on
الخيارات الصعبة أمام السوريين
يجب الاعتراف بفشل السوريين في تحقيق أهداف الثورة التي قامت لأجلها: إسقاط النظام وإقامة البديل المدني الديمقراطي التعددي، وبأن أسبابًا متداخلة أسهمت في النتائج التي تفرض عليهم الانطلاق منها، لا من تصورات رغبوية.
السوريون أمام وقائع جديدة، تتموضع فيها مناطق النفوذ التي يمكن أن تكون أقرب إلى كيانات مستقلة، قد تتعضد لتصبح شبه دول تحت إشراف الجهات النافذة. وفي حين ترتسم ثلاث مناطق، ما يزال جزء من سورية عرضة للإلحاق بهذه الجهة أو تلك، فمعارك الغوطة وانسحاب المحسوبين على الثورة منها، وتهجير عشرات الآلاف من سكانها إلى الشمال، يوضّح حدود “الدولة المفيدة” التي تقع تحت سيطرة النظام، بإشراف ونفوذ روسي-إيراني، وبما يفتح المجال لتنافسات لاحقة بين الطرفين، وهي المنطقة المأهولة بالسكان التي تضمّ العدد الأكبر والأهم من المدن ذات الأغلبية السكانية الأكبر، وتضمّ خليطًا من “المكوّنات” المذهبية، بينما تُطرح الأسئلة عن نسبة الوجود الشيعي فيها، اقترانًا بمستوى حركة التشيّع من جهة، ومنح آلاف الإيرانيين الجنسية السورية من جهة أخرى.
منطقة النفوذ الثانية تشمل المنطقة الشرقية لحوض الفرات، وهي تحت السيطرة الأميركية، وتضمّ المناطق الأغنى بالثروات النفطية والغاز والمياه والأراضي الزراعية الشاسعة، وضمن هذه المنطقة، ما يزال الإبهام قائمًا حول وضع الأكراد، وقوات (قسد) بالخصوص، وهل سيمكّن الأميركيون قوات “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي من إقامة كيان مستقل، أو إدارة ذاتية، مع معارضة شرسة من تركية؟ أم يمكن التوصل إلى تفاهمات ما بين الأميركيين وتركيا، تمنح أهالي المنطقة الحق والحرية في حكم مناطقهم، وفق توزعاتهم العرقية وغيرها؟ وبالتالي يتمّ نسف الكيان الذاتي للحزب الكردي، مقابل شكل ما من الإدارة المركزية؟
بينما تمتدّ منطقة النفوذ التركي إلى شمال وغرب حلب، ويمكن أن تتسع إلى منبج وإدلب وأجزاء من غرب وشرق الفرات، وهي المنطقة المتاحة أمام المعارضة للعمل والتعاون مع الحكومة التركية، وبناء علاقة شراكة استراتيجية تؤهل أهل المنطقة لإدارة شؤونهم، وتمكّن الحكومة السورية المؤقتة من أداء دورها، في مختلف المجالات.
هناك المنطقة الجنوبية التي ما يزال مستقبلها غير واضح، وهي ذات حساسية أمنية خاصة تتعلق بـ “أمن إسرائيل”، بما يتعارض مع أي وجود إيراني، أو اقتراب له، ولو على مسافة قد تصل من 30 إلى 50 كم. وما يحكى عن إقامة سلطة ذاتية بإشراف الأردن، ورعاية أميركا، ويمكن أن تكون مستقلة أيضًا.
السوريون اليوم، ولا سيّما أهل الثورة، في وضع صعب، وأمام تحديات خطيرة يمكن أن تهدد وحدتهم الجغرافية والسياسية والشعبية، بالانقسام إلى عدد من الكيانات، وشبه الدول المستقلة؛ إذ على الرغم من أن جميع القوى النافذة بالوضع السوري تُكرر حرصها على وحدة سورية الجغرافية، فإن ما يجري على الأرض يناقض ذلك، حيث إن كل منطقة نفوذ تخضع اليوم لبرامج ومشاريع ومخططات الدول النافذة، إن كان على صعيد القوى العسكرية التابعة لها أو التي تقيمها من سكان البلد، والأمن والشرطة والقضاء، والعلاقات بين الناس، وصولًا إلى التعليم والثقافة واللغة.. وكل ذلك يترسخ مع مرور الأيام؛ ليصبح أمرًا واقعًا له مفاعيله ونتائجه.
وإذا ما ترافق ذلك مع عدم وجود حلّ سياسي، يلبّي الحدّ الأدنى من مطالب السوريين الذين ضحّوا بملايين الشهداء والجرحى والمهجّرين والنازحين؛ فإن الأمور ستطول، وقد تستغرق سنوات تحمل معها تثبيت الأوضاع الراهنة، وجعلها واقعًا قائمًا.
لذلك تبدو اليوم خيارات السوريين صعبة، ومطوّقة بهذه الاعتبارات المفروضة، وعبر هذه التوزعات، لا يوجد سوى تركيا التي تتقاطع مصالحها مع مصالح الثورة السورية إلى حد بعيد، بما يقتضي بناء شراكة استراتيجية قائمة على المصالح المشتركة، والندّية والحفاظ على استقلالية القرار والسيادة الوطنية، مع ضرورة وضع خطط واقعية، للتواصل مع بقية مناطق النفوذ بالارتباط مع فعاليات الشعب، وإيجاد الأشكال التنظيمية المناسبة التي تعزز الوحدة الوطنية، وتعمل على إسقاط مشاريع التقسيم.
إن الاهتمام بالمنطقة الشرقية، عبر تدعيم الأشكال السياسية التي يبادر إليها العديد من القوى فيها، وإقامة الهيئات والمؤسسات الواجبة لإدارة المنطقة في الوقت المناسب، عملٌ قطَع بعض المسافات، لكن يجب تقويته، وممارسة الضغط عبره على القوى النافذة؛ كي تتيح المجال لهم بإدارة مدنهم ومناطقهم، وإلا ممارسة الوسائل التي تجبر هؤلاء على ذلك، خاصة بوجود أجسام وهيئات شعبية، لها رصيدها الواقعي وقدرتها على تحريك الشارع.
أما منطقة “سورية المفيدة”، فلن تكون ساحة مباحة للروس، أو الإيرانيين، على الرغم من كل ما يحصل فيها من اختراقات إيرانية داخلية، تطال حتى النخاع الشوكي للوطنية السورية التي ترفض بالقطع التقسيمات المذهبية، وسيناضل الشعب السوري، ولو استغرق ذلك زمنًا آخر، وتضحيات مفتوحة؛ للحفاظ على وحدة البلاد الجغرافية والسياسية والمجتمعية.
جيرون
المصدر
جيرون