناني


الحياة


المصدر
جيرون