نظام الأسد يطلب من المهّجرين تعهدًا بعدم التظاهر والكتابة ضده



“حضن الوطن الدافئ”، الذي صرعوا رؤوسنا به، تحوّل إلى مراكز اعتقال جماعية، وأعني هنا تحديدًا مراكز إيواء اللاجئين والمهجرين التي أنشأها نظام الأسد في محيط دمشق، للسوريين الذين رفضوا الذهاب إلى الشمال السوري وفضلوا البقاء في مناطقهم، بعد أن دمّر النظام السوري والروسي بيوتهم وعفشوا محتوياتها، واحتجزوهم في ظروف مأسوية، داخل مراكز إيواء بعيدًا من المناطق السكنية قرب منطقة عدرا شمالي دمشق، وفي منطقة حرجلة قرب الكسوة جنوبي دمشق، حيث تعاني تلك المراكز من الاكتظاظ الشديد، والتدني الكبير في مستوى الخدمات المقدمة فيها، فضلًا عن طريقة التعاطي المذلة والمهينة بحق المهجرين، باعتبارهم “البيئة الحاضنة للإرهابيين”، حيث يتم إخضاعهم للرقابة والتدقيق والتضييق والحجب اليومي، ومنع احتكاكهم مع العالم الخارجي إلى أقل حد ممكن. حيث لا يسمحون للإعلام بدخول تلك المراكز إلا لوسائل إعلام النظام، وفي أضيق الحدود، وبعد إرهاقهم بالموافقات الأمنية الكثيرة، وحصر دخولهم إليها بالتزامن مع زيارات المسؤولين التفقدية لتلك المراكز، وذلك حرصًا منهم على إبقاء ما يجري في داخلها كأسرار بعيدًا من أعين الإعلام.

وكانت قوات الأسد قد اشترطت على من يرغب في الخروج من تلك المراكز للسكن في دمشق، أن يجد كفيلًا يتعهد بإخراجهم واستضافتهم، بعد أن يقدم صورة عن أوراقه الثبوتية ومكان إقامته بالتفصيل، ومن حالفه الحظ بإيجاد كفيل للسكن في دمشق، لن يستطيع الخروج إلا بعد أن يدفع رشا كبيرة للمسؤولين عن المركز.

وسبق للممثل المقوّم لأنشطة الأمم المتحدة في سورية السيد علي الزعتري أن وصف الوضع المزري لتلك المراكز بعد جولة فيها، بقوله: “لو كنت مواطنًا؛ لما قبلت بأن أبقى في (مركز إيواء عدرا) خمس دقائق، بسبب الوضع المأسوي”، وأضاف قائلًا من مكتبه بدمشق: “صحيح أن الناس هربوا من قتال وخوف وعدم أمن، لكنهم ألقوا بأنفسهم في مكان لا يجدون فيه موضعًا للاستحمام”.

ولم يكتف نظام الأسد بذلك، بل فرض شروطًا تعجيزية وقاسية ومكبلة، بحق مهجّري الغوطة؛ للقبول بتسوية أوضاعهم والسماح لهم بالعودة إلى مناطقهم، عندما يقرر ذلك، فقد وزع عناصر النظام على المهجرين الذين قبلوا تسوية أوضاعهم، نموذجًا جاهزًا ومطبوعًا لتعهّد خطي يجب أن يملأه الراغب في التسوية ويوقعه، ومن يطّلع على مضمون هذا التعهد؛ يكتشف بسهولة أنه مجرد صك إذعان واستسلام.

تضمن التعهد الخطي خمسة بنود، تمّ ختمها بعبارة: “وأُشهِد الله على عهدي وتعهدي وهو خير الشاهدين”، وعلى مقدم التعهد أن يلتزم بتلك البنود، تحت طائلة العقوبات التي لم يفصح عنها في مضمون التعهد، والبنود الخمسة هي:

عدم إثارة الشغب أو التظاهر أو رفع الشعارات أو كتابتها أو التحريض عليها أو السكوت أو التستر على من يرتكبها أو يحرض عليها. عدم تخريب أو تعطيل الممتلكات العامة والخاصة، وعدم حيازة السلاح أو الاتجار به أو تهريبه، بأي شكل من الأشكال، وبغض النظر عن نوعه أو مسماه. عدم الاعتداء بالقول أو الفعل على رجال الأمن والشرطة وعناصر الجيش. أقر بأنني على علم وإطلاع على العقوبات المترتبة على مخالفتي لذلك. أتعهد بأن أعمل دائمًا في ظل مؤسسات الدولة، لبناء عزة وقوة وطننا الحبيب وشعبها الكريم.

يبدو واضحًا من قراءة مضمون هذا التعهد أن النظام السوري يهدف، من خلال توقيع المهجرين الراغبين في التسوية على هذا التعهد، إلى تكبيلهم بسلسلة من الشروط التعجيزية المذلة، وجعلها كسيف مسلط على رقابهم يشهره بوجههم، عند أي مخالفة بسيطة له، وهذا الأمر سيجعل المهجرين عرضة للتهديد الدائم بالاعتقال والتوقيف، عند أي حالة تذمر أو شكوى، كما أنه سيمنح في الوقت نفسه سلطة مطلقة، لعناصر الأمن والشرطة، في السطوة على حياة المهجرين والتحكم بهم وإذلالهم، بذريعة مخالفة بنود هذا التعهد الذي لا يختلف عن القيود والسلاسل التي يُقيّد بها المجرمون.

هذه السياسة في التعامل مع الناس من قِبل من يُفترض أنهم يمثلون دولة، ويطرحون أنفسهم كمحاربين للإرهاب، هي السياسة نفسها التي ولّدت الإرهاب، وهي نفسها التي دفعت الكثير من السوريين إلى الثورة على الظلم والاستبداد، طلبًا للحرّية، وإن الاستمرار في هذه السياسة القائمة على تخويف الناس وإذلالهم وقهرهم في حياتهم ومعيشتهم سيؤدي من جديد إلى انفجار، ربما قد يكون أقسى وأشد مما شاهدناه على امتداد السنوات السابقة.

ما كان لكثير من السوريات والسوريين أن ينتفضوا ضد نظام الأسد، في آذار عام 2011، لولا الظلم والقهر الذي عانوه طوال أكثر من خمسين عامًا.


ميشال شماس


المصدر
جيرون