الرقص و”النخ” مع الأوغاد!



من سمات العصر الأسدي الأب، في الحقبة التي تلت انتصاره على المجتمع السوري، نتيجة مذبحة حماة 1982؛ الرقص في الشوارع والبرقيات الشعبية المكتوبة والموقعة بالدم، وقصائد المديح التي تتغزل بشجاعة “الفارس” الذي انتصر على التنين وأنقذ العذراء! حتى إنه أُشيع في سورية أن كميات الدم قد نفدت من البنوك، فتم استيراد كميات ضخمة من دماء عمال العالم الذين اتحدوا، لدعم الأسد في حربه ضد الرجعية والخونة وعملاء الصهيونية. لكن الطريف الذي تكشف، فيما بعد، في مذابح المدن السورية، أن الداعم الحقيقي للأسد هم الرجعيون ورجال الدين، وأصحاب بنوك الدم والمال في العالم.

وكي لا أنسى، أنني أكتب مادة ساخرة، وأختنق مع من اختنق بالغازات السامة، التي “استوردها” الثوار من روسيا، كي تقتل الناس وتتهم الأسد بذلك، سأعود الى نقطة البداية، ألا وهي الرقص في الشوارع، أو “الدبكة”، كما نسميها نحن الريفيين. فحسب معلوماتي المتواضعة، والمشكوك في صحتها، لم تعرف المدن السورية، ولا غيرها من مدن العالم، دبكة الشارع، التي “يدبك” فيها على الأول، أحيانًا، رئيس وزراء، وغالبًا المحافظون، أما الوزراء والمديرون العامون فقد كانوا منتشرين في تظاهرات الشوارع الراقصة، كانتشار الفطر بين أصابع الأقدام القذرة، يمكن رؤيتهم وشم رائحتهم النتنة. لذلك يمكننا القول دون خوف من “الأكاديميين” الحريصين على الدقة العلمية: إن الدبكة في الشوارع، هي اختراع ريفي “منفتح”، تم تصديره إلى المدينة “المتعصبة”، بهدف تحديثها، وإبعاد شبح التخلف والتعصب والرجعية عن شوارعها، وحاراتها الضيقة، ودمج السكان وبيوتهم بالشارع، وإلغاء الحدود، كل الحدود، ما بين الخاص والعام، وجعل “المالك التقدمي” للفضاءين، واحد إلى الأبد.

في ذلك العصر (1984)، استطاع أحد أساتذة الهندسة في جامعة حمص، إضافة قيمة هندسية جديدة إلى عناصر الهندسة المدينة، وهي عن أهمية الساحات العامة “والدبكة الشوارعية”، في كل تصاميم الهندسة للأبنية العامة، مستوحاة من المفهوم الريفي للدبكة. صحيح أنه خسر حياته لقاء نظريته تلك، ولكنه استطاع تسجيل الاختراع بدمه، الذي هُدر في أقبية فروع المخابرات العسكرية، بدل هدره على برقيات التأييد للأسد، قبل الثورة السورية بأكثر من ربع قرن.

تقول الحكاية التي تداولها طلاب الهندسة المدنية في حمص: إن أحد طلاب السنة الأخيرة، قدم مشروع التخرج إلى ذلك الأستاذ، وهو عبارة عن تصميم مدهش لمركز ثقافي يحتوي، إضافة إلى المكتبة وقاعات المطالعة، صالةً للموسيقى والحفلات الغنائية والرقص الشعبي، ومسرح وصالة سينما عصرية. ولكن الأستاذ المشرف وضع علامة صفر مع إشارة ضرب كبيرة على مشروع التخرج. وعندما سأله الطالب عن عيوب المشروع، قال الأستاذ: إنه من أجمل المشاريع التي اطلعت عليها حتى الآن.

قال الطالب باستغراب، وهو يكاد يبكي: لماذا إذًا علامة الصفر يا دكتور؟ قال الأستاذ: لأنك يا ابني قد نسيت أهم عنصر في مشروع المركز الثقافي، ألا وهو “ساحة الدبكة”، أين سيعبّر المواطن التقدمي عن أفراحه بقيادته الحكيمة؟ أين ستعقد حلقات الدبكة التي يدبك فيها المواطنون، والأهم من الدبكة، هو “النخ” المرافق، أنت تعرف أن الدبكة دون “نخ” لا تساوي قرشًا، لأن “النخ” هو الذي يعبّر عن الحماس وحب القائد، وهو كالتوقيع بالدم على البرقيات المؤيدة للقائد، والمرسلة من قبل الجماهير، من دون “النخ”، تصبح الدبكة مثل لحق البنات في الشوارع لتطبيقهن، فماذا سيقول عنا العالم الخارجي، وهو يرى تصميمًا هندسيًا لمؤسسة عامة في سورية، لا تحتوي على فضاء يسمح للقدمين والساقين بالتعبير عن فرحتهما -رقصًا- بالقيادة الحكيمة وعبقريتها الاستثنائية في قيادة الوطن في بحر المؤامرات، والوصول به إلى بر السلامة؟

ختم الأستاذ كلامه مع طالبه، قائلًا له: أعد كتابة مشروعك يا ابني، وأتمنى لك التوفيق.

وما عرفه كل طلاب جامعة حمص بعد ذلك، هو اختفاء الدكتور نهائيًا! وقد أكد أحد الطلاب المعتقلين، فيما بعد، أنه لمح الدكتور في قبو فرع المخابرات العسكرية.

وعلى سيرة الرقص و”النخ”، أحب أن أختم كلامي بحدوته صغيرة حدثت في مونتريال، وكان بطلها الرئيس هو أحد “النخيخة” في شوارع الأسد في الثمانينيات، الذي زار ملهى لمشاهدة عشرات الراقصات العاريات، فقد أقسم بشرفه بصوت عال، وقال إنه يراهن على قطع يده، إذا كان بين تلك النساء واحدة “عذراء”.

لذلك قد تقدرون الآن أهميّةَ الرؤية الاستراتيجية التي تتمتع بها أغلبية “الدبيكة والنخيخية”، والتي سمحت للأسد باجتياح الغوطة وغيرها من المدن السورية، وبإعادة تسويق نفسه عالميًا!!


ميخائيل سعد


المصدر
جيرون