وظيفة النقد السينمائي



ما يثير انتباهي، كيف تتم القراءات النقدية للسينما، وكيف يتم تناول الأعمال المرئية الدرامية بشكل عام.

لقد أصبح سرد حكاية الفيلم، من محتوى وموضوع، هو جلّ الاهتمام، وكأن المتفرج لم يكن يسمع أو يرى عندما يشاهد الفيلم السينمائي، فيأتي الناقد ليثير لنا قراءة سينمائية مزعومة، هي في الحقيقة قراءة لنص مكتوب، وكأنه على ورق فقط، وليس مركبًا مشهديًا سينمائيًا على الشاشة. حتى النص السينمائي الأولي “السيناريو الأدبي” من الصعوبة بمكان، أن يقرأه ناقد بهذه الطريقة؛ لأن النص “السيناريو” عمل غير مكتمل، وهو يخضع لمعالجة إبداعية أخرى، بل يتم تحويله إلى نص فني، ليصبح نصًا إخراجيًا تطبيقيًا “ديكوباج”، على يد مبدعين آخرين، على رأسهم المخرج، لأنه يخضع لشروط أخرى غير أدبية، إنها الشروط السينمائية بكل تفاصيلها.

على الشاشة، لم يعد النص حكاية وحسب، ولا سردًا روائيًا كما في الأدب، لذلك لا بد من منهجية وطريقة نقدية مختلفة. بمعنى آخر: لا بدّ من معرفة فنية دقيقة للمركب السينمائي وتحليل لغات إبداعية أخرى غير لغة نقد الأدب المعتادة. أي من خلال مناقشة ونقد طبيعة الفن السينمائي نفسه، ورصد لغة الكاميرا بكامل المركب المشهدي، وما يتبعها من دلالات متداخلة متوارية، من لون وإيقاع وصورة وتكويناتها، ناهيك عن لغة وعلم التمثيل، والتحرر –قليلًا- من حكاية الفيلم الشكلانية.

المشهد السينمائي هو تكوين بحد ذاته، وفي الوقت نفسه، هو جزء من تكوين عام له إيقاعه الخاص، وهو جزء من إيقاع عام، له سيميائية دالة على أشياء فيه، وليست فيه، يقول الشيء ولا يقوله، يظهره ويخفيه معًا.

حركة الكاميرا تحمل مدلولًا، وحركة الممثل، ودرجات اللون وتضادها ووحدتها، انتشار وتوزيع الضوء ووظيفتاه الفنية الدالة واللازمة من جهة، وخالقة الصورة –فيزيائيًا- من جهة أخرى، الحوارات المباشرة والدالة التي تقوم بها الشخصيات، الموسيقى بحضورها وغيابها… كل هذه الوحدات الفنية التي قد تبدو واضحة، كثيرًا ما تكون حسية وغير واضحة، كالسرد الروائي الأدبي المعتاد.

إن اللون الأحمر في هذا المشهد ليس هو اللون الأحمر في مشهد آخر، ونظرات الطفل هنا ليست نظراته هناك، وحجم اللقطة وزاويتها هنا ليست عبثية ولا اختيارًا بلا معنى، وهي تختلف من مشهد إلى آخر. هذه الضرورات الفنية والتقنية هي التي يتم بواسطتها إنجاز الفيلم، لكن الناقد تغيب عنه، فيتركها ولا يرى ضرورة وجودها، وعلائقيتها مع بعضها البعض هي التي تبني الفيلم بأكمله، لا الرواية الأدبية وحدها.

نقد الأفلام لا يتم ببراءة المتفرج، بل بتراكم إبداعي، ينتمي إلى إعادة إنتاج الإبداع لا تلقيه وحسب. إن معرفة وثقافة الناقد تتوظف كي تشكل رؤى فنية كاشفة لرؤى أخرى.

المطلوب ليس إعادة النظر في طريقة النقد وحسب، وإنما ممارسة حرفية، الانتباه إلى الأدوات المؤهل بها الناقد، لقراءة الفيلم السينمائي، وإلى موهبة إبداعية خاصة، وهو يمارس نقده الفني، ويتخلى عن القراءة الصحفية في تحليل الإبداع الفني، بإبداع مواز كاشف وقادر على خلق منهج فني موازٍ وجديد.

العمل السينمائي عمل يخضع لاحتمالات تأويلية متعددة غير متناهية أحيانًا، تُعرض على شاشة لا على ورق، وتُلزم الناقد بالدخول إليها لا الخروج إليه، مشهدية تطلب من الناقد أن يكون فيها لا خارجها، تجعل من المبدع الأول “السينمائي” يلحق في الثاني “الناقد”، وتستمر الحلقة الإبداعية لخلق لغة تنظيرية تنتج سينمائيين جددًا، أو تجعل السينمائي نفسه في حالة تجدد.

المبدع السينمائي فيليني، في فيلمه (بروفة للأوركسترا)، جعل المتلقي هو العازف والآلة الموسيقية في الوقت نفسه، خلق عوالم شيطانية مبهرة، وبيّن لنا أن الحكاية السينمائية لا يمكن أن تكون هي الفيلم.

إن النقد السينمائي العربي، ما هو إلا تقارير صحفية، تسرد لنا حكاية الأفلام بشكل سطحي وأفقي، لا يخدم اللغة السينمائية الإبداعية، ولا يطوّر ذائقة ومعرفة المتلقي، ليصيح جزءًا لا يتجزأ من وظيفة ولعبة الإبداع والجمال الخاصة بالسينما والصورة المرئية الواقعة والمتخيلة.

الناقد الفني يلعب دورًا مهمًا، في ردم الهوة بين المبدع والمتلقي، وينقل تعقيد الفن ويفكك مركباته، ليصبح في متناول المتلقي، بسهولة أكبر وقيمة جمالية أعمق. وهو يحرض العقل على التحليل والتركيب، وينهض بالقيم الجمالية والفلسفية وآليات التلقي، من سذاجتها البسيطة، لخلق جمهور مثقف واعٍ، يمكنه تناول الإبداع بروح إمتاعية وإدهاشية وناقدة أيضًا. وهذا لا ينطبق على الناقد السينمائي وحسب، بل ينطبق على كل صنوف النقد الفني، وعلى كل صنوف الإبداع الأخرى.

لقد قدمت البحوث والدراسات النقدية والتنظيرية في الفن دروسًا قيمة ومبهرة للمبدعين الشباب من جهة، ولجمهرة المتلقين من جهة أخرى، وخلقت ثقافة في تلقي الفنون بخاصة، والجمال بعامة، وساهمت هذه الاتجاهات النقدية والتنظرية في خلق مزاج إنساني، ساعد وظيفة الفن في الوصول إلى مبتغاها الأول: إمتاع الإنسان وتهذيبه.


فيصل الزعبي


المصدر
جيرون