في إشكالات الأيديولوجيا في سورية



انقسم الرأي العام السوري والعربي، بين مؤيد لأي ضربة ضد قواعد النظام، وبين رافض لها، علمًا أن الأمر في الحالين هو مجرد موقف لا يقدّم ولا يؤخّر، لذا فلعلّ أهم ما ينبغي إدراكه، والتنويه إليه، في هذا الصدد:

أولًا، إن الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، التي ضربت قواتها بعض قواعد أو مواقع للنظام، لم تأخذ إذنًا من أحد، وهي ليست بحاجة إلى ذلك أصلًا، إذ إنها حاضرة عسكريًا من قبل، في مساحة شاسعة من الأرض السورية، مثلها مثل القوات الإيرانية والروسية، ومعلوم أن الشعب، في بلد مثل سورية، آخرُ من يُسأل عن رأيه، وهو في الحقيقة ليس له رأي، في أي شأن يمس مصيره.

ثانيًا، مع الاحترام لادعاءات انتهاك السيادة السورية، إن ما ينبغي لفت الانتباه إليه هنا أن هذه السيادة منتهكة أصلًا، وأن النظام هو أول من فعل ذلك، إن بمصادرته الدولة وحرمانه الشعب حقوق المواطنة، حيث السيادة في الدول الجمهورية يفترض أن تكون للشعب الذي يتألف من مواطنين أفراد أحرار ومتساوين، أو بفتحه باب التدخلات الخارجية في البلد، على مصراعيه، بذهابه إلى أقصى حدود الحل الأمني، وخصوصًا بإدخاله روسيا وإيران وميليشياتها الطائفية المسلحة في حربه ضد شعبه، أو ما يُفترض أنه شعبه.

ثالثًا، إن تلك الدول، بالأصل، لم توجه ضربتها، ولو كانت محدودة، ضد النظام إكرامًا لعيون السوريين، ولا انتصارًا لتوقهم إلى الحرية والكرامة والمواطنة، ولا توخّيًا لحمايتهم من بطش النظام وحلفائه، ناهيك عن محاولة إسقاطه، لأنها لم تفعل ذلك، أصلًا، طوال السنوات الماضية، على الرغم من كل الأهوال التي مرّ بها الشعب السوري: مصرع مئات الألوف منهم، وتشرد الملايين، وتدمير عمران مدنهم؛ إذ إنها فعلت ذلك مؤخرًا، بمجرد ضربة محدودة، وفقًا لرؤيتها لأجندتها ومصالحها وصورتها هي في العالم، وليس من أجل أي أحد أو أي شيء آخر.

رابعًا، إن معظم المواقف التي رفضَت الضربة لقواعد النظام، وهي كانت ساكتة عن ضربه شعبه، صدرت من عقل أيديولوجي، ضيق، وشمولي، ومغلق، أو بمعنى آخر: عقل هوياتي، هو بمنزلة عقل ديني أيضًا، لأن الأيديولوجيات، في هذه الحالة، تتحول إلى أديان أرضية، وتصدر عن “طوائف” هوياتية، وإن كانت تنتمي إلى زمن الحداثة، وإلى الأرض بدلًا من السماء؛ ما يفسر أن هذه المواقف اعتبرت أن النظام هو الشعب، وأن النظام هو الوطن، وأن عدم إسقاطه هو انتصار، أي أنهم لا يتحسسون ما جرى لسورية وشعبها، لا سيّما في السنوات الماضية.

خامسًا، إن الضربة المذكورة، على محدوديتها كما شهدنا، لم تستهدف الشعب، أو المدنيين، وإنما استهدفت مواقع عسكرية، أو مواقع تتبع، أو تخدم قوات عسكرية، في حين أن النظام وحلفاءه يتقصدون قصف المدنيين في مدنهم المكتظة بالسكان، فضلًا عن تعمّد تشريدهم، وهذا التفصيل لم يدر بخلد الموالين أو المريدين، لأن الشعب في آخر حساباتهم، بينما يدخل في أولوياتهم بقاء النظام الممانع.

المعنى من ذلك أن مشكلتنا مع أصحاب الأيديولوجيات عندنا، من كل الأصناف، أنهم لا يتعاملون مع الواقع والحقيقة وقيم الحرية والعدالة والكرامة، إلا من منظارهم الأيديولوجي المغلق والشامل والضيق. وفي هذه الحال، من الطبيعي أن يغدو الدفاع عن النظام، ضد الإمبريالية، أمرًا عاديًا وطبيعيًا، وإنْ كان هذا النظام يقتل ويدمّر ويشرد شعبه، على الرغم من كل ما لدينا ضد هذه الإمبريالية من مآخذ، ولا سيّما في قضية فلسطين، ودعمها “إسرائيل”، وإن كانت لا تفعل ما تفعله إيران وميليشياتها، أو روسيا وطيرانها، مثلًا، ضد السوريين وضمنهم المدنيين! كأن السوري الذي يعيش أهوال القصف بالبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية والارتجاجية، وتحت غائلة الحصار والتجويع والتشريع، يهمه النقاش الأيديولوجي، أو حتى يهمه هوية من يخلصه من تلك الأهوال والتهديدات، التي تطال حياته وحياة أولاده وعائلته وجيرانه.

المشكلة أيضًا أن هذا العقل الأيديولوجي الهوياتي المحابي لنظام الأسد، يحلو له الدفاع عن السيادة، كأنه يتساوق مع النظام، في اعتباره أن سورية مزرعة للأسد إلى الأبد، على ما يقول الشعار الأثير للنظام، والذي يملأ جدران المدن والقرى السورية، سواء في الشوارع الرئيسة أو في الشوارع المهملة، في امتهان فظ لكرامات السوريين، وفي دلالة على سطوة النظام، وتغوله، واحتلاله الفضاء العام، كأن أصحاب هذا العقل نسوا، في غمرة سخطهم على الإمبريالية ومؤامراتها، أن السيادة يفترض أن تكون للشعب، المؤلف من مواطنين.

إضافة إلى ما تقدم، فإن المواقف الصادرة تحاول أن تغطي على الحقيقة والواقع، بل حتى على نبذ العقل الأيديولوجي للقيم الإنسانية، العالمية، أي الحرية والكرامة والحقيقة والعدالة، إذ هي عنده مجرد وهم أو تعبير عن نزعة ليبرالية مرذولة، أو هي جرثومة ينبغي اجتثاثها! وبالنسبة إلى عقل كهذا، فإن مصارعة الإمبريالية، والعدو الخارجي، هي فقط الأمر الذي يستحق، ولو كان النظام المعني يهمش شعبه ويقيده، فهذا كله في سبيل مناهضة الإمبريالية، وتحصين الجبهة الداخلية، وصد المؤامرة الخارجية.

باختصار: إننا هنا إزاء عقل يفكّر بالأيديولوجيا، لا بمعطيات الواقع، أو أنه يظن الأيديولوجيا هي الواقع ذاته، فضلًا عن أنه يتعامل مع النتائج، لا مع الأسباب، مع المظاهر لا مع الجوهر، ومع القضايا كـ “عدة شغل”، لا مع الحقوق، ولا مع قيم الحرية والكرامة والعدالة.

بقي أن يدرك أصحاب هذا العقل الأيديولوجي أن النظام ما كان له أن يستمر، على الرغم من كل ما فعله، لولا لامبالاة الولايات المتحدة لتخريبه بلده وتشريده مجتمعه، والدليل هو الضربة ذاتها، التي تتوخى تأديب النظام لا إسقاطه، ولا حتى هزّ ما تبقى من أساساته.


ماجد كيالي


المصدر
جيرون