ما بعد الغوطة ودوما



مع انجلاء غبار التدمير الذي لحق بالغوطة، من جراء قصفها الوحشي بآلاف الغارات المتواصلة؛ وصلت قضية عسكرة الثورة السورية وأسلمتها إلى نهاياتها، وهي لم تكن يومًا خيارًا للثوّار الأولين، الذين فجروا ثورة الشعب السوري في آذار/ مارس 2011، الثورة التي أدهشت كل من تابع فصولها، حيث واجهت نظامًا مستبدًا، يجثم منذ أربعة عقود ونيف على صدر الشعب السوري، نظام دهاء وخبث لم يعرف السوريون مثله من قبل، كونه اشتغل طوال هذه الحقبة على بناء نظام أمني شمولي، امتاز بشدة التعقيد والتغوّل في المجتمع السوري، واضعًا في حساباته كل الخيارات الواجبة التطبيق، حال حدوث أي حراك أو تمرد أو احتجاج، من قبل الفئات المتضررة من سياساته المستندة إلى الفساد وشراء الذمم، وتدمير منظومة القيم الوطنية السورية المتوارثة والقائمة على التوافق والاعتدال والوسطية.

حين انطلقت الثورة بطابعها المدني والسلمي؛ خشي النظام من تحوّلها إلى عصيان شامل سيكون كفيلًا بإسقاطه، فتوجه حثيثًا إلى دفع الثورة نحو العسكرة والأسلمة، برفع مستوى القمع الوحشي الصادم الذي مارسه ضد المدنيين، بعد أن قطع رأس الحراك المدني في الساحات والميادين وأقبية معتقلاته، ومن ثمّ أطلق سراح سجناء من قيادات التيارات الإسلامية المتشدّدة، بغية تعكير صفو الثورة وإلباسها ثوبًا ليس ثوبها، ثم قامت أجهزته بتنفيذ تفجيرات متقنة بحق الأبرياء (خاصة في دمشق العاصمة) كانت مفضوحة، لأن النظام مارس نفسها، خلال فترة تصدّيه للتمرد الإخواني، إبان الثمانينيات من القرن المنصرم.

أخذ المشهد السوري يزداد تعقيدًا وتدخلًا من قبل أطراف محلية وإقليمية، بسبب عدم استجابة النظام للنصائح التي صدرت عن بعض الأنظمة العربية الخائفة من انتصار الربيع السوري، ومن تداعياته على مصالحها وعروشها، وحين أيقنت أن النظام لا يسمع؛ لجأت إلى دعم العسكرة وتمويل من ركب موجتها، ممن هم ليسوا أهلًا لقيادتها، رغبة من هذه الأطراف (خاصة السعودية) في كسر الموجة الإيرانية ومشروعها الطامع بالسيطرة على المنطقة من جهة، وقطع الطريق على القوى العلمانية والليبرالية المستنيرة من تبوّؤ قيادة الثورة، والأخذ بها نحو مواقع الانتصار للانتقال بسورية صوب برزخ الدولة الوطنية المدنية والديمقراطية.

إثر ذلك، جاءت ولادة تنظيم (داعش) وظهور (جبهة النصرة – القاعدة) لتزيد المشهد إرباكًا ووحشيّة، ولتذهب بالثورة إلى غير مقاصدها، وليكتمل هذا الفصل بسطوة “الإخوان المسلمين” على المجلس الوطني والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، مستفيدين من التواجد على الأراضي التركية، وكذلك من توجهات حزب العدالة والتنمية الحاكم المناصر للقضيّة السورية، وهذا ما ألحق شديد الضرر بالثورة وبسورية الوطن والشعب السوري الطامح للتغيير، وامتازت هذه القوى الراكبة موجة الثورة، بنزعة الاستئثار والسطو على المواقع المفصلية، في جوانبها العسكرية والسياسية والإغاثية، مقصيةً النخب والكوادر ذات الكفاءة، حارمةً الثورة من الإفادة من طاقتها وخبراتها الثمينة، وعلى إثر ذلك؛ انتقل الشعب السوري من وصاية نظام الفساد والاستبداد إلى وصاية قوى، كان من الواجب أن تتحلى بالقيم الثورية وبالشفافية والصدقية أمام السوريين الذين لم يبخلوا بالتضحيات الجسام.

صبّت جهود وممارسات الإسلام السياسي، بكل تلاوينه، في طاحونة الثورة المضادة، وأصبحت هذه القوى وسلوكياتها عبئًا على الثورة، وعلى الشعب الذي أثقلت كاهله سنوات العذاب السبع، معلنًا صرخاته في وجوه الداعين إلى “إقامة خلافة إسلامية”، ومؤكدين أن الثورة السورية انطلقت، من أجل بناء دولة القانون والعدالة والكرامة والمواطنة، وأن جُلّ السوريين مسلمون، وليسوا بحاجة إلى من يذكرهم بدينهم.

ما تعرّضت له الثورة السورية من تآمر مهول لم تشهده ثورة عبر التاريخ، حيث خذلها كل المدّعين نصرتها، وتحولت أرض سورية إلى ساحة لتصفية الحسابات بين القوى المتصارعة، إقليميًا ودوليًا، غير عابئة بشلالات دماء السوريين وحجم التّدمير لوطنهم والتّهجير والتغيير الديموغرافي الذي أسهمت فيه منظمات أممية خانت مهماتها ومواثيقها.

بعد التدخل الروسي في أيلول/ سبتمبر 2015، الذي جاء إنقاذًا لنظام بدأ يترنّح بفعل الوهن الذي أصابه والهزائم التي تعرض لها حليفه الإيراني وأتباعه من الميليشيات العابرة للحدود؛ تبدّلت المعادلات وبدأت الكفة ترجح لصالح الثورة المضادة، لنشهد من بعد ذلك التدخل فاجعة حلب الشرقية، وتراجيدية المشهد الذي رافق رحيل سكانها، والهوان الذي لحق بهم، والآن تتكرر الفاجعة نفسها في الغوطة الشرقية ودوما، لتؤكد هذه القوى أنها فاشلة، وأن عنتريات المنابر تختلف كثيرًا عن تسيير أمور الدولة وإدارة شؤون الناس.

من هنا، صار الشعب السوري اليوم وقواه الثورية النقية أمام استحقاقين ملحّين، هما العمل على طرد الاحتلالات الجاثمة على التراب الوطني، واستكمال مهمات الثورة المتمثلة بكنس نظام الخيانة والاستبداد.

صحيح أن تحقيق هذين الهدفين في ظل الشروط الموضوعية القائمة اليوم هو أقرب من المُحال، بسبب فاجعية المشهد وتعقيداته الجمّة، غير أن الشعوب لا تُهزم في النهاية، وكذلك ثوراتها، إن توفر لها الإطار الجامع والمستفيد من دروس وعِبَر المرحلة سالفة الذكر، استنادًا إلى كل القوى المستنيرة والمؤمنة بسورية المواطنة، سورية المدنية الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات.


مصطفى الدروبي


المصدر
جيرون