يا ويلنا كم لبثنا!



وأخيرًا وقعت الواقعة، نفّذ الرئيس الأميركي تهديداته التي غرّد بها، عبر (تويتر) على مدى أيام، وأطلق صواريخه الذكية باتجاه دمشق ومناطق أخرى، لتستهدف نقاطًا محددة مسبقًا، بل نستطيع القول إنها نقاط متفق عليها سلفًا، إذ اكتفى الروس بدور المراقب، فرصدوا حركة الصواريخ وهي تتجه نحو أهدافها دون أن يكون لهم أي ردة فعل. مع أنهم توعدوا خلال الأيام الماضية بأنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي، لكن ما حدَث في الكواليس، بينهم وبين الأميركيين، قاد الطرفين بالضرورة إلى اتفاق ربما لن نتمكن من معرفة تفاصيله في الأيام المقبلة، لكنه بكل تأكيد لن يظل سريًا وقتًا طويلًا، فنتائجه ستبدأ بالظهور تباعًا، وتنعكس على الحدث بشكل مباشر. الكثير من التوقعات وضعت رأس النظام على طاولة البحث بين واشنطن وموسكو، فقد رفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب سقف مطالبه، من خلال تغريداته طبعًا، وهو لن يقبل بصفقة عادية مثل تلك التي توصلت إليها الإدارتان الأميركية والروسية، في أعقاب الهجوم الكيمياوي على الغوطة الشرقية صيف العام 2013، لكن أيًا من تلك التوقعات لا تستطيع القول إن شيئًا ما قد يحدث، على المستوى السياسي، وخاصة في ظل غياب شبه كامل للطرف الآخر، والمقصود به المعارضة السورية التي تبدو غائبة عن المشهد كليًا، وهي بانتظار التوجيهات التي تصلها من هذا الطرف أو ذاك، لا كي تتحرك، ولكن كي تدلي بتصريحات، وبالتأكيد هي غائبة كليًا عن الأرض، ولن تستطيع إحداث أي تغيير، وخصوصًا بعد أن تمّ تهجير ما تبقى من مسلحي الغوطة الشرقية، ونقلهم بعيدًا إلى الشمال، حيث لن يكون بإمكانهم فعل شيء، حتى وإن تداعى نظام دمشق، وهذا ما لن يحدث، ولا سيّما أن الضربات الصاروخية لم تقترب من مراكزه السيادية، كما أسلفنا، بل إنه يحاول أن يظهر بعد الضربة أكثر قوة وعنجهية، فهو تصدى ببسالة للعدوان الثلاثي الغاشم الذي استهدف قلعة الصمود، حسب وسائل إعلامه، وهو سيواصل مسيرته في مكافحة الإرهاب، كما نقل عنه، فهو إذًا منتصر، وقد دفع أنصاره إلى الاحتفال في ساحات العاصمة دمشق، وسوف تتواصل احتفالاته إلى أن يحين موعد تسديد الثمن، الذي تمّ الاتفاق عليه، بين الأوصياء عليه الروس وبين أعدائه الأميركيين، وقد يستغرق الأمر وقتًا طويلًا.

لكن أيًا من التوقعات تظل حبرًا على ورق، لأننا بمراجعة سريعة لما حدث في الجارة العراق، في أعقاب حربين شنتهما الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها على نظامه الأسبق؛ سنكتشف أن صدام حسين استمر على رأس السلطة اثني عشر عامًا، بعد حرب (عاصفة الصحراء) 1991 المدمرة التي أخرجته من الكويت، واستمر في الحكم قرابة سبع سنوات، بعد عملية (ثعلب الصحراء) 1998، على الرغم من الحصار الاقتصادي والعقوبات الأميركية والأوروبية على نظامه، وقد كانت واشنطن وقتئذ تعدّ صدام حسين عدوًا مباشرًا لها، لذلك فإن مسألة إنهاء نظام دمشق، قد لا تكون أصلًا من ضمن أولويات إدارة ترامب، ولا حتى حلفائه الأوربيين لندن وباريس تحديدًا، وتشير تصريحات كبار المسؤولين إلى أن الضربة تهدف فقط إلى التأديب، وإلى شلّ قدرات النظام على استخدام السلاح الكيمياوي، ولا نعتقد أن نظام دمشق يكترث أصلًا بسلاحه الكيمياوي؛ فهو قادر على تنويع نوعية الأسلحة التي يستخدمها، وهي أشد فتكًا بكثير من سلاحه الكيمياوي الذي يجرّ عليه نقمة غربية، هو في غنى عنها، وخاصة بعد أن نجحت موسكو في إبقائه على كرسي السلطة، وتقلصت مساحة معارضيه، عسكريًا وسياسيًا، وتبدو سورية المفيدة اليوم صالحة أكثر من أي وقت مضى، للبدء بعملية إعادة الإعمار، وفق رؤية إيرانية روسية، وأما ما تبقى من سورية، خارج الحدود فسيظل نهبًا لكل احتمالات الخراب والفوضى، وهناك تحديدًا تكمن الصفقة، فمن الواضح أن ما يهم واشنطن هو المنطقة الشرقية، بما تحويه من ثروات، وهي موجودة هناك فعليًا وتريد بسط سيطرتها أكثر، دون أن تصطدم بالقوات الروسية أو قوات النظام التي كانت قد حذرتها، في وقت سابق، من الاقتراب من مناطق سيطرتها أو مناطق سيطرة “قوات سورية الديمقراطية” التي تعمل بإدارة أميركية.

وفيما سيظل المشهد ضبابيًا، خلال الأيام المقبلة، وستزداد التكهنات فيما يمكن أن يحدث لاحقًا، فمن المؤكد أن النظام لم يسقط، وهو لن يسقط في المدى المنظور على الأقل، كما أن من المؤكد أن سورية لن تتعافى سريعًا من هذه المحنة التي تمر بها، وأن مشروعًا وطنيًا سوريًا لن يبزغ فجأة بين ليلة وضحاها، وسوف يظل السوريون يراقبون نشرات الأخبار، وهم يتجولون في الخراب الكبير، وينتظرون خلاصًا وهم يرددون: يا ويلنا كم لبثنا!


ثائر الزعزوع


المصدر
جيرون