غنيّ بالملل- للل



وأنت ترسم أحلامك بالفوتوشوب، اترك فراغًا أسود في الوسط، واكتب بالفِضّة الليّنة وصيّة للباحثين القادمين المغرمين بالأحافير والمستحاثات والحقائق.

غني هذا الطريق الطويل بالملل…

على شفتيه اليابستين، مثخنة بالدهشة تقوّست آمالنا، عُجِّزت، شجيرات سرو قزّمها المحلُ، واجتاحتها عواصف الحطابين.

مكسورة، كالحرس المخذول على باب قلعته المُباعة، هوت رؤانا، تحطم دِرعها، ثم تشظّت مِزق أحلام، وضاعت بين أصابع الرصيف الحجري الخشن المتشبث عميقًا في يباب قاحل من جهة، وفي فراغ أصمّ من ثلاث جهات.

ابدأ وصيتك “باسمك اللهم”، كي تحافظ على وسطية الخديعة، أشر إلى ذلك، فهذه أمانة، وخصّص الإهداء لسفهاء السياسيين منّا، وحدّد بابًا عريضًا لحمقى المثقفين منّا، ولا تنس الرعاع، لا تخف، ولا تخجل، نعم، ألحق فصلًا مستفيضًا للرعاع الكثر منّا، فهْرسْه بأحرف الجاهلية غير المنقوطة.

تابعْ سرد حكايتنا لهم ببطء ووضوح، أكّد على الحقيقي الوحيد فيها: على المنتصر الوحيد، على الثائر الوحيد الذي أسقط العالم كله، قبل أن يموت وحيدًا. ما عدا ذلك، كل التفاصيل نفاق وهُراء ورياء ووقاحة. أشر إلى هذا بدقّة، ثم وقّعها بأسمائنا كلنا، نحن الشهود الشهداء الأحياء الناجون من المجزرة، نحن “أئمّة الهزيمة”.

غني هذا النضال الغبيّ بالملل…

وأنت ترسم أحلامك بالفوتوشوب، لمّع مرايانا المخاتلة، واحفر على بريقها أصواتنا وبصمات أصابعنا الوسطى، لوّن إطارها الذهبي بالأسود، واطبع عليه، قبيل أن يجف طلاؤها، أختام أنانا المريض، وعُصابنا، جهالتنا، تطرّفنا، تخلّفنا، ضحالتنا، وضيق قلوبنا وهشاشة ضمائرنا، سرقاتنا، وأمراضنا، وموتنا، ثم افتح قوسًا في زاويتها السفلية جهة اليمين، وأكتب بالصدأ ملاحظة ضرورية سمّها: (ملاحظة، شيزوفرينيا الدهشة). وضّح لهم في مقدمتها، كيف أنّ نصيرَ حريتنا وتطوّرنا ورُقيّنا، كان النظام السعودي الذي يعتبر صوت المرأة عورة -مدهش- وشريك تحريرنا واستقلالنا كان النظام الإيراني الذي احتل دمشق وضواحيها -مدهش- وظهير تقدّميتنا ويسارنا وعلمانيتنا كانوا جماعة الإخوان المسلمين -مدهش- وشركاء حضارتنا وعروبتنا وسوريتنا، كانوا “فيلق القدس” الفارسي، ولواء أبي الفضل العباس العراقي، والمرتزقة الأفغان، و”حزب الله” اللبناني، ولبوات الأسد -مدهش- وأن عقيد جيشنا العربي السوري كان اسمه فلاديمير، وراعي سيادتنا الوطنية كان الاحتلال الروسي -مدهش- وحامي كرامتنا كان النظام القَطَري، وحامل رايتنا كان أردوغان العصملّي -مدهش- وأن قاتل أطفالنا كان طبيبا بشوشًا أعمى، لكنه يُتقن برامج الأوفس بدرجة جيد -مدهش- وأن سارقي قوتنا وحقوقنا كانوا منظمات الأمم المتحدة ومجالس حقوق الإنسان -مدهش فعلًا- بعد هذا فاجئهم، بالأحرى اصعقهم بأن دهشتنا الأهم ليست في كل ما ورد، لاااا ثمة ما هو أدهى وأدهش.

فالدكتورة “السعداوي” لا تدري كنه قضيتنا العادلة! يا بئس دهشتنا، والثائرة الجميلة “بوحيرد” صافحت الطاغية الرخيص؟! يا سخف دهشتنا. هنا ثبّت على الهامش معنى المصطلح، وبيّن باختصار الفوارق بين الطغاة -هذا ضروري للباحثين- وعُدْ سريعًا إلى صُلب المهزلة.

غني هذا المسلسل الطويل بالملل…

وأنت ترسم أحلامك بالفوتوشوب، انصب الميزان كما ينبغي، واضبط أعصابك والوقت.

على جلد طبل فرقة المراسم الموسيقية لاتحاد شبيبة الثورة، بعد أن تسرقه من المتحف الوطني، وعلى ضوء القمر الصناعي “هوت بيرد” أنقش بإبرة “السَّتالايت والريموت” ذكريات الماضي، مسيراته واحتفالاته وشعاراته وصيحاته، نظامه المنضم، أمناء الفروع، أمناء الفرق الحزبية، مدربي التربية العسكرية، خطابات أساتذة التربية القومية، مشاعل روث المواشي المشبع بزيت الكاز، ثم عتّق تلك النقوش بالنبيذ، كي يظهر للباحثين الحاضرُ صدًى للتاريخ، واضحًا مرتبًا، كمسلسل طويل غني بالملل، لكنه عميق أيضًا، دم م م م، طق، دم م م، طق.

وقبل أن تمُت من جديد، اترك لهم على مقرعة الطبل ملاحظة أخيرة، ضع نقطة وابدأ من أول السطر:

ملاحظة: فصل الزمن المقارن وظيفة، يا…، فلا أقل من اغتيالكم بالملل.


جهاد عبيد


المصدر
جيرون