on
أطفال اللجوء بين الاندماج والتدجين
كان طفلي الأوسط يقرأ مجلة أطفال جاء بها من المدرسة، وهو مطرق برأسه. بعد انتقاله إلى السويد، لاحظت أنه مغتم قليلًا وليس على ما يرام، سألته عما يشغله، قال لي: عندما كنا في السعودية، كان بعض التلاميذ يزعجونني لأني غير سعودي، وهنا لا يوجد تلميذ سويدي واحد يسبب لي الإزعاج! قلت له: إذن أنت اليوم أحسن حالًا! ردّ علي: لا، هناك في السعودية كان البعض يزعجني، لأنهم كانوا يرونني، هنا لا أحد يراني!
ربما تكون هذه الحالة بسيطة جدًا كحالة فردية، لكن في السياق العام ثمة تحد كبير، أمام عدد هائل من الأطفال الذين هاجروا مع أهلهم أو من دونهم، في مجتمعات جديدة كليًا، مجتمعات لا يملك المهاجرون إليها معرفة حقيقية بها، فكل ما لديهم تصورات ودعايات، لا تعطي فكرة واقعية وملموسة. يضاف إليها صعوبة استيعاب القوانين والأنظمة النافذة، لافتقاد اللغة والخبرة، والتعرض لمصادر معلومات غير صحيحة، تسرب إليهم مفاهيم ومخاوف غير حقيقية.
يشعر معظم الأطفال بأنهم تحت الرقابة؛ إذ إن متابعتهم لا تتطابق مع رعايتهم، ففي جوانب الرعاية ثمة بيروقراطية ثقيلة ومملة، لكنهم فجأة يجدون أنفسهم عرضة للتحقيق في رغباتهم وشؤونهم في المدرسة أو المنزل، أو في أفكارهم ونشاطاتهم واستجاباتهم، وثمة استغراب يتملكهم مع الأسئلة التي تشكك بعلاقاتهم مع ذويهم، عبّر عنها طفل بسؤال والدته: أمي، ألا يعلمون في المدرسة أن الأم تحبّ طفلها أكثر من حبها نفسها؟! وإذا كان بعض الأطفال سرعان ما ينسجمون مع أترابهم في المدرسة، فإن ثمة أطفالًا آخرين يجدون صعوبة بالغة لأسباب كثيرة، منها اللغة المليئة بالألفاظ النابية، أو السلوكيات الجريئة والنشاطات الخطيرة، أو ما يتم تداوله من معلومات تخص الجنس أو تعاطي الممنوعات. وأحيانًا تتطور بعض العلاقات التي قد تذهب باتجاه نشاطات إجرامية.
أما عند ذوي المهاجرين، فقد نمت وتنمو باضطراد فوبيا فقدان الأطفال، وهي فوبيا متعددة الأوجه، بين العاطفة والمسؤولية العقدية والاجتماعية، إلا أن هذه الفوبيا لا تقترن فقط بالحالات التي تتدخل فيها مؤسسات الرعاية الاجتماعية (السوسيسال)، إنما تتصل بكل المؤسسات المعنية بالطفولة، كالمدرسة والمستوصف وعيادة طب الأسنان… بل إنها تكون حاضرة في كل تفاعلات الأسرة المهاجرة مع مجتمعها الجديد: الجيران والأسواق ووسائل المواصلات ومواقع العمل وزملاء المهنة. فالاختلاف، بين النسق العائلي الشرقي والنسق العائلي الغربي، عميق وواسع، وثمة معادلة تحضر في أي احتكاك بين النسقين، ترجح الكفة من دون نقاش لصالح النسق الغربي، لأنه، قبل كل شيء، يتفق وينسجم مع القوانين الضابطة والحاكمة والصارمة بآن واحد.
يضاف إلى كل هذه المخاوف البيضاء، أي الظاهرة والقانونية، مخاوف أخرى سوداء جدًا، ذلك أن الحساسية العالية تجاه مسألة الحرية، مع تداخلاتها مع حقوق الطفولة، والتي لا تكتفي بضبط سلوك أولياء الأمور، بل توصلهم إلى حالة عجز وحيرة، إزاء رغبات أبنائهم الطارئة أو الخطيرة أو غير المناسبة، ولا سيّما في عمر المراهقة الذي يبدأ مبكرًا من خلال المدرسة نفسها، حيث تهيئ مناخات يكون فيها الأطفال عرضة لممارسات وسلوكيات بعيدة من أنظار أسرهم أو قدرتهم على ضبطها، والمؤسسات المسؤولة عنهم بحد ذاتها تفتقد الإجراءات المحصنة، وهو ما يجعلهم عرضة للاستغلال والإدمان والجريمة، جناة وضحايا؛ هم ضحايا هذه الظروف، وهذه الحالة ليست ضيقة ومحدودة، بل إنها تكاد تكون مهيمنة وخاصة في المدن. الأمر الذي دفع نسبة كبيرة إلى الالتجاء إلى القرى والبلدات الصغيرة، أو محاولة لملمة شتات الأهل في الغربة.
معظم الحنين و(النوستالجيا)، عند المهاجرين إلى بلادهم التي هاجروا منها، إنما يتفاقم بسبب هذه المخاوف وما يتحقق منها، وإن كانت الغربة والوحشة هي الأساس. ما يعزز هذه المخاوف نسق جديد من العلاقة، بين المسؤولين والموظفين في المؤسسات المعنية بالطفولة والرعاية الاجتماعية والطبية، وبين ذوي الأطفال حتى سن 18، ويزيد من تجذر هذا النسق الحوادث القليلة نسبيًا والتي أخذت صدى كبيرًا وصادمًا، عند سحب أطفال بعض الأسر، بسبب ممارسات عنف أسري. النسق الجديد الذي يتصاعد يلاحظ في سلوكيات الموظفين، وبخاصة الموظفين الذين تمّ تعيينهم من دون تأهيل عال، وذلك بسبب الحاجة الماسة للمؤسسات إلى موارد بشرية وفيرة، لتغطية العدد الهائل من أطفال المهاجرين الذين قدموا في فترة قصيرة. ثمة نبرة متعالية ومهددة في حديث وسلوكيات هؤلاء الموظفين، تجاه أولياء الأمور القلقين من الحالات التي حدثت، هذه النبرة تتفاقم عندما تجد لها صدى عند أولياء الأمور. وعلى الرغم من أن الأمر لا يتم هكذا بسهولة، إنما تكون إجراءات سحب الأبناء، بعد تحذير وتنبيه، فإن مجرد الإشارة بحد ذاتها تجعل الأسرة تحت الملاحظة، وإذا حضرت مؤسسة الرعاية الاجتماعية لمرة واحدة؛ فإنها لن تخرج، بل تعكر حياة الأسرة برقابة وارتياب مستمرين. وهو ما يحذر منه معظم المهاجرين؛ لأنهم يعلمون أن الفكاك منها شبه مستحيل.
ثمة إجراءات تخص الدول الأوروبية ذات التعداد السكاني القليل نسبيًا، فمع الحرص الذي تبديه للحفاظ على اللغات الأم للأطفال، فإن نظرية الاندماج مع المجتمع هي أقرب إلى عملية تدجين، فالاندماج يتداخل مع أسس الهويات الخاصة الثقافية والعقدية والاجتماعية، وحرية الرأي والتعبير لا تعني حرية الإرادة والقرار؛ ذلك أن الإرادات والقرارات الخاصة تقع تحت ضغط القوانين المسبقة، وما يتبعها من عقوبات غالبًا ما تكون مادية تعكر حياة من تطبق عليهم، وبخاصة المهاجرين الجدد الذين يعانون ظروفًا صعبة في التكيف مع مختلف أوجه الحياة.
مسألة القيم الخاصة تتعرض إلى هزات كبيرة، وخاصة مع القوانين التي تهتم بالشأن الفردي، بحساسية لا تترك للشأن الأسري أثرًا كبيرًا، فتقديم الطفل -مثلًا- على الأسرة في القوانين يعقد حالة الأسرة وارتباطها العاطفي، فيتحول الوالدان إلى حالة شبيهة بحالة ما يسمى: (Good Man)، وهو شخص يعمل كولي أمر للطفل الذي لا ولي أمر له، مقابل راتب محدد، الاختلاف هنا يكاد ينحصر في أن الوالدين لا يقبضان رواتب بالضرورة لقاء اهتمامها بأطفالهما. الحفاظ على الثقافة الخاصة في تربية الأبناء يصبح أقرب إلى المستحيل، لأن الأنساق الثقافية المختلفة (المهاجرة) تدان تلقائيًا، عندما تقاس بالنسبة إلى النسق الثقافي السائد، والذي يشكل فضاء القوانين والتشريعات والمناهج، وعندما يتم شرح التنوعات والاختلافات، فإنها تؤخذ على محمل الاختراقات والمخالفات. لا شك أن العمل على تنقية الاندماج من التدجين عملية عسيرة، فالاندماج يعني شيئًا من التنميط والتدجين، لكنه يتيح مساحة الاختلاف من دون أن يخل بحقوق الإنسان أو الطفل، المقرة وفق التشريعات الأممية والدولية. إعادة النظر في فحوى ومعاني الاندماج هي اليوم ضرورة حقيقية، بالنظر إلى التغيرات الديموغرافية الدراماتيكية، حتى إذا تمت هذه الإعادة بمعنى المراجعة، وإمكانية فتح هامش للاختلاف.
عبد الواحد علواني
المصدر
جيرون