سورية والتأسيس لعقد اجتماعي جديد



على الرغم من أن الشعب السوري، بمختلف مكوناته الإثنية والدينية، قد حطم حاجز الخوف في ثورته من أجل الحرية والكرامة، فإن هذا الخوف ما يزال الحاضر الأكبر في علاقات السوريين ببعضهم البعض، لا سيما في ظل تنامي الاصطفافات والولاءات السياسية، على أسس طائفية ومذهبية وأثنية، تتعارض مع الولاء للوطن، وانتشار مشاعر عدم الثقة والقلق والاغتراب الوطني، لدى جزء كبير من السوريين.

لقد وفّر الاستبداد، على مدى عقود طويلة، تربة اجتماعية وثقافية ونفسية، خصبة ومناسبة لبروز وتنامي مختلف أنواع العصبيات والانتماءات والولاءات البدائية، وغيّب ثقافة التسامح الديني والفكري والسياسي، لتحل مكانها ثقافة الشك وكره الآخر، في مختلف الأوساط والشرائح والطبقات الاجتماعية، حتى أصبح الأب يشك في ابنه والأخ في أخيه والجار في جاره.

يرى كثير من السوريين أن مواجهة تلك الأخطار تتطلب إشاعةَ ثقافة التسامح وتعميمها في المجتمع السوري، ونشر ثقافة قبول الإنسان الآخر، كما هو لا كما نريد أن يكون، وعدم التعصب للأفكار الشخصية من خلال ممارسة آداب الحوار والتخاطب، وحرية التعبير، والإيمان بحرية ممارسة الشعائر الدينية، والتخلي عن التعصب الديني والمذهبي، والقبول بمشاركة كل مكونات الشعب السوري في العمل السياسي وتشكيل الأحزاب السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني على أسس سلمية لا عنفية.

ويأمل السوريون أيضًا أن يتم التركيز في بناء سورية الجديدة على إعادة النظر بكل الوسائل التربوية والإعلامية والثقافية وحسن استخدامها، بعيدًا من الخطابات العاطفية والمجاملات من فوق. والعمل من تحت صعودًا من أسفل الدرج إلى قمته، بما يساهم في إزالة الأحكام والتصورات المسبقة المنتشرة بين السوريين عن بعضهم البعض، ومساعدتهم في فهم بعضهم بعيدًا عن الإقصاء والتهميش والإلغاء والتكفير والتخوين.

إن السبيل الوحيد للحفاظ على سيادة واستقلال سورية بكافة مكوناتها، هو في إقامة دولة مدنية ديمقراطية، تعتمد مبدأ المواطنة التي من أسسها الحرية والمساواة والمشاركة والمسؤولية. وفي تهيئة كافة الظروف لتمكين كل سوري وسوريّة من التمتع بحرياتهم الأساسية وبحقوقهم المدنية والسياسية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

إن جلّ ما يطمح إلى تحقيقه الشعب السوري اليوم، هو وقف الحرب، وإطلاق سراح كافة المعتقلين والمخطوفين، وإخراج كافة القوى العسكرية والمسلحين الأجانب، ومحاكمة مجرمي الحرب، وعودة اللاجئين إلى ديارهم للعيش في وطنهم بأمن وسلام، يتمتعون فيه بكافة حقوقهم بعيدًا عن الخوف والفاقة، البدء بإعادة إعمار البلاد، وأن تتولى شؤونهم حكومة منتخبة بشكل ديمقراطي، تستمد سلطاتها من المواطنين، وتحترم حرياتهم وكراماتهم وتحمي حقوقهم الإنسانية، وفقًا لمبادئ الشرعة العالمية لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي.

وانطلاقًا مما تقدم؛ نرى مع أكثرية الشعب السوري أن يتضمن العقد الاجتماعي الجديد لسورية المبادئ التالية:

سورية دولة حرة تتمتع بوحدة جغرافية سياسية ذات سيادة تامة على كامل أراضيها، ولها الحق في استعادة أراضيها المحتلة بكافة الطرق المشروعة بما فيها الجولان المحتل، وهي جزء من منظومة عربية وإقليمية ودولية، وتلتزم بالمواثيق والعهود الدولية المعنية بحقوق الإنسان. تقوم الدولة السورية على مبدأ فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والتوازن بينها. وتداول السلطة سلميًا، ومبدأ المواطنة، واستقلال القضاء، وتتخذ فيها القرارات الإدارية في إطار عالٍ من اللامركزية الإدارية. سورية دولة مدنية ديمقراطية، السيادة فيها للشعب الذي يعبّر عن إرادته عبر انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، وتضمن لكافة السوريين والسوريات الحق بالمشاركة السياسية، والتنظيم السياسي، وتكوين الأحزاب والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني على أساس سلمي لا عنفي، ولهم أيضًا حق تولي المناصب العامة، ومن ضمنها منصب رئاسة الدولة، من دون أي تمييز. تضمن الدولة لجميع السوريات والسوريين حق الرأي والمعتقد والفكر والتعبير عن آرائهم علانية، ولهم حق تداول المعلومات بحرية والتظاهر وممارسة شعائرهم بشكل سلمي، ولا يجوز إجبار أي مواطن ومواطنة بالقسر على ممارسة أو الامتناع عن ممارسة فعل سلمي، يتعلق برأيه أو اعتقاده ولا محاسبته أو التضييق عليه بسبب ذلك، ويحظر التكفير والحض على الكراهية والعنف بين الطوائف والأديان والقوميات أو النيل من الوحدة الوطنية. جميع المواطنات والمواطنين متساوون في القانون وأمامه، ولهم الحقوق ذاتها وعليهم الواجبات ذاتها، يحصلون على جنسيتهم منذ الولادة لأب أو أم سوريين، ولا يجوز التمييز بينهم بسبب الدين أو العرق أو القومية أو الجنس أو الرأي السياسي أو أي سبب آخر. وتعتبر قيم الشعب السوري في الحرية والمساواة والمواثيق والعهود الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان مرجعية أساسية، في حماية حقوق جميع مواطنيها. تحترم الدولة التنوع القومي والديني والثقافي لجميع السوريين والسوريات، وتضمن لهم ممارسة حقوقهم الثقافية وشعائرهم الدينية، من دون الإخلال بمبدأي حيادية الدولة وفصل الانتماء القومي والديني والطائفي عن سياسة الدولة. توفر الدولة لجميع السوريات والسوريين، على قدر المساواة، حقّ التمتع بالحماية القانونية وبالعدالة وحصوله عليها ضمن وقت معقول، والتقاضي أمام قاضيهم الطبيعي، وبحماية سلطة قضائية تتمتع بالاستقلالية التامة والحياد والنزاهة والموارد اللازمة لإحقاق العدل، باعتبارها الدرع الحامي والضامن للحريات العامة والحقوق، وأن حق الدفاع مقدس لا يجوز انتهاكه وللجميع على قدر المساواة التمتع بالحماية القانونية، وأن كل متهم برئ حتى تثبت إدانته. حظر إنشاء أية محاكم أو لجان استثنائية، ومنع تحصين أي تصرف أو قرار أو إجراء أو قانون من المراقبة القضائية. وحظر محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية إلا في الجرائم المباشرة التي تقع داخل الثكنات العسكرية أو التي تقع على ممتلكات الجيش وأمواله وأسلحته، أو على العسكريين في أثناء قيامهم بمهام الخدمة. تضمن الدولة لجميع المواطنات والمواطنين حق التمتع بالحياة والسلامة الشخصية التي لا يجوز انتهاكها، ولكل إنسان حقه في أن يعترف له بالشخصية القانونية، وعدم التدخل في خصوصيته أو في شؤون أسرته أو بيته أو مراسلاته. وعدم تعريضه لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته. لا يجوز توقيف أي شخص كان أو تحرّي مسكنه إلا بمذكرة قضائية. لا يجوز تعريض أي شخص للتعذيب والإيذاء البدني أو المعنوي أو المعاملة الحاطّة بالكرامة الإنسانية. واعتبار التعذيب جريمة مستمرة لا تسقط بالتقادم. تضمن الدولة لجميع المواطنات والمواطنين حق التمتع بالتعليم والرعاية الطبية والضمان الاجتماعي والبيئة النظيفة، واعتبار التعليم مجانيًا وإلزاميًا حتى انتهاء مرحلة التعليم الأساسي. وتضمن مؤسسات الدولة العمل على تحرير المجتمع من الجوع والأمية وتوفير التنمية الاجتماعية والاقتصادية بشكل متوازن وعادل. تحمي الدولة لجميع المواطنات والمواطنين حق التمتع بالملكية الخاصة، وحقهم في حرية التنقل وحرية اختيار مكان إقامتهم داخل حدود الدولة، والحق في مغادرتها والعودة إليها. مؤسسات الجيش والشرطة والقوى الأمنية، بعد إعادة تأهيلها، هي وحدها المخولة بحمل السلاح واستعماله لحماية المواطنين والدفاع عن الوطن حصرًا. ويحظّر على أفرادها التدخل في العمل السياسي. وهي غير محصّنة مثلها في ذلك مثل مؤسسات الدولة الأخرى، وتخضع في عملها للحكومة المنتخبة، وتكون مسؤولة عن أعمالهم وتصرفاتهم أمام البرلمان والقضاء. لكل طفل من أب أو أم سوريين الحق بالجنسية والنسب دون تمييز، بسبب العرق أو الدين أو القومية أو الجنس، واعتبار التبني حقًا من حقوق الإنسان. إلغاء كافة النصوص القانونية التي تميز بين السوريين على أساس ديني، ولاسيما في مسائل الزواج. ومن المهم هنا إصدار تشريع مدني للزواج، وإنشاء محاكم خاصة بالأسرة والطفل. إلغاء كافة التحفظات الواردة على كافة المعاهدات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان، ولا سيّما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين واتفاقية (سيداو) واتفاقية الطفل واتفاقية مناهضة التعذيب. حصر التشريع بمجلس النواب، وإنشاء محكمة دستورية مكونة من قضاة وخبراء قانونيين مستقلين، مهمتها الرقابة على انسجام الدستور والقوانين الصادرة مع هذه المبادئ ومع مبادئ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وعدم مخالفتها، مع عدم المس بمكتسبات حقوق الإنسان وحرياته.

إن صياغة عقد اجتماعي لسورية يحتاج إلى بيئة مناسبة وآمنة، لا حرب فيها ولا معتقلين ولا مخطوفين ولا لاجئين ولا مسلحين وقوى أجنبية محتلة.


ميشال شماس


المصدر
جيرون