جنوب سورية بين الانفجار والاستقرار



 

الفهرس

مقدمة

أولًا: الغوطة وجبهة الجنوب

ثانيًا: نوايا روسية مُبيّتة

ثالثًا: الغموض الأميركي المستمر

رابعًا: إدارة الحرب ومناطق خفض التصعيد

خامسًا: مخاطر واحتمالات

خاتمة

 

مقدمة

في 12 آذار/ مارس 2018، قصف سلاح طيران النظام السوري بلدات تُسيطر عليها المعارضة السورية في جنوب البلاد، في أولى الضربات الجوية على هذه المنطقة منذ أن توصلت الولايات المتحدة وروسيا -بمشاركة الأردن، و”إسرائيل” بشكل غير مباشر- في 7 تموز/ يوليو العام الماضي إلى اتفاق على جعلها “منطقة عدم تصعيد”، وأثارت هذه الضربات الجوية تساؤلات حول ما يُخطط لهذا المثلث الجنوبي الغربي لسورية على الحدود مع فلسطين المحتلة والأردن في المدى القريب، خاصة أن الولايات المتحدة لم ترد على هذا الخرق لهدنة ترعاها.

ثماني ضربات جوية نُفّذت على مناطق ريفية في محافظة درعا، التي باتت واحدة من منطقتين في سورية لا تزال المعارضة المسلحة تسيطر عليها، إضافة إلى إدلب قرب الحدود مع تركيا، بعد أن استولت قوات النظام والميليشيات الرديفة لها على القسم الأكبر من الغوطة الشرقية في ريف دمشق مطلع نيسان/ أبريل الجاري.

ترافقت هذه الضربات الجوية مع حشود عسكرية لقوات النظام السوري على خطوط التماس مع قوات المعارضة، وقرب بلدات استراتيجية قريبة من الحدود مع الأردن، وحدوث بعض المناوشات العسكرية بين الطرفين لم تحدث منذ سنة، لم تتطور لمستوى معارك.

ولأن منطقة جنوب سورية هي منطقة استراتيجية تهم، إضافة إلى الولايات المتحدة، كلًا من “إسرائيل” والأردن، كان يُعتقد أن خرق الهدنة (وقف التصعيد) التي ترعاها الولايات المتحدة أمر مستبعد، بل وخطير في جانب كبير منه، لأنه سيُفهم تحديًا مباشرًا لواشنطن وتل أبيب وعمان، ودفع هذا الأمر للاعتقاد بأن الولايات المتحدة عقدت صفقة ما مع روسيا لإطلاق يدها في جنوب سورية.

أولًا: الغوطة وجبهة الجنوب

في 18 شباط/ فبراير 2018 بدأ النظام السوري تكثيف هجماته الجوية والبرية على الغوطة الشرقية في ريف دمشق، تمهيدًا لاجتياحها، وألمح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن مصير الغوطة الشرقية سيكون مشابهًا لمصير حلب الشرقية التي أُخرج منها مقاتلو المعارضة عام 2016 بصفقة رعتها تركيا، ومع تواصل القصف المدفعي والجوي، وارتفاع عدد الضحايا بصورة كبيرة جدًا، تجاوزت الألف قتيل خلال الأسابيع الأولى، بدأت ترتفع أصوات استنجاد لنصرة الغوطة، موجّهة خاصة إلى فصائل المعارضة السورية في جنوب سورية، والتي تُعتبر الأقرب جغرافيًا لهذه المنطقة من ريف دمشق، والأكثر انضباطًا ضمن تشكيلات ما زالت تُسمي نفسها (الجيش السوري الحر).

بعد أن ركزت قوات النظام السوري جهدها على الغوطة الشرقية، وازدادت شراسة حملاتها، وانتهاكها لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2401 الصادر في 24 شباط/ فبراير الداعي إلى وقف إطلاق النار في سورية، وفي الغوطة الشرقية بريف دمشق على وجه الخصوص، عقدت فصائل المعارضة المسلحة في جنوب سورية اجتماعًا لبحث وسائل الضغط الممكنة على النظام لوقف حربه ضد الغوطة الشرقية، واتفقت على تعليق اتفاقية خفض التصعيد وتشكيل غرفة علميات مشتركة، وعلى تحديد ساعة صفر في وقت لاحق لشن هجمات عسكرية ضد مواقع النظام في الجنوب السوري كما قام مجلس حوران الثوري بتنظيم تظاهرات تضامنًا مع مأساة الغوطة الشرقية، ودعا إلى أن يكون قيام الثوار بعمل عسكري جنوب سورية مدروسًا ومنظمًا، إلا أن الوقائع سارت في غير هذا الاتجاه، بعد الاجتماع الذي عقد في عمان بناءً على طلب الولايات المتحدة، ونتيجته لم تفتح فصائل الجنوب جبهاتها ربما نتيجة تعليمات أميركية.

بدت الغارات الجوية التي قام بها سلاح الطيران التابع للنظام السوري كأنها ضربة استباقية وتحذير لمقاتلي المعارضة و(الجيش السوري الحر) الذين يخططون لشن هجمات لفك الحصار وتخفيف الضغط الواقع على رفاقهم في الغوطة.

باتت المعارضة السورية تخشى أن تعود قوات النظام لمهاجمتها في جنوب سورية بمجرد تحقيق مكاسب في الشمال وفي الغوطة. وتقول المعارضة إن مناطق عدم التصعيد تيسر لقوات النظام تحقيق مكاسب على الأرض في مناطق أخرى، وتتوقع أن يبدأ الجيش هجومًا في محاولة لاستعادة الجنوب بعد انتهاء حملة الغوطة.

ومذكرة التفاهم الموقعة حول مناطق تخفيف التوتر في جنوب سورية، التي تم اعتمادها في تموز/ يوليو مددها الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وهي تؤسس لوقف إطلاق النار بين قوات النظام وفصائل المعارضة المسلحة، وتنص على تحويل مناطق جنوبي القنيطرة والسويداء إلى شريط مغلق أمام المقاتلين من أصول غير سورية، بمن فيهم العسكريون الإيرانيون وميليشيات (حزب الله) اللبناني الموالية لإيران، والمقاتلون الدائرون في فلك تنظيمي (القاعدة) و(داعش)، وجوهره إزالة قلق “إسرائيل” من نشاط أولئك المقاتلين على مقربة من الجولان السوري المحتل. كما ينص الاتفاق على الحفاظ على نظام الأمن القائم في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة للحيلولة دون وقوع هذه المناطق تحت سيطرة النظام. لقد خفف هذا الاتفاق حدة القتال، لكنه مهدد بالانهيار في أي لحظة كما حصل في مناطق وقف التصعيد في إدلب والغوطة.

ثانيًا: نوايا روسية مُبيّتة

يأتي خرق النظام السوري لاتفاقية مناطق خفض التصعيد في جنوب سورية، في عقب اجتماع عقده رئيس مركز المصالحة الروسي الأدميرال كوليت فاديم مع أعضاء (لجنة المصالحة الوطنية) في المنطقة الجنوبية في مبنى المحافظة بمدينة درعا في 21 شباط/ فبراير، حيث هدّد بشكل مباشر بنقل العمليات العسكرية إلى المنطقة الجنوبية بعد إنهاء ملف الغوطة الشرقية، بهدف استعادة السيطرة على الأجزاء الخاضعة لسيطرة المعارضة، وطالب الحاضرين بإيصال رسائل شديدة اللهجة لفصائل (الجيش الحر) في درعا لتسوية أوضاعهم وتسليم سلاحهم قبل أن يتقرر الهجوم العسكري على المنطقة، كما قال إن “وجود تنظيمات متطرفة في مناطق سيطرة المجموعات المتمردة جنوبي البلاد يهدد اتفاقية خفض التصعيد بشكل خطير”، وهي الذريعة التي يتعلق بها الروس والنظام السوري لتبرير أي عملية عسكرية يشنونها حتى لو على مناطق سكنية خالية من المسلحين تمامًا.

لا تعمل في جنوب سورية فصائل متطرفة وفق التصنيف الدولي، ويوجد جيوب صغيرة جدًا مُسيطر عليها من قبل فصائل المعارضة المسلحة، ومحاصرة ولا تتحرك من حدودها المرسومة، على الرغم من أن النظام حاول أكثر من مرة فتح ثغرات لمقاتلي (جيش خالد بن الوليد) الذي يدين بالولاء لتنظيم (داعش) للخروج والانتشار في المنطقة، ومنعت فصائل المعارضة حصول ذلك.

ردًا على تهديد المعارضة السورية في الجنوب بمؤازرة أهل الغوطة، نشرت القناة المركزية لقاعدة حميميم بيانًا جاء فيه: “لا نعتقد أن التنظيمات المتمردة جنوب سورية لديها الجرأة الكافية لاتخاذ قرار بمهاجمة مواقع القوات الحكومية تنفيذًا لتهديداتها، هذه المنطقة تخضع لاتفاقية خفض التصعيد ومن غير المقبول انتهاكها تحت أي ذريعة”.

إلى ذلك، حشد (حزب الله) اللبناني قواته على تخوم حوران، على الرغم من أن اتفاقية وقف التصعيد تقضي بابتعاد هذه الميليشيات وأي ميليشيات تتبع لإيران إلى مسافات تضمن أمن “إسرائيل”، وهذا الحشد من قبل الحزب اللبناني – الإيراني أثار شكوكًا حول جدّية الاتفاقية ومدى صرامتها.

سعت روسيا كذلك عبر اللجنة الأمنية المكلفة بمتابعة ملف المصالحات إلى التواصل مع أكثر من 33 قرية وبلدة ومدينة خارجة على سيطرتها، من خلال شخصيات منها، لإغراء الحاضنة الشعبية بعرض المصالحة تارة والتهديد بإنهاء قرار خفض التصعيد تارة أخرى، تجنبًا للمواجهة العسكرية في الوقت الحالي، لكن هذه المساعي لم تُثمر عن شيء حتى الآن.

بات واضحًا أن الروس يكيلون بمكيالين، فهم يسمحون لقوات النظام ولأنفسهم بخرق الهدنة، ولا يسمحون للمعارضة بذلك، ويهدِّدونها إن فكّرت بالتحرك في هذا الاتجاه، وبات واضحًا أيضًا أنهم ربطوا انهيار هدنة مناطق خفض التصعيد في الجنوب السوري باستمرار العمليات العسكرية في الغوطة الشرقية.

ثالثًا: الغموض الأميركي المستمر

تعرضت فصائل المعارضة في جنوب سورية لانتقادات واسعة بسبب التقاعس في مساندة الغوطة الشرقية ونصرتها أمام الحملة الشرسة التي شنها النظام السوري في الآونة الأخيرة، وتُنبّه هذه الأصوات المنتقدة من أن معظم المؤشرات والتصريحات لمسؤولي النظام وللروس تقول إن درعا ستكون الوجهة المقبلة لقوات النظام بعد الغوطة الشرقية.

لكن ما لم يؤخذ في الحسبان من قبل المنتقدين، أنه في عقب تهديد فصائل العارضة المسلحة الجنوبية وإعلانها تعليق اتفاقية خفض التصعيد ونيّتها شن هجمات عسكرية ضد مواقع النظام، تلقت فصائل المعارضة الجنوبية رسالة من “القسم السياسي للفريق الأميركي” في عمان مفادها أن “المعاهدة القائمة في الجنوب هي معاهدة شبه ثابتة بفضل تعاونكم، وبفضل الإرادة الأميركية في الحفاظ عليها، ولو على منطقة واحدة للمعارضة المعتدلة لتكون ربما في المستقبل الطريق للحل الشامل في سورية”، وأن “إشعال حرب الآن ضد النظام في الجنوب سيعطي للنظام وروسيا الذريعة المطلوبة لأن يقتلا المزيد من المدنيين ويحتلا المزيد من الأراضي، ويكسرا الهدنة التي من خلالها نستطيع أن نفاوض الروس من أجل الحل”، وعليه “فإننا نحثكم على ضبط الأعصاب، والتفكير مليًا في أهلكم من المدنيين، وعدم إعطاء الذرائع للنظام لقصفكم والقضاء على آخر معقل للمعارضة المعتدلة في سورية”.

اعتبرت الولايات المتحدة خرق النظام لاتفاقية خفض التصعيد “انتهاكًا” من قبل النظام السوري، و”تهديدًا بتوسيع نطاق الصراع”، و”يجعل التعاون في المستقبل أكثر صعوبة”، لكن، للتخفيف من تداعيات خرق النظام للهدنة التي يرعاها ويضمنها البيت الأبيض، سارعت الولايات المتحدة إلى عقد اجتماع عاجل في الأردن لغرفة عمليات (الموك)، وبقيت التخمينات مستمرة لأن الولايات المتحدة لم تُعلن عن أي نتائج لهذا الاجتماع.

إذًا، عدم تحرك فصائل المعارضة المسلحة في جنوب سورية يعود إلى ضغوط مباشرة مورست من قبل الولايات المتحدة والتحالف الدولي، اللذين يسعيان لبقاء التهدئة في المنطقة الجنوبية قائمة، وهناك أيضًا أسباب غير مباشرة، تتعلق بالبيئة الحاضنة لهذه الفصائل، على رأسها عدم وجود رغبة شعبية في تلك المناطق لخوض أبنائها معارك هجومية مع القوات النظامية، لأن ذلك سيؤدي إلى قصف تلك المناطق، ما سينتج عنه موجات نزوح أرهقت جنوب سورية وأفرغتها من أكثر من نصف سكانها خلال سبع سنوات، فضلًا عن أن بعض الفصائل المناطقية في الجنوب تهتم باستقرار مناطقها، فأغلبها مبني على شكل مناطقي، وتخشى من أن يؤثر العمل العسكري الجماعي على قوتها، أو أن يجعلها وحدها هدفًا لقوات النظام السوري.

صحيح أن فصائل المعارضة السورية في الجنوب تعقد تحالفات فيما بينها، لكن في الحقيقة والواقع ما زال كل فصيل مستقلًا بسلاحه ومناطقه وسلطته، وهذا الأمر يجعلها ضعيفة، والحوادث الجارية في الجنوب تجاوزت هيكلة فصائل (الجيش الحر)، التي تعرف أنها بتفرقها ضعيفة، وباتت تنتظر تدخلًا خارجيًا، ما جعل درعا ورقة مناورة بين الروس والأميركيين، وباتت تُدرك أن الحل الوحيد أمامها لإحداث تغير نوعي هو تغيير نمط علاقة الفصائل ببعضها بعضًا والاندماج عمليًا.

الأردن، حليف الولايات المتحدة، بدأ بدوره يشعر بقلق من أن يؤدي أي انهيار محتمل في الهدنة ومناطق خفض التصعيد في الجنوب إلى تفجر كبير للعنف وفرار عشرات الآلاف من اللاجئين من درعا، والتوجه إلى ملاذ آمن في الأردن التي تستضيف أصلًا ما لا يقل عن 600 ألف لاجئ سوري من أصل مليون ومئتي ألف سوري مقيم في الأردن، كما يخشى من امتداد العنف إلى المملكة في حالة اندلاع معركة كبيرة عند حدوده.

راقب الأردن عن كثب الأوضاع في الغوطة الشرقيّة بسبب مخاوفه من احتمال أن يشن النظام السوري هجومه المقبل ضد محافظة درعا الجنوبية، وطالب وزير الخارجيّة الأردني أيمن الصفدي في 6 آذار/ مارس بوقف فوري لإطلاق النار في الغوطة على غير عادة الأردن التي لا تتدخل فيما يجري من معارك في سورية.

ويستضيف الأردن مركزًا للمراقبة يديره بدعم لوجستي روسي؛ لمراقبة انتهاكات وقف إطلاق النار، ولتكثيف التعاون الاستخباري، وتعول موسكو على عمان في الضغط على فصائل (الجيش السوري الحر) التي تعمل في جنوب سورية للحفاظ على الهدنة، في حين يُطالب الأردن روسيا بالضغط على قوات النظام كي لا تخرِّب منطقة عدم التصعيد.

في هذا السياق، كان الملك الأردني عبد الله الثاني قد سبق وأثنى على نجاح اتفاق الهدنة في جنوب سورية، وقيل بعد زيارته الأخيرة إلى موسكو في 15 شباط/ فبراير حيث التقى بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن روسيا قد طلبت مساعدة الأردن في تحقيق الاستقرار في المنطقة الجنوبية الآمنة، لكن الواقع يُشير إلى أن النفوذ والقرار في تلك المنطقة هو أميركي، والأردن عبارة عن مدير تنفيذي للاستراتيجية الأميركية هناك.

أما “إسرائيل”، فنظريًا، يُساورها القلق نفسه الذي لدى الأردن، من أن تتخذ الميليشيات الموالية لإيران، وعلى رأسها (حزب الله) مواقع قريبة من مرتفعات الجولان والحدود الشمالية للأردن، ما يُشكّل خطرًا على الأمن القومي الإسرائيلي.

رابعًا: إدارة الحرب ومناطق خفض التصعيد

في اجتماع عقدته في 4 تموز/ يوليو 2017 في “أستانا” حول القضية السورية، أخفقت الدول الثلاث، روسيا وتركيا وإيران، في الاتفاق على أي شيء يتعلق بوقف إطلاق النار، وقاطعت هذا الاجتماع جميع فصائل المعارضة المسلحة السورية العاملة في جنوب سورية، وحاول الروس الضغط عليهم، والتلاعب على التمثيل، على أمل تمرير اتفاق يتوافق مع مصالحها مجتمعة.

وفيما كانت هذه الدول الثلاث تحاول عقد اتفاقيات سرّية فيما بينها، وكان الجميع يعتقد أن الاتفاقات الدولية من المفترض أن تتم في العاصمة الكازاخية، تبيّن أن مؤتمر “أستانا” الذي ترعاه روسيا لا يعني شيئًا، إذ سرعان ما أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 8 من الشهر نفسه في مدينة هامبورغ الألمانية، في عقب لقاء بين الرئيسين الأميركي والروسي على هامش قمة مجموعة العشرين، عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في جنوب سورية. سرعان ما رحّبت “إسرائيل” بالاتفاق، وشدّدت على ضرورة أن يترافق هذا بإنهاء كل وجود عسكري لإيران ووكلائها في جنوب سورية بشكل خاص.

ساعدت اتفاقية وقف التصعيد التي وقعها الأميركيون مع الروس في جنوب سورية في خفض العنف وتراجع مستوى التدمير والقتل، والتزمت فصائل المعارضة السورية بها بنسبة كبيرة، وكذلك فعل النظام، ربما مُرغمًا هذه المرة، على عكس مناطق خفض التصعيد في إدلب والغوطة، على اعتبار أن خفض التصعيد في هذه المنطقة تحت رعاية الولايات المتحدة، بينما في المناطق الأخرى الراعي والضامن هو ثلاثي “أستانا”، روسيا وإيران وتركيا، وهناك فرق بين هذين الراعيين والضامنين.

في الغوطة وإدلب، خرق النظام السوري والروس والإيرانيون هدنة وقف التصعيد عشرات المرات، واستخدموا الطيران والمدفعية في هذا الخرق، وفي بعض الحالات استخدموا أسلحة كيماوية محرّمة دوليًا، وقتلوا مئات المدنيين في هجمات على مناطق خفض التصعيد في سورية، وفشل هذا الاتفاق في خفض العنف وحماية المدنيين، بينما لم يشهد جنوب سورية مثل هذه الخروقات الكيفية والعشوائية والمتكررة.

في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، بدأت قوات النظام وروسيا هجومًا في شمال حماة وإدلب، وفي كانون الأول/ يناير 2018 كثفت قوات النظام من هجماتها في إدلب والغوطة الشرقية، وفي شباط/ فبراير شنت هجومًا كبيرًا على المعارضة في الغوطة الشرقية، وتسبب كل هذا التصعيد بدمار المشافي والمنشآت الطبية في معاقل المعارضة، وزاد وضعها سوءًا على سوء.

كانت المنطقة الجنوبية من سورية بمنأى عن هذه المعارك، على الرغم من محاولات إيران عبر ميليشياتها وعلى رأسها (حزب الله) تسخين المنطقة الجنوبية، وخرق المجال المرسوم لها من قبل الأميركيين (ابتعاد تلك الميليشيات عن حدود الأردن مسافة 40 كم)، فيما أشارت تقارير إلى وجود خلافات بين قوات النظام وميليشيات الحزب، وإلى خروج هذه الميليشيات على سيطرة النظام ومن خلفه روسيا، مع ما يسببه هذا من إحراج سياسي لروسيا أمام “إسرائيل” والولايات المتحدة.

هناك وهم حول مبادرة (مناطق خفض التصعيد) التي أطلقها الروس والإيرانيون والأتراك في العاصمة الكازاخية “أستانا” في شهر أيار/ مايو 2017، فهي في الواقع لم تُساعد على وقف شامل لإطلاق النار، ولا حتى على وقف جزئي، ولم تحمِ المدنيين، كما لم تفك الحصار عن المناطق المحاصرة، ولم تستطع إدخال المساعدات إلى السكان في هذه المناطق، على الرغم من أن كل الخروقات والهجمات التي ارتكبها النظام والروس حصلت في مناطق تخلو، أو تكاد تخلو، من مقاتلي (تنظيم الدولة الإسلامية-داعش) أو (فتح الشام – جبهة النصرة).

على العكس، أثيرت شكوك حول تلك الاتفاقية، وأنها صُممت لمساعدة رأس النظام السوري بشار الأسد، خاصة أن راعيها وضامنها هو روسيا، الحليف القوي والشرس للنظام السوري، والمعادي للمعارضة السورية، السياسية والعسكرية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، لأنها وسّعت بالفعل مناطق سيطرته، وأكسبته راحة عسكرية يحتاج إليها لإعادة توزيع القوات وانتشارها.

في الأشهر الأولى التي تلت توقيع الاتفاق، صمدت مناطق خفض التصعيد، ما عزز الاعتقاد بأن الصراع بدأ ينحسر تمهيدًا لتسوية سياسية شاملة، لكن حالما انخفضت وتيرة القتال، أعاد النظام السوري والميليشيات الإيرانية التموضع، وبدأت قوات النظام بتفعيل الجبهات في إدلب وحماة والغوطة الشرقية، ودائمًا بمساعدة سلاح الجو الروسي، الذي شن هجمات عنيفة للغاية ضد المعارضة في مناطق خفض التصعيد، ودائمًا أيضًا بحجة محاربة الفصائل المتشددة الإرهابية، وسادت قناعة واسعة النطاق، محليًا ودوليًا، بأن اتفاق خفض التصعيد قد استُخدم لمساعدة النظام السوري على ضبط توقيت معاركه، والاختيار فيما بينها، وترتيب أولوياته فيها.

خامسًا: مخاطر واحتمالات

من شأن الانهيار المحتمل لمنطقة خفض التصعيد في جنوب سورية أن يُغيّر مسار اللعبة بالنسبة إلى كل من الأردن و”إسرائيل” على وجه الخصوص، وقد تدفعان بثقلهما لإقناع الولايات المتحدة أن تتراجع عن أي نيّة لرفع يدها عن ضمان هدنة الجنوب السوري.

يوجد في جنوب سورية أطراف فاعلة كثيرة، الولايات المتحدة، “إسرائيل”، الأردن، روسيا، إيران، والنظام السوري والميليشيات المرتبطة بإيران، فضلًا عن (الجيش السوري الحر)، ولا شك في أن الولايات المتحدة وروسيا تأخذان على رأس الأولويات مصالح “إسرائيل”، وبدرجة أخف مصلحة الأردن، ولا شك في أن مصلحة الطرفين أيضًا تكمن في ألّا تندلع مواجهة بين “إسرائيل” وإيران في جنوب سورية، ولا أن تندلع مواجهة عسكرية بين المعارضة والنظام وروسيا ستدور على بعد بضعة كيلومترات من الحدود الأردنية، وفي الغالب ستتم التهدئة مهما كانت الإرباكات، ومهما كانت المناوشات مُرتجلة أو مُخططًا لها، وسيتم احتواء أي توتر قبل أن تفقد الأطراف السيطرة عليه. وعليه، من المتوقع -على المدى المنظور على الأقل- أن يتمّ التنسيق بين واشنطن وموسكو وعمان وتل أبيب لمنع انهيار المناطق الآمنة في جنوب سورية.

لكن هذه الفرضية تواجهها فرضية أخرى تُؤكّد على أن عمليات روسيا والنظام السوري ستتوسّع لتصل إلى جنوب سورية، خصوصًا بعد استعادة السيطرة على الغوطة الشّرقيّة، فمن مصلحة الأردن أن يُسيطر النظام السوري على الحدود، ويعيد فتح المعبر الحدودي بين البلدين، ويفتح الطريق الدولي بين عمان ودمشق.

خاتمة

تقول المعارضة السورية إن “الشياطين تكمن في التفاصيل”، وصمود اتفاق جنوب سورية غير مضمون، فتجارب السنوات السبع الماضية، علمتها أن النظام السوري وحلفاءه الإيرانيين والروس يخلطون وقائع الأرض العسكرية بالسياسة، وأن هذا الثلاثي قادر على اللعب حتى على الإدارة الأميركية التي لا تزال تتعاطى مع الأزمات الدولية، وخاصة أزمات الشرق الأوسط، بأساليب يغلب عليها عدم الوضوح.

لكن، بالنسبة إلى المعارضة السورية المسلحة، فإن عدم قدرة النظام وحلفائه الإيرانيين على التقدم في جنوب سورية، ومدينة درعا تحديدًا، على الرغم من عشرات آلاف الصواريخ والبراميل المتفجرة، وآلاف الغارات الجوية التي تعرضت لها المدينة خلال سنوات، ورفض جميع الفصائل المسلحة المقاتلة في جنوب سورية الشراكة مع روسيا، والبالغة أكثر من 35 فصيلًا، خرّب حسابات الروس، الأمر الذي أجبر الروس على القبول بالطرح الأميركي لمنطقة آمنة في جنوب سورية وحظر طيران وإرغام إيران على نقل مقاتليها من المنطقة بعيدًا عن الحدود الأردنية وعن الجولان.

غالبًا ستضطر موسكو في اللحظة الحرجة، إلى إجراء انعطافة براغماتية لملاقاة واشنطن، وإلا ستواجه بتهميش وإبعاد، وتقبل بتثبيت فكرة السلطة الأميركية على إدارة الحرب في جنوب سورية مع منح روسيا هامشًا ترضى به وتوافق على الاستمرار ضمنه.

ما يهم الإدارة الأميركية في جنوب سورية إضعاف إيران والميليشيات التابعة لها، خصوصًا في المناطق الحدودية مع “إسرائيل” والأردن، وهنا تأتي أهمية بقاء واستمرار مناطق خفض التصعيد في جنوب سورية.

ليست أهمية هذا الاتفاق في تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار في جزء من سورية، وحماية حدود “إسرائيل” والأردن فحسب، وإنما تتركز أهميته الكبرى في أنه أول تنسيق جدّي رفيع المستوى بين أميركا وروسيا في سورية.

لكن ستبقى الشكوك مستمرة، فإيران وروسيا كانتا سبب فشل كل الاتفاقيات السابقة لوقف إطلاق النار، من خلال وقوفهما بقوة مطلقة مع النظام السوري، ودعمهما الكامل له في عملياته العسكرية، ومشاركتهما في تدمير المدن السورية، ولا يمكن الوثوق بأنهما قادرتان على أن تقوما بدور منطقي أو إيجابي يمكن أن يُساهم في وقف الحرب في أي جزء من سورية.


مركز حرمون للدراسات المعاصرة


المصدر
جيرون