on
فصل المقال بين تغريدات ترامب وواقع الحال
في السابع من نيسان/ أبريل عام 2017، أمَر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بإطلاق 59 صاروخ كروز على مطار الشعيرات، الذي انطلقت منه طائرات النظام السوري في مهمةٍ، لضرب بلدة خان شيخون التابعة لمدينة إدلب شمال غرب سورية بغاز السارين، الذي أودى بحياة العشرات من المدنيين.
في التاريخ ذاته من هذا العام، شنّ النظام هجومًا بالسلاح الكيمياوي على مدينة “دوما” بريف دمشق، أوقع أكثر من أربعين ضحية، وفق تقارير منظمات محلية ودولية، وأكثر من 500 آخرين ما زالوا يتلقون العلاج من إشكالات في الجهاز التنفسي، جلهم من النساء والأطفال.
فقرر الرئيس الأميركي أن يُعيد معاقبة النظام ثانية، مع تفادي التصعيد والدخول في نزاعات شاملة، فجاءت الضربة فجر يوم السبت 14 نيسان/ أبريل الحالي، بإطلاق 105 صواريخ ذكية على أهداف في سورية، مرتبطة ببرنامج الأسلحة الكيمياوية تحديدًا، وبعض مراكز الدفاع الجوي للنظام، وذلك بالتنسيق مع بريطانيا وفرنسا، وبعد أن تمّ إبلاغ الروس بالحيثيات أيضًا، بحيث تمكّن النظام خلال أسبوع من إخلاء كامل مواقعه وعتاده الكيمياوي وغير الكيمياوي.
برر ترامب هذه الضربة باعتبارها ناتجة عن “عجز روسيا عن لجم ديكتاتور سورية”، بينما لم تخفِ المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة: نيكي هايلي، يوم 15 نيسان/ أبريل، أنّ مهمة الولايات المتحدة “لم تكن يومًا رحيل الأسد، بل منع وقوع حرب”، وحددت في حديثها مع (فوكس نيوز) أن للولايات المتحدة ثلاثة أهداف في سورية، وهي ضمان عدم استخدام الأسلحة الكيمياوية، بأي شكل يمكن أن يعرّض مصالح الولايات المتحدة للخطر، وهزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وضمان وجود نقطة مراقبة جيدة لمتابعة ما تقوم به إيران.
احتلت هذه التصريحات وسواها حيزًا مهمًا في وسائل الإعلام، التي احتفت لأكثر من أسبوع بالكثير من الاستعراضات التي ملأت أروقة مجلس الأمن الدولي بالمشاريع والمشاريع المضادة، والتي نجحت بشدّ جمهور أوسع من المتابعين على كل وسائل التواصل التقليدية والحديثة، جمهور غرق أكثره في متابعة “عواجل” تطورات ردّات الفعل التي تُحدثها تغريدات الرئيس الأميركي من جهة، ونقاشات المشاريع المقدمة لمجلس الأمن من جهة ثانية، والتي لم تخلُ من بعض المفارقات، وأحيانًا بعض المهاترات، بين المندوبة الأميركية ووقاحة المندوب الروسي.
فيما لم تحمل الضربة الغربية أكثر من رسالة سياسية، لردع النظام عن استخدام الكيمياوي مستقبلًا، وهو ما يشكك أغلب المراقبين في إمكانية تحققه، فهذا النظام الذي لم يلتزم، منذ مسرحية عام 2013 حتى الآن، بتسليم مخزونه الكيمياوي، لن يلتزم الآن بذلك، كما لن يلتزم أيضًا الضامن الروسي/ بوتين، بالضغط على ربيبه “الأسد الصغير”، كي لا يخطئ ثانية في موضوع الكيمياوي، أسوة بعدم التزامه في صفقة التسليم الأولى، خاصة أن موسكو تعدّ الضربة الغربية الأخيرة إهانة شخصية للرئيس بوتين!
ها هي الدبلوماسية الروسية تستعير من النظام فرضيات الفوتوشوب والفيديوهات المفبركة هوليوديًا لأحداث الغوطة، دون أن تخجل من تناقضات تصريحاتها، بين عدم وجود أي أثر للكيمياوي في دوما، وبين كون الكيمياوي المستخدم في دوما جاء عبر قنابل يدوية، استخدمها الإرهابيون لتصفية الحسابات فيما بينهم، وتارة استخدمها أصحاب (الخوذ البيضاء) بالتنسيق مع أجهزة غربية، لتصوير تلك الأفلام المفبركة!
كل هذا يدفعنا إلى السؤال: وماذا بعد ذلك؟ ماذا بعد تحييد السلاح الكيمياوي، إن تمّ تحييده؟ وهل كانت الأزمة السورية تتعلق بالسلاح الكيمياوي فقط؟ أم أن أزمة سورية والسوريين، كانت وما تزال، مع نظام ديكتاتوري يقتل شعبه بكل الطرق، وربما يكون الكيمياوي أقلها فتكًا بين الأسلحة المستخدمة، وهل تتعلق الجريمة بفعل القتل أم أن الجريمة ترتبط بأدوات القتل؟ وما الفرق، بالنسبة إلى القتلى أو ذويهم، بين القتل بالطيران أم بالدبابات؟ بالصواريخ الفراغية أم بالبراميل العشوائية؟ بالرصاص الحي أم بالقنابل الحارقة؟ بالتجويع أم بالكيمياوي؟!
الموت واحد بالنسبة إلى كل السوريين، لكن المشكلة مع المجتمع الدولي، الذي يلعب على ألوان الموت، ويوزعها على خطوط خضراء وحمراء، حيث أفسح بذلك للنظام أن يستمر بقتل شعبه خلال سبع سنوات مضت، منذ أن كتب أطفال درعا عبارة “الشعب يريد إسقاط النظام”، حتى آخر ضحايا الحرية في غوطة دمشق.
وتفيد تقارير المنظمات الحقوقية أن طيران النظام السوري ومعه الطيران الروسي، ألقيا خلال شهر آذار/ مارس فقط 793 برميلًا متفجرًا، بينها 712 برميل على غوطة دمشق فقط، وكانت ضحاياها أضعاف ضحايا الكيمياوي الذي ألقي في دوما بكثير، إذ وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، مقتل 1241 مدنيًا في سورية، خلال شهر آذار/ مارس هذا العام، بينهم 865 شخصًا في الغوطة الشرقية فقط على يد النظام وحلفائه، حيث أشارت بعض التقارير أن طيران النظام والطيران الروسي شنَّا أعنف حملة عسكرية على الغوطة الشرقية، منذ 18 شباط/ فبراير الماضي، خلفت أكثر من ألف قتيل وآلاف الجرحى ودمارًا كبيرًا في المباني، وأدت إلى تهجير السكان المدنيين من بلدات حرستا وزملكا وعربين، وغيرها من مدن الغوطة الشرقية، وكل ذلك قبل الضربة الكيمياوية في دوما.
فهل يكون ضحايا تلك البراميل أقل قيمة من ضحايا قتلى الكيمياوي؟ وهل يكون آلاف القتلى بسلاح التجويع الذي يستحق عليه النظام براءة اختراع وجوائز ترضية، من حيث الكيفية والكم أيضًا، أقل قيمة؟ أم أنه قتل مشروع في العرف الدولي للغرب؟!
دعونا نلاحظ تأكيد نقطة أساسية في خطابي النظام والمندوب الروسي معًا، تكررت أكثر من مرة، في معرض الرد على استهجان الولايات المتحدة إمعان روسيا في دعمها للنظام السوري، مع تأكيدهما أنه هو النظام الشرعي وفق اعتراف المنظمة الدولية!
في هذه النقطة، يكمن فصل المقال حقًا، بين تغريدات ترامب وبين واقع الحال في سورية، إذ يتحمل المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، مسؤولية عدم نزع الشرعية القانونية عن نظام أصرّوا جميعًا أنه فقد شرعيته الأخلاقية والسياسية، لكنهم لم يخطوا الخطوة الصحيحة بهذا الاتجاه لنزع الشرعية القانونية عنه، وهو ما سمح بكل التداعيات اللاحقة في سورية، من شرعية استدعاء النظام لكل الميليشيات الطائفية من إيران وسواها، إلى شرعية تزويد روسيا له بكل أسلحة القتل والتدمير، ولاحقًا شرعية مشاركتها في القتل والتدمير في سورية، منذ عام 2015 حتى الآن، إضافة إلى شرعية تلقي هذا النظام كل المساعدات الدولية التي قدّمت لدعم السوريين من قبل المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة!
كما سمح ذلك لممثلي النظام وروسيا في مجلس الأمن بأن يستخدموا سلاح الشرعية المزعومة، في وجه كل المجتمع الدولي، الذي وافقهما أن المهمة الأولى في سورية تكمن في محاربة الإرهاب، دون الاهتمام بمحاربة أسبابه، مما سمح بتغيير المعادلة السورية، من ثورة أو انتفاضة شعب يريد الحرية ضد نظام فاسد وديكتاتوري، إلى شكل من أشكال الحرب الأهلية/ الطائفية.
المسألة، كما صاغتها السيدة هالي، أن أميركا لم تكن معنية يومًا بتغيير نظام الأسد، هذه السياسة التي صنعت استراتيجية العجز الدولي المستمر، تتحمل قسطًا من المسؤولية عن كل الجرائم التي ارتكبها النظام وحلفاؤه في سورية.
والآن يُستعاد الخطأ ذاته، بالتركيز على ردع قدرات النظام الكيمياوية، باعتبارها سلاحًا محرمًا دوليًا، بدل التركيز على إسقاط الشرعية عن هذا النظام الذي لم يترك سلاحًا للقتل أو التدمير أو التهجير إلا جرّبه في سورية، على السوريين.
أنور بدر
المصدر
جيرون