عن “الجلاء” والسجون!



تشاء الصدف أن يكون يوم مغادرتي مدينة مونتريال باتجاه مدينة إسطنبول هو ذكرى عيد الجلاء السوري، الذي لا أحمل من ذكراه إلا أنه أكبر مني بثلاث سنوات؛ فهو من مواليد 1946 وأنا من مواليد 1949. ولكن تصادف “جلائي” عن مونتريال مع اليوم الذي اعتاد فيه السوريون الاحتفالَ بعيد ميلاده، من دون “كاتو” ولا شمع، ولكن بالصراخ والشعارات التحررية والمسيرات العفوية، إلى أن وُلدنا من جديد في 8 آذار/ مارس؛ فسقط الجلاء القديم وتحوّل إلى ذكرى وتاريخ على ورق، وحلّ مكانه “الانبعاث” الجديد، الذي يبدو أننا سنكرره إلى نهاية “الأبد”.

تم إطلاق سراحي من السجن، في المرتين اللتين اعتُقلت فيهما، في شهر نيسان/ أبريل، ولم أجد تفسيرًا منطقيًا لذلك، إلا رغبة نظام الأسد في تحويل ذكرى الجلاء عن الاستعمار الفرنسي إلى سجن للسوريين، فلا حرية للسوري إلا في خنوعه وخضوعه “للإله العسكري” الجديد، الذي انتصر على “آلهة الظلام” والرجعية، وانطلق في ماراتون “الأبدية” دون منازع. كان الناس ينامون، في ثمانينيات القرن الماضي، أمام أبواب السفارات، وأنا أحدهم، للخروج من سورية، ليس مهمًا الجهة التي سيذهبون إليها، المهم الخروج من السجن الأسدي و”الجلاء” عن سورية. غير أن المناسبة أخذت بعدًا جديدًا، بعد الثورة، من خلال المقارنة بين المستعمر الخارجي والمستعمر الداخلي، ومقارنة درجة توحش الداخلي لصالح الخارجي.

بعد الثورة، تمّ تكسير جدران السجن السوري الكبير. نتيجة عنف سلطة الأسد، وهربًا من الموت؛ اندفع السوريون خارج حدود بلدهم، فيما يشبه حركة جلاء جماعية، المهم أن يجدوا مكانًا يأويهم بعيدًا عن حمولات طائرات الموت، ومذابح النظام الجماعية، وغازاته القاتلة. عبروا الوديان والجبال والصحارى والبحار، فرحوا بالحرية، وأنشدوا لها، ورقصوا، وغنوا، ولكن بعد أن استقر بهم المقام، نسبيًا، بدؤوا يكتشفون من جديد أنهم في سجن من نوع آخر؛ إنه سجن الحنين إلى “الرحم” السوري، وسجن العادات المتوارثة في عقولهم، وسجن “الثقافة” التي تعوقهم عن التأقلم مع وطنهم “السوري” المستحدث في مخيلتهم، وهم خارج سورية؛ فبدأ صراع جديد بينهم وبين أنفسهم من جهة، وبينهم وبين الوطن الجديد من جهة أخرى.

عندما كان المستعمر الفرنسي، الذي يتأسف عليه كثير من السوريين الآن، يحتل بلدهم، كانوا يعرفون أن عليهم واجب الثورة لنيل حريتهم، وإجبار المحتل الأجنبي على الجلاء عن وطنهم، وبعد ثورة استمرت ثلاث سنوات 1925، 26، 27، قدّم فيها السوريون 4213 شهيدًا، موزعين على كافة محافظات سورية؛ اقتنع الفرنسيون أن لا بديل عن الحل السياسي. في الوقت الذي لم يقتنع فيه “حاكمهم السوري”، بعد ثورة استمرت سبع سنوات، واستشهاد مليون سوري، بالحد الأدنى، أن الحل العسكري لن يحقق السلام لنظامه، ولن يقبله السوريون. انتهى الاحتلال الفرنسي بعد ربع قرن، بينما الاحتلال الأسدي ما يزال مستمرًا في قتل الناس، حتى في ذكرى الجلاء عن المحتل الفرنسي.

في ذكرى الجلاء، اليوم، كنت أتمنى أن أستقل الطائرة الذاهبة إلى مطار دمشق، ليس بهدف الجلاء عن مونتريال و”العودة إلى حضن الوطن”، فكندا هي وطني، وإنما بهدف ترميم ذاكرتي السورية، التي انتظرت 29 سنة، لعل آل الأسد يفهمون أن وجودهم لن يكون أبديًا في سورية، ولم يكن يكلفهم الأمر أكثر من عفو عام حقيقي، كي يعود آلاف السوريين المنفيين، كما كان الأمر في بداية الثورة عام 2011، ولكنه العقل المستبد، الذي يسمع فقط صوت التصفيق له والتمجيد باسمه، لا يمكنه سماع صوت الحرية، فأصحاب هذا الصوت خونة وعملاء.

في ذكرى الجلاء، أتمنى أن يفهم السوريون، في ملاجئهم الأوروبية وغيرها، أن ينتزعوا من عقولهم فكرة السجن التي تعوق تأقلمهم، فمهما كان الثمن الذي سيدفعونه؛ فإنه يبقى أقل بكثير من حلم العودة، الذي قد يستغرق عقودًا من الزمن.

طائرتي ليست متجهة إلى دمشق، للأسف، إنها متجهة إلى إسطنبول، المدينة الجميلة، التي يعوضني وجودي فيها عن سورية المحروم منها، ما دامت محكومة من قبل آل الأسد.

أخيرًا، أشعر أنني وصلت إلى كندا البارحة، ولكن هذه البارحة كانت منذ 29 سنة، فلا تضيعوا عمركم في الانتظار، وبالخلاف مع زوجاتكم وأولادكم، اخرجوا من سجونكم الافتراضية، واستمتعوا باكتشاف العالم الجديد، ففيه الجميل وفيه البشع، ولكنه في كلتا الحالتين يستحق الاكتشاف.


ميخائيل سعد


المصدر
جيرون