شاعرُ الشرّ الجميل شارل بودلير



على وتيرةٍ واحدةٍ من الجهد المبذول؛ يواصل الشاعر والمترجم المصري رفعت سلام (مواليد- 1951)، عمله الدؤوب في نقل جُلّ الشعر العالمي إلى العربيّة، إذْ ترجم الأعمال الكاملة لكل من الشعراء: قسطنطين كفافيس، وآرثر رامبو، وشارل بودلير، ووالت ويتمان، إضافةً إلى مختارات شعرية لكل من ألكسندر بوشكين، ويانيس ريتسوس، وماياكوفسكي، وأكسينيا ميخايلوفا، عدا عن إشرافه على (سلسلة آفاق الترجمة) و(سلسلة الـ 100 كتاب) التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة.

طبعة جديدة من كتاب (الأعمال الشعريّة الكاملة)، للشاعر الفرنسي شارل بودلير، صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة، 2016)، احتوتْ على ديوان (أزهار الشر) 1861، وديوان (البقايا) 1866، وقصائد بلجيكية ونصوص الكتاب النثري (سأم باريس)، إضافة إلى عدد من الملاحق والوثائق المهمة عن مقدمة وخاتمة (أزهار الشر) ومحاكمة الشاعر وثلاث مقدمات: الأولى للمترجم بعنوان (شاعر الشرّ الجميل)، فيما الثانية تقف عند سيرة حياة الشاعر تأريخيًا وبالتسلسل الزمني، أما الثالثة فكانت للشاعر الفرنسي بول فاليري، بعنوان (موقف بودلير).

رعشة جديدة في الشعر الفرنسي:

يُعدّ شارل بودلير (1821-1867) نقطة التحوّل الأهم والأبرز في الأدب (وتحديدًا الشعر) الفرنسي أولًا، ومن ثمّ العالمي، بعبوره من ضفة “الواقعيّة”، بوصفها “كلمة غامضة وزئبقية”، بل “إهانة مقززة” أيضًا، تجاوزت كل الأطر التي كانت بالية قبله وفق النقّاد، إلى برّ “الحداثة”، حيثُ كسر قواعد مختلفة، كانت دارجة ورائجة آنذاك، ليقبض على نبض الإبداع الحقيقي ويعيد للشعر ألقه ورهافته التي لا بدّ أن تكون حاضرة، من خلال تقديم نموذج جديد للكتابة، سُمّي فيما بعد بقصيدة النثر، وبكل تأكيد، فإنّ ما أتى به بودلير من بنيان حديث ومختلف للشعر الفرنسي الذي تجاوزه لينتقل إلى أغلب الشعر المنتج عالميًا، من خلال الترجمات العديدة إلى مختلف اللغات، كان تمازجًا أدّى في نهاية الأمر إلى إنتاج أجيال شعريَّة تمتلك حساسيَّات مستندة إلى أفكار بودلير، وطريقة طرحه للكلمة شعريًّا، فبكلمات الشاعر الفرنسي، باتت الدلالات مختلفة عمّا هو متعارف عليه، وكل ترجمة عربيَّة لنصوص بودلير هي إعادة خلق جديدة واكتشاف عميق لأثر شعري لا ينضب، وهو ما أكّده فيكتور هوجو مرارًا، حين كتب له قائلًا: “إنك تخلق رعشة جديدة في الشعر الفرنسي”.

ثمّة خطّان متوازيان عمل عليهما بودلير، هما المضمون والشكل. في الأول أخرج الشعر من حضن “البلاط الملكي”، في محاولةٍ منه لتحويل اليومي (الزائل) إلى الرمزي (الخالد)”، أما في الثاني فقد حرّره من براثن الوزن، مُحدثًا ثورة إبداعيّة تمخضّت عنها “قصيدة النثر”، ولعلّها، بحسب بول فاليري، كانت “الرغبة في مادةٍ أكثر صلادةً وشكلٍ أكثر نقاءً ورهافةً”.

الغيوم الرائعة:

في قصيدة بعنوان (الغريب) من كتاب (سأم باريس)، ثمّة حواريّة تختزل رؤية الشاعر للعالم من حوله؛ وهي عبارة عن رؤية ثنائية/ مركبة، متناقضة وغير متناقضة في الآن معًا، إذ تبدو لنا وكأنها أشبه بالصوت والصدى، صوت الخارج وصدى الباطن/ الكامن في أقصى الداخل، حيثُ يقول:

“- قُل لي، أيها الرجل الغامض، من أكثر من تُحب؟ أبوكَ أم أمكَ، أختكَ أم أخوك؟

– لا أبَ لي ولا أم، لا أخت ولا أخ.

– وأصدقاؤك؟

– أنت تستخدم كلمةً ما يزال معناها، بالنسبة إليّ، مجهولًا حتى اليوم.

– ووطنكَ؟

– إنني أجهل في أيّ مكانٍ يقع.

– الجمال؟

– سأحبه عن طيب خاطر، لو كان ربّةً، وخالدًا.

– الذّهب؟

– أكرهه مثلما تكره الإله.

– إيه!، فما الذي تُحبّ إذن، أيها الغريبُ العجيب؟

– أُحبُّ الغيوم.. الغيوم التي تمضي.. هناك.. هناك.. الغيوم الرائعة!”.

رمزيّة الشعر وقدسيته:

كتاب (الأعمال الشعريّة الكاملة)، نقله إلى العربيّة رفعت سلام، وجاء في 784 صفحة من القطع المتوسط، فرصة للاطلاع على الشعر الصافي، المشذّب، الشعر الذي يمكن الاستناد إليه في أيّامنا الرّاهنة، لإعادة إنتاج الحقيقي منه وإتلاف الرديء، الكتاب الذي يمكن الاعتماد على نصوصه، للاستدلال على رمزيَّة الشعر وقدسيّته.

كذلك هي نافذة للتعرّف إلى ما جرى للشاعر، وتحديدًا بُعَيْد صدور ديوانه الإشكالي (أزهار الشَّر)، وكما يقول بابلو نيرودا، في إشارةٍ إلى الشعر الحقيقي والجوهريّ: “يمكنهم أن يجتثوا كل ورود العالم، فلن يوقفوا أبدًا زحف الربيع”.

الكتاب: الأعمال الشعرية الكاملة (شعر)

المؤلف: شارل بودلير (فرنسا)

المترجم: رفعت سلام (مصر)

الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة- 2016

الصفحات: 784 صفحة

القطع: المتوسط


عماد الدين موسى


المصدر
جيرون