الصحة النفسية للطفل السوري – حالة الطفل اللاجئ



نادرة هي المعلومات التي تُذاع في تقارير وتحقيقات جدية، تتناول الوضع النفسي للأطفال السوريين اللاجئين، ولا نعرف -مع الأسف- حجم /عدد الأطفال الذين يعانون من اضطرابات نفسية ولا نعرف أنواعها أيضًا إلا من خلال بعض الشهادات التي تردنا من هنا وهناك.

زودتنا بعض التقارير المنبثقة عن مسوح ميدانية ومقابلات مع عينات من الأسر السورية في بعض بلدان اللجوء، أصدرتها منظمة حقوق الإنسان (*(HRW ببعض الوقائع عن الحالة النفسية للأطفال السوريين، وجاءت في إطار الحديث عن معوقات التحاق الأطفال في المدرسة.

ورد في التقارير شهادات جاءت على ألسنة الأهل، وأحيانًا على ألسنة أطفالهم، تحدثوا عما شهدوه وعاشوه من أحداث صادمة في سورية، قبل الفرار -اللجوء- أذكر بعضًا منها:

الطفل أحمد الذي اعتقل والده عام 2011 ترك المدرسة وهو في سن الحادية عشرة. تقول والدته: “تغيّرت شخصية ابني على إثر ذلك، كان يساعد في حمل المقاتلين المصابين والجثث، وذات مرة حمل رأس ابن عمه! حاولت تسجيله في المدرسة في الأردن، لكنه لم يرغب في الذهاب، هو لا يريد الخروج من البيت. ومايا ذات الاثني عشر ربيعًا تشعر بضيق بالغ ودائم من ندبة، جراء إصابتها بشظية في معصمها حتى إصبعها، وهي تبلل فراشها ليلًا، ولا تريد ارتياد مدارس”. هكذا قالت أمها.

في حالة أخرى، وصف أبٌ يقيم مع أطفاله، في مسكن قريب من قاعدة جوية عسكرية في الأردن، حالة الرعب التي تصيب أطفاله السبعة، عندما يسمعون أصوات الطائرات، ويرفضون الخروج من البيت إلى المدرسة عدة أيام.

الأم التي قالت إن ابنها محمود، وعمره تسع سنوات، كان طالبًا مجتهدًا في سورية، لكنه الآن لا يقدر على التعلم بعد أن احترق أطفال الجيران أثناء هجومٍ على قريتهم الصغيرة، أضافت: “إذا أخذ واجبًا، ولم يتمكن من عمله، يخشى أن يقع في مشكلة”، محمود هذا قال للباحث: “كنت أحب مدرستي في سورية”.

هناء أمٌّ لثلاثة أطفال، تشكو من عدم توافر دعم نفسي لأطفالها الثلاثة الذين يعانون صعوبات في التعلم، فقد عاشوا خبرة صادمة، عندما رأوا منزل الجيران في سورية ينفجر، وبعد ذلك راحوا يتنقلون من بلدة إلى بلدة”.

تقول أمينة: “سقطت قذيفة على بيتنا، وكان خروجنا من هناك معجزة، فقد الأولاد جميعًا الوعي حينئذ، ولم نتمكن من النوم طوال الليل، ثم أمضينا أيامًا وليالٍ، ونحن نهرب من القصف”.

وقالت رنا: إن بناتها الأربع واجهن صعوبات في المشاركة في الصف؛ لأنهن تعرضن للاحتجاز في نقطة تفتيش، مدة 20 يومًا، وهم في طريقهم للهرب من سورية؛ ما تسبب لهن في الكوابيس والتبول في أثناء النوم.

لم يسلم الأطفال من التعرض لخبرات نفسية سيئة بعد فرارهم من سورية، بل لحقت بهم إلى لبنان، فقد تحدث المقيمون في مخيمات عشوائية/ غير رسمية عن مداهمات تقوم بها القوات المسلحة اللبنانية ليلًا للمخيمات، وتعتقل الأشخاص الذين لا يحملون إقامة، فتقول رامة، وعمرها أربع وثلاثين سنة: إن الجنود “داهموا المخيم الذي تعيش فيه أربع مرات في سنة واحدة. يداهموننا الساعة 4 فجرًا… يحاصرون المخيم، يكون هناك جندي أمام كل خيمة، عندما يطرقون الباب في الليل نشعر بالرعب، لا يستطيع أطفالي النوم مدة يومين بعد ذلك”.

تحدثت مديرة مدرسة في سهل البقاع عن مداهمتين، نفذهما الجيش اللبناني في مطلع 2015، على مدرسة غير رسمية فيها أطفال صغار، قالت: “جاؤوا بأسلحتهم، ولم يسمحوا لي بإخراج الأطفال، فتشوا المدرسة والأطفال في الفصل، وهم يشهرون أسلحتهم”.

هي مواقف تتكرر، ولمّا تنتهي بعد، خبرات صادمة عاشها الأطفال، تصيب بناءهم النفسي-الانفعالي والجسدي، وتعوق نموهم الطبيعي، وتقدمهم التعليمي.

في الأردن ولبنان، قدّمت منظمات إنسانية عديدة مثل “مراكز مكاني” للأطفال المدعومة من (يونيسف)، خدمات الدعم النفسي لعشرات الآلاف من الأطفال، في المناطق المضيفة للاجئين وفي مخيماتهم. ولكن البرامج -كما تقول (يونيسف)- غير كافية، وقد توصلت دراسة قامت بها عام 2015 إلى أن مراكز الدعم النفسي مزدحمة، ويجب أن تفتح أبوابها فترات أطول، فضلًا عن افتقار العاملين فيها إلى التدريب الكافي.

إن عدم كفاية دور المنظمات والجمعيات المتخصصة في تقديم الدعم النفسي للأطفال اللاجئين، يوجه أنظارنا نحو الأسرة وأهمية دورها في توفير الحماية والدعم لأطفالها في أوقات الأزمات. وقد أكدت خبرات شعوب أخرى ابتُليت بحروب أن الأسرة، في حالات كثيرة، يمكنها أن تؤدي دورًا مهمًا في التخفيف من الصعوبات والاضطرابات النفسية والسلوكية التي يعاني منها الأطفال، أو التخفيف من آثارها على الطفل وعلى أسرته، وذلك من خلال تدخل الأسرة كطرف في الدعم والعلاج النفسي، لذلك يمكن التوجه إلى الآباء والأمهات والإخوة الكبار، وتدريبهم على أسس التعامل مع الصعوبات التي يعاني منها الأطفال عادة في ظروف الأزمات وبخاصة الحروب.

هنا تحضرني حالة مر بها أطفال سورية، عندما حدثت انتفاضة الأقصى بين 2000-2005، واجتاح الجيش الإسرائيلي الضفة والقطاع، وسقط عدد كبير من الشهداء، نقلت أحداثها شاشات التلفاز حينذاك، فأخذت تبدو على أطفالنا مظاهر بعض الاضطرابات السلوكية، في البيت والروضة والمدرسة، وتحدثت الأمهات والمربيات عن حالات من الذعر في أثناء النوم، والتبول اللاإرادي، وفرط النشاط وقلة التركيز، والميل للعنف مع فقدان شهية تناول الطعام، والشعور بعدم الاستقرار، وعدم المبادرة والتردد وغيرها من حالات الاضطراب… يومئذ تداعينا في الجمعية السورية للعلوم النفسية والتربوية بدمشق، من أجل عمل ما هو ضروري، وكان توجهنا أساسًا نحو الأسر والمربيات، بقصد نشر التوعية النفسية الإسعافية. لقد كان ذلك عملًا مثمرًا.

ها هم أطفالنا، منذ عام 2011 حتى اليوم، يعيشون الخبرات الصادمة الحية والمباشرة، في حرب لم يشنها العدو الصهيوني على بلداتهم وأحيائهم، بل شنها هذه المرة “سوريون”! يوقعون القتلى والجرحى، من دون تمييز، بين العُزل من السوريين، بأسلحة الجيش الذي تعلموا أن ينشدوا له في مدارسهم!

ماذا نقول لأطفالنا عن هذه الحرب؟ ما الصورة التي تكونت في أذهانهم عنها؟ كيف يفهمون أن قتل آبائهم أو إخوتهم، أو تدمير مخبز حيهم أو مدرستهم يحصل على يد “سوريين” يساعدهم غير سوريين؟ بماذا نخبر الأطفال عما يرونه ويعيشونه؟ هل كان متاحًا لنا أن نلتقي الأطفال وأهلهم ونقدّم لهم بعض الدعم؟ نعم كان ذلك متاحًا في بعض المناطق، وقد قام القادرون والعارفون بعمل جيد، وما زالوا، لكنه ليس متاحًا في مناطق أخرى؛ لأن دعم الأطفال وأسرهم يعادل دعم حواضن الإرهاب.

ما يهم اليوم أن نتوجه إلى الأهل ونقول لهم ما يمكنهم عمله لأطفالهم

يمكن للأسرة، بغض النظر عن مستواها المالي والثقافي، أن تقوم بدور مهم للغاية لحماية أطفالها ودعمهم وتحريرهم من مشكلات سلوكية- نفسية، سواء توافرت خدمات الدعم والعلاج النفسي المتخصصة أم لم تتوافر. وأول ما يجب عمله هو ملاحظة السلوك الطارئ للطفل، من خلال متابعته والانتباه إلى أي تغيرات في سلوكه المعتاد، ثم الحوار معه، من خلال إتاحة الفرص له كي يتحدث عن مشكلاته واحتياجاته، وبخاصة عن تجاربه فور حدوثها؛ الأمر الذي يخفف مما يعاني، طبعًا من دون الضغط عليه كي يتحدث، ولو ثبت أنه لا يريد التحدث، فمن الممكن تشجيعه على التعبير من خلال الرسم واللعب، ففي كثير من الحالات يعبّر الطفل عمّا في داخله، من خلال الأنشطة التي يمارسها، ولا بد من المرونة والصبر في التعامل مع الطفل، ففي حالات كثيرة يكفي الطفل أن يشعر أن أهله موجودون لأجله، ومستعدون للاستماع له ودعمه.

لا شك في أن تفهّم الأهل وتعاطفهم مع أطفالهم، من خلال منحهم الفرص للإفصاح عن مشاعرهم بالحزن والغضب، وعدم تركهم يحسون بالخجل، إذا أظهروا حزنهم أو أصابتهم نوبات من البكاء، لأن الحزن والبكاء حالات إنسانية طبيعية ومحترمة، وهنا ننوه إلى ضرورة التعامل مع نوبات الغضب بحكمة، لأن غضب الطفل وأحيانًا عدوانيته ما هي إلا تعبير عن احتجاجه على سلوك الراشدين، عندما لا يفهمونه، وانعدام قدرته على التعبير عما يواجه بطرق أفضل. فالأطفال في أمس الحاجة إلى الفعاليات والأنشطة التي تشكل متنفسًا لطاقاتهم، وتشعرهم بأنهم قادرون على الحكم وقيادة أنفسهم والسيطرة على محيطهم.

هنا نشير إلى ضرورة إيلاء العناية الكافية مع حالات انزواء الطفل، من خلال تشجيعه على الانخراط في أنشطة مختلفة، وتدريبه على أداء تلك الأنشطة وتوفير فرص نجاحه في أدائها، مع تعزيز نجاحه من خلال عبارات تمدح سلوكه، وبالطبع الابتعاد عن استخدام أي عبارات ناقدة وجارحة له، عندما لا يتمكن من الأداء بالصورة التي نرغب فيها.

من الضروري التعامل مع الأطفال الأكبر سنًا، من خلال مناقشتهم في ما يجري، وإقناعهم بأنهم يعملون كل ما باستطاعتهم لتأمين حمايتهم، مع ضرورة تشجيعهم للتعبير عمّا يشعرون به، وعدم حرمانهم من البكاء أو السؤال عمّ يجري والحديث عنه، فمن الضروري معرفة ما يدور في تفكير الطفل، وأن نترك لمشاعره العنان في هذه الأوقات.

وأخيرًا وليس آخرًا ننبه إلى ضرورة أن يراقب الأب والأم تصرفاتهما، ويحاولا المحافظة على تماسكهما وقوة تحملهما بحضور الأطفال خاصة، فالراشدون في الأسرة، وبخاصة الأب والأم، هم القدوة لأطفالهم، ومنهم يستمدون الطمأنينة والثقة.

* HRW, We’re Afraid for Their Future, Barriers to Education for Syrian Refugee Children In Jordan. August 16, 2016

وأيضاً HRW, Growing Up Without an Education” Barriers to Education for Syrian Refugee Children in Lebanon / JULY 2016

وأيضاً When I Picture My Future, I See Nothing, Barriers to Education for Syria Refugee Children in Turkey. November 8,2015.


ريمون المعلولي


المصدر
جيرون