دون كيشوت في عباءة الوردة



(هنا الوردة فلنرقص هنا) العبارة التي قالها كارل ماركس في كتابه (الثامن عشر من برومير)، بما فحواه “هنا الأمر الرئيس.. هنا قدم البرهان”، يستعيرها بتصرف أمجد ناصر، كعنوان لروايته (هنا الوردة) الصادرة عن دار الآداب- بيروت لعام 2017، كجملة استهلالية، مفتتحًا بها العتبة النصية، ليدخل بها إلى عوالمه السردية ويزج بأبطاله في لجج أمواجها المتخيلة، في المعنى المجازي للوردة، المغاير للمفهوم الطبيعي المتعارف عليه، بترميز يقود إلى الأبعاد الجمالية للحلم البعيد، مستبعدًا أن يكون ثمة تشابه بين ما يرويه وبين الواقع، ولكنها الحياة هي التي تتسع، لتتجمع في جنباتها ما قيل وما سيقال وما لم يقال بعد، على امتداد هذا الشرق.

على طريقة الخطف خلفًا، يبدأ نسج حكايته من نهاية الحدث، بوقفة البطل يونس الخطاط على تخوم المكان، مستشعرًا هول فقدانه لحياته العادية، إبان اقتراب النهاية  أو الموت المجازي، لكأنه ببعده عن أماكن ألفته ووجوه أحبها وأحبته، بمثابة تعطل عن الوجود، وشلل بالحياة، وهو الذي لطالما سحرته الاندفاعات الثورية، وإيقاع المواجهات المحملة بقضايا تخص الوطن والإنسان، وهو يعارك في خضم التيار الذي يسحبه، وهو يظن نفسه أنه يسبح، وفق تعبير صاحب (حيث لا تسقط الأمطار) وهو الراوي العليم الذي يقص الحكاية، ويسمح لنفسه بالإيضاح والتعليق على مسارات القص، ما إن يستثير ردّات أفعال القارئ وترقبه لمعرفة المزيد من المقاصد، حتى يتدخل لكسر الإيهام لديه وإرجاعه إلى الواقع، الواقع الذي بنى عليه حكايته. فالحامية التي وصلت إلى المكان واستوطنت، تحاكي الهجرات السكانية للبشر من قديم الأزل، إلى حين توطنهم في مكان ما، لجهة تفكيك بنية الانتماء، إلى فسحة إنسانية أكثر اتساعًا تحاكي وجود الإنسان الأول على سطح البسيطة، وتناسله المتواتر، إلى حين إعمارها؛ ما يستوجب القرابة البشرية الكبرى لساكنيها، ولتقويض أسس الاختلاف في إضاءة لظروف تشكل التجمعات البشرية، وتورية لضبابية المكان، ونشوء الاستبداد بعدها، وسيطرته على المال والعباد، تحت مسميات شتى، تلك التركيبات المهيمنة التي اختزلت اللغة والتاريخ، وطمست المعالم الحضارية لسابقيها، كما عمدت الجهات المسيطرة على تقريب سَدنة المعابد إليها، بما فيها من ممالأة ممثليها بإفساح المجال لأفكارهم وفتاواهم –كمنع الاختلاط في الأماكن العامة- والتهكم الساخر من المسافة المسموح بها الاقتراب بين رجل وامرأة من دون المحارم، كصورة للمجتمع الذي يتناسى كل المظالم والظروف القاهرة التي تحيق بالإنسان، ويتذكر فقط عفة المرأة وشرفها، ذريعة لتكبيلها بالأعراف والقوانين الجائرة.

قد يكون تصوير توجه والد البطل القريب من الجهات الوصائية المتنطحة لمقاليد الأمور والحكم، ممثلة بالحفيد، إلى التيارات الصوفية، كنموذج تجريدي للبعد عن الشأن العام، وردة فعل على واقع لا يرغب في مواجهته والصدام معه، إشارة إلى المعنى المزدوج والخفي للمعتقدات الفقهية وأبعادها الكامنة.

يحضر في العمل نمط الثوري الكلاسيكي، ابن المقاهي والحوارات التي لا تنتهي، حيث البطل الإيجابي، بأحلامه وأوهامه وحماسته الكلاسيكية، في فهمه للعشق والكفاح والتضحية، لتحضر شخصية “دون كيشوت” بلقبه: الفارس حزين الطلعة، على التوازي مع فارس الرواية، في تشبيه ضمني متوار خلف مرافقة كتاب سرفانتس للبطل في وجدانه وتجواله، وكأنه يوحي بأن العمل السياسي السري في عالم اليوم، على الرغم من الشحنة الرومانسية، هو بالنهاية يشبه مقارعة طواحين الهواء، بتورية مضمرة، وترك الشخصية تتكلم بوعيها وعمرها وحماسها، لتبقى شخصية دون كيشوت تركيبة ظلية منعكسة، للحقيقة التي يقصدها، فـ يونس رغم إعجابه بكتاب سرفانتس وبحثه عن العدل والعدالة، لا يحمله إسقاطًا على ذاته وحياته.

طفت اللغة الشعرية المتأثرة، بأجواء نشيد الإنشاد، على جو العمل، سواء أكان بالمعنى أم بالإنشاء اللفظي، ولا غرابة فالكاتب شاعر بالدرجة الأولى في جعبته العديد من النتاجات الشعرية، كما استفاد من العبارات المسكوكة، التي تختزل تجربة وحكمة ما، ليستعيرها مختصرًا بها ما يُعبر عنه بجمل طويلة، على غرار: “العرق دساس”… “تكاد المرأة أن تلد أخاها”… “الحية لا تقتل من ذيلها أو وسطها بل من رأسها”… “الذي لا يخاف لا يخوف”. كما كان للأساطير وحكايات (ألف ليلة وليلة) نصيب في إثراء النص، وتحليق المعاني في المكان المغيب والزمان الممتد. حضرت الأسطورة صريحة في ثنايا الأحداث، فالرسالة التي يحملها في كعب حذائه، هي نقطة ضعفه، فيها يكمن مقتله، لو كشف الستار عنها، تيمنًا بكعب آخيل الذي كان محصنًا من الموت باستثناء كعبه الذي كانت نهايته من خلاله، والإشارة إلى حكاية التفاحات الثلاث والحكايات التي تنمو في رحمها قصص أخرى، يشابهه ذاك التفرع في القص والتشعب بسرد حيوات الآخرين من أصدقاء الطفولة ومن أبيه وجده وإخوته.

الحوار الداخلي المبطن للبطل يونس: “هل أنا مغرر به، هل أنا لا أعرف فنون اللعبة”. هذا الخوف من أن يكون ما جبل عليه أفكاره وقناعاته، طوال عمره، محض خيال، لذلك، يستمر بقفزة إلى الأمام، لكيلا يلقى في الفراغ المهول، لوعي أشعره بعظمة مقارعة طواحين الهواء، وذاك التوجس الخفي الذي خالجه عند المشاركة في عملية الاغتيال، لتبرز إلى السطح تلك المساءلة لمدى فاعلية هذا النوع من الممارسات على القضية المحورية، تلك التي برزت في عقد الستينيات والسبعينيات، وهل هي أفعال دون كيشوتية أم لا، معيدًا زمنًا نشطت فيه تلك الأشكال العنفية، على الرغم من انعكاساتها غير المرضية على مجمل الحركة.

الفصام الذي يعيشه بخروج شخصية منه إلى المنفى المجاور، وبقاء شخصية أخرى روحانية التمظهر، لتعود إلى الحامية! هل في عمله اقتراب من الحلم، انصهاره بالفكر الذي سيغير العالم، هل امتلأ داخله بنشوة من يفعل عملًا عظيمًا، وماذا عن قمع هواجسه التي نبتت في قاع ذهنه، ولم يترك لها العنان، لأن مقابلها زعزعة أوليات وجوده وقناعاته.

“هنا الوردة فلنرقص هنا“. أهي دعوة للتمترس بالمكان والتحدي، أم أنها دعوة للتعامل مع الممكن؟ فالسياسة -كما يقال- هي فن الممكن؛ أم أنها دعوة لنفض الأحلام ورؤية الواقع دون رتوش؟ السؤال الجرح المفتوح أبدًا.


دعد ديب


المصدر
جيرون