on
هل من خيارات أمام الثورة؟
منذ أكثر من عامين، والكل يرى عمليات الدحرجة بالقرارات الدولية، خاصة بيان (جنيف 1) الذي اعتبر الركيزة في الحل السياسي، والذي تمسّكت به المعارضة بكل جولات المفاوضات البائسة، دون أن تتمكّن من وضعه على جدول الأعمال، أو أن يبذل المجتمع الدولي الذي وافق عليه بعض ثقله، لإجبار النظام على الامتثال له.
جوهر القرار يتمحور حول إقامة هيئة الحكم الانتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية، والتي تشكّل من المعارضة والنظام “برضا الطرفين”، وعلى أساس أن تنبثق عنها مجموعة من الهيئات واللجان والمهام، كالبدء، مثلًا، ببناء الأجهزة الأمنية، وإعادة النظر بمؤسسة الجيش، وعلاج أوضاع المسلحين المحسوبين على الثورة، فتشكيل لجنة دستورية تضع مشروع دستور البلاد الذي يعرض على الاستفتاء العام، أو يقرّ من قبل المؤتمر الوطني العام، فالشروع بانتخابات رئاسية وتشريعية في بيئة مناسبة.
تشقلبت الأوضاع ومعها ذلك القرار الأممي؛ فخرج دي ميستورا، بما يعرف بـ “السلال الأربع” التي ظلّت فيها العملية السياسية الانتقالية السلة الأولى، وأضيفت سلة محاربة الإرهاب، بناء على إلحاح النظام ومحاولاته إحراج المعارضة، عبر إشاعة أنها ضد تلك الحرب، وأنها متحالفة مع التنظيمات الإرهابية، في حين أنها كانت المتضرر الأول منه، وبخاصة على مستوى “الجيش الحر” والفصائل المقاتلة، والذي خاض حروبًا عنيفة في أمكنة شتى ضد وجود (داعش)، وقدّم تضحيات كبيرة.
“الشقلبة” التي بدأت من بيان (فيينا 1)، ثم (فيينا 2)، فالقرار 2254 تعمّدت تمييع هيئة الحكم الانتقالي، واستبدال الصيغة ببعض التوصيفات الملتبسة، ثم إزاحة السلة الأولى، ووضع سلة الدستور والانتخابات وحيدتين، فالحديث المتعرّج والالتفافي عن “البيئة الآمنة الملائمة” للانتخابات، والتي تتضمن بعض مهام هيئة الحكم الانتقالي كـ “إصلاح”، أو بناء الأجهزة الأمنية، ومؤسسة الجيش، وبعض الخطوات الضرورية لضمان إجراء انتخابات نزيهة ما أمكن.
اضطرت المعارضة، التي أعلنت باستمرار قبولها للحل السياسي خيارًا رئيسًا، إلى الانتقال من تنازل إلى آخر دون أن تحصل على شيء، وظلّت جولات جنيف تدور في الفراغ، وتدوخ في التفاصيل الجزئية التي لا علاقة لها بالجوهر، وظلّ النظام رافضًا بإسناد روسي قوي.
في بداية الجولات، كان الائتلاف الجهة الوحيدة التي ضلعت في الأمر، ثم جاءت مقولات مستوى التمثيل، وضرورة وجود قوى معارضة أخرى، فكان (الرياض 1) الذي ضمّ هيئة التنسيق إلى جانب الفصائل العسكرية التي استحوذت نسبة تفوق نسبة الائتلاف، إضافة إلى المستقلين، فنزل تمثيل الائتلاف إلى قرابة الثلث، وقيام “الهيئة العليا للمفاوضات” التي قادت عدة جولات في جنيف، دون التوصل إلى أي نتيجة. مع ذلك ظلّت نغمة التمثيل مطروحة، خاصة من قبل الروس، حتى كان القرار 2254 الذي ذكر جهات معارضة أخرى “كالقاهرة وموسكو”، فكان (الرياض 2) الذي ضمّ المنصتين وعددًا واسعًا من المستقلين، وتراجع دور الائتلاف إلى أقل من الربع، وإلى السدس في وفد المفاوضات.
لطالما علّق الأوروبيون والأميركيون عبر السنوات على ضعف المعارضة، وعدم أهليتها لتكون البديل عن نظام الأسد، أكثر من ذلك، رددوا كثيرا قصة الأسلمة وطغيان الإسلاميين في المعارضة ومؤسسات الثورة، وكانت تلك المقولات تتناغم مع اتخاذ قرارهم بمنع الحل العسكري، وتجاوز قصة اللاغالب واللامغلوب، إلى إخلاء مسؤوليتهم عن القيام بدورهم المأمول، وكأنه تفويض غير معلن لروسيا، كي تستحوذ على الملف السوري، وتمارس فعل تقويض أماكن تواجد المعارضة المسلحة وفرض وقائع جديدة على الأرض لصالح النظام، ثم الحديث شبه الجماعي الذي استمعنا إليه من مسؤولي تلك الدول، ومن عرب أيضًا، بأن علينا الإقرار بعدم حسم المعركة مع النظام، وانتقاله إلى المبادرة واسترجاع عدد من المناطق التي كانت محررة، وفرض ما يعرف بالمصالحات شبه الجبرية، ومناطق خفض التصعيد، وأن علينا أن نقرّ -معهم- ببقاء الأسد وخوضه الانتخابات القادمة!
حين يصل الحل السياسي إلى الطريق المسدود، أو يكون مخالفًا لأدنى حقوق الثورة، وحين يغلق الباب أمام العمل العسكري، ويتوقف الدعم بأبسط مستوياته، وتُلجم الفصائل عن القيام بأي عمل؛ هل يمكن إعلان الاستسلام، والإقرار بالهزيمة الشاملة للثورة، والاستقالة من العمل السياسي، أو الانصياع لشروط النظام والالتحاق بهوامشه؟ أم أن ثورة عظيمة قدّمت كل هذه التضحيات، وما زال المنتمون إليها مؤمنين بها ويملكون إرادة الصمود، لا ينبغي لها أن ترفع الراية البيضاء، أم هناك خيارات أخرى يجب ولوجها؟
لا يمكن لثورة بهذه الضخامة أن لا تملك خيارات بديلة، وهي موجودة في صلب المنتسبين إليها، وفي استعدادهم لمزيد البذل والعطاء. نعم البديل موجود، ويتلخص بالعودة إلى الشعب وفعالياته، وتغيير الأساليب والخيارات، وتطوير الخطاب، وتحديد الأولويات، فالشعب هو الحاضن، وهو المرجعية، وهو السيد المسؤول عن تواصل الثورة، وهناك مجالات مفتوحة للبدائل، كما أن البيئة مناسبة لوضع خطط عمل قابلة للحياة.
المعركة طويلة وقد تستغرق سنوات، بما يعني التوجه نحو البديل الشعبي الذي ابتعدت الهيئات القائمة عنه، وراهنت على حل سياسي لا يبدو متاحًا، بل إن المطروح في تسوية سياسية لا يلبي الحد الأدنى لمطالب الثورة، ويبقي على رأس النظام المجرم.
إن البديل لا يعني إلغاء جولات المفاوضات السياسية، ولا العلاقات الدولية ومع الأصدقاء، وإنما وضعها في مكانها الصحيح، بالتوازن مع ما يمكن فعله على صعيد القوى الشعبية، وفي المناطق المحررة الأكثر تهيئة للنهوض من جديد، واستلهام روح الثورة السلمية والشعبية وتكريسها، وتغيير أساليب العمل العسكري بالانتقال إلى أنواع من المقاومة الشعبية، والعمليات النوعية المنبثقة عن استراتيجية يجسدها برنامج عملي واقعي.
إن هناك وعيًا جديدًا يتنامى بين المنتمين إلى الثورة، بعد هزيمة حلب وخسارة الغوطة، ويجب توظيفه في مشروع نهوض جديد يستوعب الدروس ويتجاوز الأخطاء، كما أن مساحات كبيرة متاحة للعمل، في مناطق عفرين و(درع الفرات) والجنوب والجزيرة والفرات وإدلب، لتشكيل حالة ثورية، يمكن أن تقلب موازين القوى، وتبني معادلة صحيحة قادرة على انتزاع الحق، وتجسيد الآمال.
عقاب يحيى
المصدر
جيرون