الحمّة: البِرك التي ستبقى سورية



تقع في أقصى جنوبي الجولان السوري المحتل. تتألف من مدينة سياحية صغيرة ومنتجع صحي، إضافة إلى الأراضي الزراعية التي تتبع لها، فضلًا عن بعض القرى مثل: التوافيق، الحاوي، الروض الأحمر، روض القطف، البرج، الدوكا، الكرسي، قطوف الشيخ علي، وتمتاز الحمة بمواصفات نوعية وخاصة، جعلت منها على الدوام “درة الجولان”، وتقع على نهر اليرموك عند مخاضة “زور كنعان” على انخفاض 156 مترًا عن سطح البحر، وهي محطة من محطات سكة حديد درعا – سمخ تاريخيًا.

كانت الحمّة في العهد الروماني من أعمال مقاطعة “أم قيس – Gadara”، عرفت باسم “أماتا – Emmatha”، وقد ذكرها المؤرخ والجغرافي الروماني (استرابو) الذي عصا يوليوس قيصر، كما ذكرها غيره من كتبة اليونان.

في أوائل القرن العشرين مرّت فرنسيس إملي نيوتن الإنكليزية بهذه الحمامات، وذكرتها بقولها: “انحدرنا إلى بحر الجليل مرورًا بطبريا، وخيمنا بوادي اليرموك، بين ينابيع الحمّة المتدفقة بجانب النهر، وقد عبق الجو بالأبخرة الكبريتية، وفي هذا الغور تمر السكة الحديد إلى درعا، بأنفاقها السبعة وجسورها الخمسة عشر، تذكّر راكب القطار بالسكك الجبلية في الديار السويسرية. وهذه الينابيع المعدنية، الأشبه اليوم بالمصاحّ الأوروبية، كانت يومذاك بؤرة من البرك، ازرقت أمواهها. وهي ينابيع عدة، باردة، وحارة، بعضها يغلي فيقلي. وقد ألفها العرب جيدًا، وعرفوها عينًا عينًا: فتلك للأمراض الجلدية، وهاتيك للأدواء العصبية، وأخرى للحبَل، أي للعون على إحداثه”.

منحت الحكومة الإنكليزية المنتدبة امتيازات منطقة الحمة إلى المرحوم سليمان ناصيف (من مواليد بلدة المختارة اللبنانية) بدءًا من عام 1936 حتى 2029. وقد فشلت جميع الجهود التي بذلها اليهود لشراء هذا الامتياز منه، وقد أدخل المرحوم تحسينات جمة على الحمامات، فشق الشوارع وغرس الأشجار وبنى الفيلات.

قليلون يعرفون أن الحمامات المعدنية الموجودة في الحِمّة، عند ملتقى الحدود الإسرائيلية والسورية والأردنية، هي استثمار لرجل الأعمال والوجيه اللبناني المعروف سليمان بك ناصيف. فبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وبدأت بتقسيم انتصاراتها فكانت فلسطين من نصيب الحكومة البريطانية، وانتشر الشباب اللبناني المثقف في كافة أنحاء البلاد الخاضعة للحكم البريطاني طمعًا بالوظائف والمراكز الحكومية؛ كنت ترى العديد من اللبنانيين في الأردن والسعودية ومصر وفلسطين.

كان من نصيب سليمان بك ناصيف أن يعمل موظفًا كبيرًا ومسؤولًا، انتقل من مصر إلى حيفا ثم طبريا وبيسان. وبحكم علمه اطّلع على كل كبيرة وصغيرة في البلاد، فقرر الاستقالة من عمله في الحكومة سنة 1929، وفكّر في إقامة مشروع كي يضمن له مستقبلًا حرًّا؛ فدعا عددًا من المهندسين والاقتصاديين للتشاور، وبعد أن عزم على إقامة مشروع الحِمّة المشهورة بمياهها المعدنية والواقعة بين مثلث الحدود: سورية، الأردن وفلسطين، وبما أنه كان صاحب مركز حكومي بريطاني، كان سهلًا عليه أن يحصل على إذن من المسؤولين في الأردن وفلسطين، وبما أنه من مواليد بلدة المختارة عاصمة العائلة الجنبلاطية في لبنان، فقد سهّل عليه موافقة الحكومة الفرنسية، وابتدأ في إقامة المشروع سنة 1930.

الحمة قديمًا

لكن ناصيف واجه صعوبات جمّة من البدو الموجودين في المنطقة، وبدؤوا يهاجمون منشآت الشركة ويريدون العمل بالقوة. فتوجّه إلى حيفا طالبًا من الدوائر الحكومية مساعدته بالحراسة، ولكن لم يستطع الحراس ردّهم. فكلّف نجيب أبو عز الدين من بلدة العبادية في لبنان أن يكون مساعده ومدير أعماله، وعندما رأى أبو عز الدين أن الشركة محاطة بمئات البدو، قرر استدعاء أديب البعيني من بلدة مزرعة الشوف بلبنان، ليكون مديرًا للأمن في الحمة، وكان البعيني مشهورًا بقوة بأسه لا يخاف الموت، جبارًا عملاقًا، مخلصًا وكريمًا، شجاعًا إلى درجة عالية، فنظّم الحراسة وأبعد المتطفّلين والمعتدين؛ وهدأت الحال وابتدأ العمل وأصبح المشروع يستقبل مئات الزوّار يوميًا. وبعد ما يزيد عن عشر سنوات، طلبه رئيس الجمهورية اللبنانية: بشارة الخوري، وعيًن أديب قائدًا للحرس الوطني في بشامون.

“مليون جنيه استرليني. نعتقد أنه ثمن معقول”.

“الحمة ليست للبيع”.

اعتقدوا أن الرفض مناورة لرفع السعر. فتحوا يدهم أكثر، وناولوه شيكًا على بياض:

“تفضل، حدد السعر الذي تريد”.

أخذ ناصيف الشيك بهدوء وكتب عليه: “أرض الحمة ليست للبيع. إنها عربية وستبقى عربية”.

ثار برنارد جوزف وقال بعصبية: “ما دمت كذلك، لا بد أن نأخذها يومًا، بالقوة”.

حصل هذا ذات يوم، قبل نيف وخمسين عامًا، “أعتقد أنه أحد أيام 1946” تقول وداد سعيد ناصيف، أي قبل 21 عامًا من احتلال “إسرائيل” لمثلث الحمّة السوري في عدوان 5 حزيران يونيو 1967. وذلك عندما جاء وفد يهودي إلى عمها لأبيها سليمان بك ناصيف، ليفاوضه في شراء امتياز (شركة ينابيع الحمة المعدنية المحدودة) “لكن عمي رفض. فاوضوه لشراء بعض أسهم الامتياز وأيضًا عمي رفض”. تضيف: “الدكتور بولس طويل كان طبيب مستوصف الحمّة قال لعمي يومذاك إنه بهذا المبلغ الضخم يستطيع أن يعيش حياة رغيدة في أي مكان من العالم، وسمّى له سويسرا مثلًا. وإن العديدين باعوا وراح يعرض أمامه أسماء شخصيات ووجهاء وتجار وزعماء ممن باعوا أراضيهم في فلسطين، لكن عمي أدار أذنه لهذا الكلام كله، وردّ: “إن هذه البرك عربية وستبقى عربية إلى الأبد“.

كان ابن المختـارة سليمـان بك ناصيف أميرالاي حرب في الجيش العثماني، وأحد قادة الجيش المصري الذين عملوا في السودان، قبل أن يُعيّن مستشارًا لدى حكومة الانتداب الإنكليزي على فلسطين. وحصل على “امتياز” الحمّة، بعد أن اكتشف مصادفة برك وينابيع الحمّة المعدنية، وهو في طـريـق على قطار خط الحديد الحجازي الذي يمر وسط منطقة الحمّة؛ حيث لفت نظرَه تصاعد البخار من بين الأشجار الكثيفة التي كانت تغـطـي المنطقة، فنزل أرض الحمّة ليجد بعض البدو، فسألهم عن مصدر البخار المتصاعد. قالوا له إن مصدره برك وينابيع المياه الساخنة في الحمّة، وكان الوصول إلى تلك البرك والينابيع محفوفًا بالصعاب والمخاطر، نظرًا إلى انتشار الحيوانات المفترسة والأفاعي ومختلف الحشرات والقوارض. فسعى للحصول على “امتياز” من حكومة الانتداب، لإنشاء مشروع سياحي في المنطقة؛ فتم ذلك ولكن لعدة سنوات فقط.

يُقال إنه استقدم عمالًا مصريين لتنظيف المنطقة وتنفيذ المشروع، كما استخدم القطط والكلاب للقضاء على الأفاعي والحشرات والقوارض المنتشرة في المنطقة، إلا أن الفترة المتفق عليها انقضت قبل أن ينتهي المشروع الذي سرعان ما اتضحت أهميته وقيمته وجدواه الاقتصادية، الأمر الذي دفعه إلى المطالبة بعقد اتفاق مع حكومة الانتداب لأمد طويل. وحصل فعلًا على امتياز لمدة 99 سنة. وأنشأ لهذه الغاية شركة محدودة المسؤولية سجلها في فلسطين، بموجب قوانين الشركات لسنة 1929 – 1936، وذلك برأسمال قدره 200 ألف جنيه فلسطيني مقسوم إلى 196 ألف سهم ممتاز قيمة كل منها جنيه فلسطيني، وأربعة آلاف سهم تأسيسي قيمة كل منها أيضًا جنيه فلسطيني واحد.

في تفسير لموافقة الإنكليز على إعطاء العرب هذا الامتياز، وسط تزايد الهجمة الصهيونية على الحصول على المشاريع الحيوية في فلسطين، استعدادًا لقيام “دولة إسرائيل”، يُقال إن الإنكليز أعطوا امتياز الحمّة للعرب، مقابل إعطاء “امتياز” شركة كهرباء (روتنبرغ) لليهود.

مع ذلك، لم تتوقف المساعي الصهيونية المحمومة لشراء امتياز الحمّة. فما حصل عام 46 تكرر عام 48 وعام 49 بوساطة بعض ضباط الهدنة. و”كان الرفض الحازم مصير هذه المحاولات جميعًا”، على حد قول هاني الزريني عضو مجلس إدارة الشركة والمفتش فيها.

لقد أقام سليمان ناصيف في الحمّة العديد من المنشآت السياحية؛ ما حوّلها إلى منتجع سياحي يغص بالزائرين، خلال موسم الشتاء الذي يبدأ من أواخر تشرين الأول/ أكتوبر كل سنة حتى منتصف نيسان/ أبريل من السنة التالية. ومن المنشآت التي أقيمت، يضيف السيد هاني الزريني: “تمت إقامة نحو 30 فيلا و250 غرفة مفروشة تشتمل كل منها على مطبخ وحمام، إضافة إلى فندق سياحي من طابقين، يتألف من نحو 50 غرفة. وعندما تمتلئ الغرف والفيلات والفندق بالوافدين، كانت تنصب الخيم لاستقبال المزيد منهم”. وخلال هذا الموسم، كانت المنطقة تتـحـول إلى سـوق تجارية بكل معنى الكلمة، حيث تنتشر البسطات والباعة المتجولون لمختلـف أنواع المأكولات من الأجبان والألبان والعسل والقشطة والزبدة والدجاج واللحوم والأسماك والفواكه والخضار على أنواعها.

ما كان يُعطي للحمّة أهمية استثنائية إضافية هو وقوعها عند زاوية تلتقي فيها أراضي كل من سورية وفلسطين والأردن، فهي تقع في منطقة وسط بين نهر اليرموك الذي يمر جنوبها ويفصلها عن جبال الأردن، ومن الجهة الشمالية الشرقية، تتصل بالأراضي السورية بمرتفعات متدرجة نحو الأعلى حيث الجولان، ومن الجنوب الغربي أيضًا سورية التي تفصلها عن بحيرة طبريا بنحو عشرة كيلومترات. والطريق إلى الحمّة قبل عام 1948 من داخل فلسطين كانت معبدة. أما الطريق عبر الجولان فقد تمّ تعبيدها بعد عام 1948. وشقت من قبل الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، بهدف مهاجمة قوات فيشي الفرنسية التي كانت تحتل سورية آنذاك. واستخدمها الجيش السوري في حرب 1948 خلال هجومه على منطقة جنوب شرقي بحيرة طبريا. وهكذا كان الوصول إلى الحمّة قبل العام 1948 يتم عبر الطرق التي تؤدي إليها من الداخل الفلسطيني. وبعد العام 1948 صار الوصول إليها يتمّ عن طريق الجولان – القنيطرة – فيق، وذلك حتى العام 1967 تاريخ احتلال الحمّة مع احتلال “إسرائيل” لمرتفعات الجولان السورية خلال عدوان 5 حزيران/ يونيو.

في 15 أيار/ مايو 1948، دخلت القوات العربية السورية منطقة الحمّة والمواقع المحيطة بها، خاصة في بلدة (كفر حارب)، بينما سيطرت القوات الإسرائيلية على الأجزاء من المناطق المجردة من السلاح بلغت ضعف ما سيطرت علية القوات العربية السورية.

احتلتها “إسرائيل” في عدوان حزيران/ يونيو 1967. وكانت الحمّة تعدّ من المواقع ذات الجذب السياحي في سورية، وشهدت أراضيها المعسكرات الدائمة لكشاف سورية وفلسطين على امتداد العام الواحد. كما شهدت أراضيها أيضًا بعد احتلالها معارك بطولية وعمليات فدائية، نفذتها قوات فلسطينية من منظمة الصاعقة ومن حركة (فتح)، حيث وقعت معركة الحمّة الأولى والثانية، واستشهد الملازم أول من حركة (فتح) الشهيد خالد أبو العلا عام 1968، بعد أن استطاع مع مجموعته احتلال موقع عسكري إسرائيلي داخلها وإبادة من فيه.

تعدّ الحمّة من المناطق الواقعة بين الخط الفاصل بين سورية وفلسطين الانتدابية في الطرف الفلسطيني، ومن المناطق الواقعة إلى يمين خط 4 حزيران/ يونيو 1967 في الجانب السوري، وتقع إلى الجنوب الغربي بشكل يحاذي الشاطئ الجنوبي الشرقي لبحيرة طبريا، وهي تمتد شرقًا على شكل بيضوي عند مثلث الحدود السورية – الأردنية – الفلسطينية، ويقع القسم الثاني منها ضمن الحدود الأردنية ملاصقًا لبلدتي سمخ الفلسطينية والعدسية الأردنية.

ينابيع الحمّة الحارة هي: “المقلى- حمام سليم”، وقديمًا كان يعرف باسم “حمّة الشيخ” أو “حمام الشيخ”، “الريح”، “البلسم”، و”الجرب”. والينابيع الثلاثة واقعة بين محطة السكة الحديدية وضفة نهر اليرموك اليمنى، على ملتقى الحدود بين فلسطين وسورية وشرق الأردن. وتختلف عن ينابيع طبريا الحارة في أنها تحتوي على نسبة من الكبريت أعلى كثيرًا، بينما نسبة الملح الاعتيادي فيها أقل إلى درجة كبيرة من تلك في ينابيع طبريا. وحرارة هذه الينابيع الثلاثة هي في نبع المقلى 47 درجة، وفي نبع الريح 35.8 درجة، وفي نبع البلسم 39.4. فمياه نبع المقلى يجب تبريدها قبل الاستحمام فيها، وهو أغزر هذه الينابيع الثلاثة، إذ إنه يُفرغ نحو 3.4 المتر المكعب في الثانية، وهذا يفوق بأضعاف الينابيع الحارة في طبريا أيضًا، ومع أن هذه الينابيع كانت مستعملة كثيرًا في زمن اليونانيين والرومانيين، تدلنا على ذلك الحفريات الأخيرة وذكرها في الكتب التاريخية، فإنها هجرت ولم يعد يزورها إلا القبائل الرحل زيارات سنوية، ليستفيدوا من خاصيتها.

حمامات الحمّة المعدنية الحارة تُشفي الأمراض العصبية الحادة والمزمنة وعرق الإنس (النسا) والأمراض الجلدية عمومًا بما فيها القروح المزمنة والبواسير والجذام واللبوس وأمراض الحمى الكلوي والرمل وأكثر أمراض الرحم والمعدة مع تقوية الأعصاب والجسم عمومًا. وجوهرة الراديوم الموجودة بكثرة في هذه الينابيع التي لا مثيل لها هي العامل الأكبر لسرعة شفاء هذه الأمراض.

الإشعاع “الراديومي” ينبعث من مياه الحمّة، ومصدر هذا الإشعاع “الأورانيوم” أو غيره من العناصر المشعة. والأورانيوم معدن أبيض فضي، فهو وأملاحه، والمواد الخام التي توجد فيها، تبعث أشعة تمكن من اختراق الورق الأسود. ويستفاد من الأورانيوم في صنع سبائك فولاذية ذات صفات خاصة، وفي صناعة بعض أنواع الزجاج ودهان الأواني الخزفية الملونة. كما أن الأرقام على ميناء الساعة تحتوي على بعض الأورانيوم المشع، ليصبح بالإمكان مشاهدتها في الظلام. ولما ظهرت فوائد الأورانيوم في تحقيق القنبلة الذرية؛ كثر الطلب عليه، وأخذ المنقبون يبحثون عن مناجمه، فليس من المستبعد أن يكون هذا المعدن موجودًا بكثرة في منطقة الحمّة.

للحمة أراض مساحتها 10700 دونم، منها 382 للطرق والوديان. وكان في الحمة في عام 1931، 172 نسمة. وفي عام 1945 ارتفع العدد إلى 290. والحمة موقع أثري قديم يحتوي على موقع قديم، قسم منه تل أنقاض، أنقاض مسرح، أنقاض حمامات، وكنيس أرضه مرصوفة بالفسيفساء، مبان، مدافن، أعمدة، قواعد أعمدة، تيجان أعمدة، ومزار واحد.

فيها مواقع أثرية عديدة منها:

خربة الدوير: تحتوي على تل أنقاض، أساسات، وجدران قلعة متهدمة من البازلت (حجر بركان)، شقف فخار، وأدوات صوانية على سطح الأرض.

خربة أبو كبير: تقع في الغرب من خربة الدوير. تحتوي على أساسات مبنية بحجارة ضخمة، شظايا صوان.

أبو النمل: تقع في الغرب من خربة أبو كبير، وتعرف أيضًا باسم “أبو نار”، تحتوي على تل أنقاض صغير، جدران من الدبش، آثار طريق قديم يمتد من الشرق إلى الغرب.

الاستيلاء على الحمّة

احتلت “إسرائيل” الحمّة في العاشر من حزيران/ يونيو 1967، ولم يكن في القرية سوى شخصين، بعد أن هرب منها الضباط والجنود السوريون ومعهم كافة المزارعين والعمال الذين عملوا في الحمّة، وبلغ عددهم المئات. والشخصان اللذان بقيا فيها هما ابن الشيخ سليمان ناصيف صاحب فندق وشركة حمامات الحمّة وينابيعها، وزوجته وداد سعيد ناصيف “ختيارة القنيطرة”، وهو الذي بقي يدير أعماله من داخل الحمة، وخلال التحقيق معه قال إن الحمّة كانت تستقبل المئات من الزوار العرب، بهدف الاستجمام وكذلك خبراء عسكريون روس وسوريون ومن ألمانيا الشرقية، وكان هناك داخل الفندق نادي صغير خُصص من أجلهم ولأجل راحتهم وإدخال البهجة في نفوسهم، كما كان يطلب قادة الجيش السوري. وتم طرد الابن والزوجة بمرافقة رجل الأعمال الإسرائيلي زئيف سابير الذي ادعى أحقيته في أملاك الشيخ ناصيف، وقدم أوراق مزورة يدعى فيها الشراكة مع الشيخ سليمان ناصيف، وحطوا في مدينة القنيطرة. حيث بقيت وداد ناصيف في المدينة ورفضت الخروج منها، حتى أعادتها إلى سورية في اتفاقات الفصل عام 1974.

هذه المنطقة الاستراتيجية والمتميزة بوفرة المياه التي يمكن أن تحتوي على مادة اليورانيوم وتستخدم في الأبحاث الذرية، إضافة إلى كون هذه المياه معدنية وكبريتية ودافئة، ضاعفت أطماع “إسرائيل” فيها، وتدفعها اليوم إلى التمسك بها والسعي لإبقائها ضمن دائرة احتلالها وعدم الانسحاب منها، كونها تقع ضمن أراضي وحدود 4 حزيران/ يونيو العربية السورية، حتى في حال تم الانسحاب من الجولان. وهذا ما دفع “إسرائيل” إلى اعتبارها نقطة خلاف مع الجانب السوري ومطالبته بالانسحاب الكامل حتى حدود 4 حزيران، بما في ذلك الانسحاب من منطقة الحمة نفسها.

ويذكر أن “إسرائيل” أنشأت بعد احتلال الحمة شركة أطلق عليها اسم (حمة جيدر) عام 1977، وهي شركة خاصة تملكها مستوطنات “مفو حمة” و”كفار حارب” و”ميتسر وافيك”، بمساحة 150 دونم تضم المسابح والحمامات والفندق والمطاعم ومركز استشفاء حديقة التماسيح وحديقة الحيوان، وتستقبل نحو 600 ألف زائر سنويًا. وأن هذه الشركـة أعلنت عن نيتها استثمار 100 مليون شاقل في تطوير منتجع الحمّة وتوسيعه. ويزعم مدير الشركة روني لوتن أن الحمة “تقع داخل الحدود الدولية لفلسطين، كما حددتها الأمم المتحدة في العام 1948”. وهذا ما حمله وممثلي الشركة على الاقتناع بأن الحكومة الإسرائيلية لن تعيد منطـقـة الحمّة إلى سورية. وذلك على حد ما جاء في كتاب “لا أحد يشرب” للدكتور طارق المجذوب، صفحة 107.

كان لسياسة “إسرائيل” الراهنة تجاه الحمّة ما سبقهـا قبل حصول الاحتلال، ولعل سياسة الإغراء بعرض أسعار خيالية للمنطقة، ومحاولة شرائها التي اصطدمت بإصرار سليمان ناصيف على التمسك بها، وعدم التخلي عنها مهما كان الثمن، لم تكن بلا بديل، إذ لجأت في العام 1951 إلى الاستيلاء على هذه المنطقة الحيوية بالقوة في معركة الحمّة الشهيرة. وقائع هذه المعركة يرويها المقدم المتقاعد في الجيش السوري حسن أبو رقبة الذي كان مسؤولًا عن القطاع الجنوبي للجبهة الذي يشمل من الناحية التعبوية منطقة الحمّة، وذلك حتى العام 1958، يقول: “عصر أحد أيام شتاء 1951 تحركت قوة مدرعة إسرائيلية مؤلفة من سبع مصفحات وسيارات نقل جنود على طريق سمخ – مخفر الحاصل – الحمة، فتصدى لها قائد الحرس الوطـني في الحمـّة الضـابـط رشيد جربوع الذي كان يتقـن اللغة العبرية وموجود مصادفة في مخفر الحاصل المرتفع، رفض السماح للقوة بالتقدم متعللًا بمحاولة أخذ موافقة قيـادته. وهنـا سمـع قائد القوة الإسرائيلية يبلغ قيادته بالعبرية عبر اللاسلكي بوجود محاولة لمنعه من التقدم، وباعتـزامه اقـتحام المخفر ومواصلة التقدم لاحتلال الحمّة. عندئذ بادر الضابط رشيد جربوع بإعطاء الأوامر إلى قواته المحدودة المستنفرة بفتح النار وبمختلف الأسلحة المتوافرة على القوة المهاجمة. كما اتصل هاتفيًا بالمخافر السورية القريبة وطالبها بالاشتراك فورًا بإطلاق النار؛ ما أوقع إصابات كثيرة في القوة المهاجمة، وتمّ إعطاب أربع مصفحات، فارتبك العدو واضطر إلى الانسحاب جارًا العربات المصفحة المعطوبة، وحاملًا قتلاه الذين بلغ عددهم على ما أذكر 11 قتيلًا عدا الجرحى. فيما لاحقته نيران المدافعين عن المنطقة، حتى عادت قواته إلى نقاط انطلاقها، وسارع الضابط جربوع إلى إبلاغ قيادته تفاصيل ما حدث، طالبًا المبادرة إلى إخلاء مئات الزوار الذين كانوا في الحمة آنذاك، وذلك تجنبًا لما قد تتعرض له المنطقة بكاملها من اعتداءات وأعمال قصف انتقامية. وتم فعلًا إجلاء هؤلاء الزوار ليلًا، بواسطة القطار إلى دمشق والقنيطرة، وإلى الأردن بواسطة الزوارق على نهر الشريعة. وفي اليوم التالي، صحّ ما توقعه جربوع، فقام الطيران الإسرائيلي بقصف منطقة الحمة والمخافر المحيطة بها بشدة. ولكن الاحتياطات المتخذة فوّتت على العدو فرصة إيقاع خسائر فعلية في وسط الزوار والأهالي. ونتيجة هذه المعركة البطولية، كرّمت القيادة السورية الضابط رشيد جربوع بمنحه “الوسام الحـربي” السوري.

إثر هذه المعركة قامت “إسرائيل” بمحاولات متتابعة للسيطرة على المنطقة المنزوعة جنوب شرقي بحيرة طبريا وسمخ بذريعة استصلاح أراضيها للزراعة. لكن المخافر السورية كانت تتصدى بالنار لهذه المحاولات، فتتدخل قوات مراقبة الهدنة لتوضح أن هذه الاعتداءات الإسرائيلية إنما هي “أعمال مدنية” ولا صفة حربية لها. في حين كان الرأي السوري أن هذه الأعمال كان لها دائمًا الصفة الحربية، وتشمل شق الطرق الجديدة وإقامة الخنادق العديدة، بحجة تأمين المياه الجارية لمزروعاتهم. وكانت قوات المراقبة تكتفي بالتشديد بعدم تكرار فتح النار. ونذكر هنا أن القوات السورية عملت على تشجير طرقات المنطقة، كما أقامت بيوتًا للمواطنين الموجودين في قريتين أماميتين هما العامرية والناصرية عام 1958. إلا أن معركة الحمّة كانت المحاولة العسكرية الإسرائيلية الأولى والأخيرة، قبل العام 1967 لاحتلال الحمة”.

إدارة المشروع

تمتلك وداد سعيد ناصيف، ابنة شقيق سليمان ناصيف التي أمضت أكثر من 20 عامًا في الحمّة، حاليًا 500 سهم من أسهم الشركة، إضافة إلى 70 سهمًا نصيبها من إنتاج الشركة هي التي بقيت ملكًا لها من أصل 2000 سهم، كانت تملكها حتى العام 1956 حين اضطرت إلى بيع 1500 سهم منها لترميم أحد المنزلين اللذين تضررا لوالدتها ولوالدها في المختارة، نتيجة الزلزال الذي دمر عشرات المنازل في المختارة، إضافة إلى منازل كثيرة في العديد من قرى الشوف، وباعت السهم الواحد في حينه بـ 10 ليرات لبنانية لأحد تجار الحبوب الكبار في بيروت (حسين مكاوي). تقول وداد سعيد: “كان مشروع الحمّة يتبع لفلسطين، وكانت الحمّة بمثابة مشفى ومشتى، يقصدها الرواد من كل البلدان المجاورة للاستحمام، نظرًا إلى مياهها المعدنية والكبريتية الساخنة التي تشفي الكثير من الأمراض”. وتضيف: “بعد أن انتهت مدة الامتياز الأولى كان لا بد من تجديد العقد لاستكمال المشروع، وهذا ما حصل فعلًا حين تم بناء الفيلات والفندق والغرف المفروشة وتجهيزها، في المرحلة الثانية من الامتياز الذي تم لمدة 99 سنة. وأقام شركة، لها مجلس إدارة من الوجـهـاء وبعض العاملين، وتـذكر من هؤلاء الأعضاء في مـجـلـس الإدارة المرحوم عبـد الرحمن الحاج إبراهيم، وهو من وجهاء حيفا الوطنيين. وإضافة إلى ذلك قام سليمان ناصيف بشق طريق من فلسطين إلى الحمّة عـبـر طبريا – سمخ – فالحمّة. إذ كان صعبًا الوصول إلى الحمّة، قبل أن يقوم عمي بشق الطريق من فلسطين”، وتقول إن عمها أيضًا أجرى التحاليل على مياه الينابيع، وخصوصًا الصالحة للشرب، وبشكل دوري في نـيـس الفـرنـسـيـة، وكان يُقـال لـه إن مياه الحمـّة أفضل من مياه فيشي”.

يقول هاني الزريني زوج ابنة شقيق سليمان ناصيف السيدة فدوى ناصيف التي تملك 2500 سهم من أسهم الشركة، وهو أحد أعضاء مجلس الإدارة الحالي، وكان يعمل مفتشًا في الشركة، يقول: “كنت أزور الحمّة أسبوعيًا. كل نهار جمعة عن طريق مرجعيون – العباسية – بانياس – القنيطرة – الجولان فالحمّة، وكنت أبقى حتى الأحد، وكان لديّ تصريح دائم من قيادة الأركان السورية لزيارة الحمة. وكانت آخر زيارة لي إلى الحمّة في أواسط نيسان/ أبريل 1967 وذلك قبل احتلالها في عدوان حزيران”.

ويضيف: “بعد العام 1948 كانت الطريق الوحيدة التي تربط المنطقة بالحمّة تمر عبر الجولان السورية، حيث كان الزوار يحصلون على تراخيص من قيادة الأركان السورية في دمشق أو القنيطرة”. ويتابع: “لقد حاولت “إسرائيل” ضم الحمّة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ولكنها فشلت، بسبب وقوع الحمّة ضمن الأراضي السورية وتحت حماية الجيش السوري. وحاولت عام 1951 القيام بعملية عسكرية لاحتلال الحمّة، وفشلت أيضًا”.

بعد عام 1948، تركز اهتمام مجلس إدارة الشركة على تنظيم وتوسيع المشروع، ليكون قادرًا على استقبال أكبر عدد ممكن من الزائرين والرواد وتوفير كافة التسهيلات اللازمة والممكنة لهم. ركزنا أيضًا على الحؤول دون أن يحقق العدو الإسرائيلي أي اختراق للشركة. فأصدر مجلس الإدارة قرارًا يمنع بموجبـه بيع أي سهم لأي كان، من دون موافقة مجلس الإدارة. ودخل إلى مجلس الإدارة مساهمون جدد كان أبـرزهم ممثلون لخط الحديد الحجازي في سورية، إضافة إلى أعضاء ومساهمين جدد من لبنان والأردن.

وانسجامًا مع نفسه، وتعبيرًا عن صدق ارتباطه بأرض الحمّة وتعلقه بها، شاء سليمان ناصيف أن يرقد فيها عن عمر تقول وداد إنه بلغ 104 سنوات. وقبل وفاته أوصى بأن يدفن في الحمّة، وتقول إنه أشرف بنفسه على إعداد القبر وتحضير البلاطة الرخامية. وقام بتحديد مواصفات القبر ومكانه بالضبط، وحدد درجة انحناء البلاطة التي ينبغي أن تُشكّل سطح القبر. وفي حياته طلب أن تُكتب عليها أبيات من الشعر نظمها لهذه الغاية.

وبموكب رسمي وبمواكبة شعبية كبيرة، سلكت جنازة سليمان ناصيف طريقها إلى مثـواه الأخيـر في الحمـّة في شباط/ فبراير 1959، بعد وفاته في الشام تاركًا وراءه زوجة وابنين وابنتين، وتاريخًا حافلًا بالذكريات والمواقف والإنجازات الكبيرة التي ستبقى كلها علامات مضيئة في حياة رجل كبير من بلادنا.

المصادر:

– متحف الحرب البريطاني – أرشيف بن غوريون.

– رابطة أدباء الشام.

– مشروع حمامات الحمّة في عهد الانتداب البريطاني – د. محمد عقل – مركز الجولان للإعلام والنشر.

– منتجعات الحمّة السورية: أطماع إسرائيل فيها تطرح “إشكالية” الحدود – فشلت إسرائيل في احتلالها عام 1951 فاحتلتها في عدوان 1967 – الحياة/ عبد الله هاشم.

– الوكالة الوطنية للأنباء: لقاء مع هاني الزريني عضو مجلس إدارة الشركة والمفتش فيها.

– موقع المستوطنين الإسرائيليين في الجولان المحتل “شيشي بغولان”.


أيمن أبو جبل


المصدر
جيرون