حول الشبيح مرة أخرى



هل يمكن نقل كلمةٍ، قدها الوعي الشعبي للدلالة على واقعةٍ جزئيةٍ خاصةٍ، إلى درجة المفهوم النظري الدال على الصور المتعددة لهذه الواقعة؟

من هو الشبّيح بالأصل؟ يعود أصل الكلمة إلى صفةٍ أطلقها أهل اللاذقية على رعاع النظام، من أقرباء السلطة الحاكمة من آل الأسد وما شابههم، الذين كانوا يركبون سيارات من نوع مرسيدس (في وقتٍ أغلق فيه باب استيراد السيارات للمواطنين)، يصفها العامّة بالشبح، وكانوا يقودونها بطريقة سوقية، أي يشبّحون بها. فهي في الجذر تعود إلى كلمة الشبح، والشبح في العربية ما يبدو للمرء من صور أشخاص أو أشياء تمرّ سريعًا وتختفي، ولها معان أخرى. وقد وصف العامّة سيارة المرسيدس التي جلبها النظام الحاكم في دمشق، للمسؤولين من الدرجة الأولى في المخابرات والجيش ولبعض أفراد العائلة الحاكمة، بسبب سرعتها، بالشبح، كما قلنا.

فالشبيح هو راكب سيارة “الشبح” الذي يشبّح بها سرعةً وإيقافًا. ولكن الناس، لشدة احتقار هؤلاء، راحوا يصفون كل شخص فاسد وعنيف من الناس بأنه “شبيح”.

مع اندلاع ثورة الشعب السوري، وُصف الشخص المقابل للثائر المتظاهر، والذي يستخدم العنف اللغوي أو المادي ويدعم الجماعة الحاكمة، بالشبيح.

وهكذا؛ صارت تدل كلمة “الشبيح” على نوع من الأفراد الرعاع الخالين من القيم الأخلاقية المنتمين، في سلوكهم ووعيهم، إلى الجماعة الحاكمة في دمشق، وشيئًا فشيئًا؛ أخذت كلمة الشبيح دلالتها الكلية، لوصف شخص السلوك السابق، في أي مكان في العالم. وهكذا انتقلت كلمة شبيح، من حقلها الدلالي الضيق إلى حقلها الدلالي الأوسع، وصارت مفهومًا. فالشبيح كل من يؤيد جرائم نظام سياسي، من مختلف الفئات والطوائف والفئات المتعددة من حيث الانتماء الطبقي أو التعليمي أو الوظيفي. ولم يعد لباحث أن يحلل حالة جمهور النظام من دون استخدام مفهوم الشبيح.

ولأن الكلمة/ المفهوم ذات جذر عربي؛ صارت قابلة للتصريف: شبّح يشبّح تشبيحًا، وهو شبيح، والجمع شبيحة وشبابيح.

والشبيح -من حيث هو حالة فردية أو منتم إلى جماعة تشبيحية- ظاهرة سيكولوجية – سوسيولوجية، ولهذا فمن المفيد تحليل ظاهرة الشبيح سيكولوجيا، من حيث أنواعه المجتمعية. فالشبيح على أنواع:

الشبيح الرث: ينتمي هذا الشبيح إلا ما يسمى بعلم الاجتماع “البروليتاريا الرثة”، فالمنبت الطبقي لهذا النوع يعود إلى ما تسميه العرب بالتحوّت. وهؤلاء الشبابيح بدورهم ينقسمون إلى قسمين: شبابيح مخلصين صادقين في ولائهم، وهم الذين ينتمون إلى العصبية الطائفية لبنية السلطة. تتكون نفسية هذا الشبيح من خليط متعدد من الصفات؛ فهو ينتمي -نفسيًا- إلى الحاكم، بوصفه عبدًا دون شعور بالعبودية، بل إنه يشعر بالتفوق عبر عبوديته؛ فعبوديته تمنحه شعور السيد على المختلف معه. هذا الشعور المتناقض القار في نفسه -أقصد السيادة- وبالعبودية؛ يخلق لديه الخوف على فقدان العبودية غير الموعى بها والسيادة؛ فيجعله هذا الخوف في أعلى درجات العنف اللامعقول تجاه الخصم الثائر، لأنه يعتقد أن الثورة ثورة ضده، ولهذا فهو في حالة من انفجار العنف غير واعية. إن شئت قل: غريزة تدمير معلنة، وحاقدة، وهنا تكمن الخطورة. إنه أسير انتمائه إلى السلطة والطائفة فقط، لا إلى المجتمع. فيظهر عدوانيته في أي ظرف، وتصل نزعته التدميرية إلى تدمير نفسه، أي التضحية بذاته، لأنه مؤمن إيمانًا مطلقًا بما هو مقدم عليه.

هناك الشبيح الرث – السلعة، المنتمي إلى كل الطوائف الأخرى، وهو شخص يرى في التشبيح عملية ارتزاق، وينطوي على نفسية الخادم الذي يعي أنه خادم وذو شعور بالدونية، ويؤدي وظيفة مأجورة، ولهذا يمكن أن يتخلى عن التشبيح بدواعي الخوف، أو بدافع الأجر الأكبر من جهة أصولية، أو بدوافع أخرى مجتمعية. هذا الشبيح المنتمي إلى الفئات الرثة لا ينطوي على حقد تجاه الخصم، بل على مهمة يقوم بها، ويشعر بالدونية تجاه الشبيح من النوع الأول، ولهذا فهو أقل خطورة، لأنه شخص لا ينطوي على نفسية تعصبية، وهو قادر على الهروب من وضعه، حين يشاء.

الشبيح المصلحي – الانتهازي: وهذا الشبيح ينتمي إلى الرأسمالية الطفيلية. الرأسمالية الطفيلية هذه هي التي كونت ثروة طائلة، عبر العلاقة المدنسة بينها وبين مسؤولين في النظام، يتحكمون في التوقيع على قرارات الاستيراد والتصدير والبيع والشراء، وأسوأ أنواع هذا النمط من الشبيحة ما راكم ثروته عن طريق المؤسسة العسكرية. هذه الفئات هي غالبًا لا تمارس العنف المادي، بل العنف المعنوي الناتج عن التأييد المطلق للنظام. وسبب انتمائها إلى التشبيح تلك المصالح التي حصلت عليها من النظام والتي تخاف عليها بزوال النظام. وقد دعمت هذه الرأسمالية الطفيلية النظامَ بالمال، في حدود يبقيها في ثراء. تنطوي هذه الفئات على نفسية الأناني الخائف على ملكيته، مع نفسية الأنا الوضيع والغباء العاطفي. تتميز نفسية الأنا الوضيع بقدرتها على تحطيم القيم الأخلاقية، إذا كان ثمن ذلك الحفاظ على وضع ما مرتاح له، فتطيح كلَّ القيم الإنسانية، لأنها بالأصل مشدودة إلى مصالحها الضيقة فقط، ومن أجل مصالحها الصغيرة تفقد إحساسها بالكرامة الفردية، وهي إذ تشبح للنظام، إنما تشبح لذاتها.

أما غباؤها العاطفي، فيتجلى في نفسية كائن بلا قلب، خال من العاطف والشعور بالألم تجاه آخر يتألم، فتفقد مشاركتها آلام الناس، بل يصل بها الأمر إلى الشعور بالمتعة بآلامهم. فضلًا عن أن الفرد منها ليس سادي الشعور تجاه خصوم النظام، وإنما هو أيضًا سادي الشعور تجاه ضحايا النظام. فغباء الشبيح الذي راكم الثروة عبر قناة الفساد بخاصة -أقصد غباءه العاطفي- لا حدود له أبدًا.

الشبيح المثقف: وهو أخطر أنواع الشبابيح وأدناهم منزلة، وهذا الشبيح يعود إلى كل الطوائف، وليس إلى طائفة بعينها. وقد وصفتُه مرة بأنه “برميل” وانعكاس للبرميل المتفجر. ومعنى الشبيح المثقف هو الشبيح الذي يوظف ثقافته دفاعًا عن النظام الدكتاتوري، ويجرد لغته السوقية الشتّامة، ضد المثقف النبيل المنتمي إلى ثورة الحرية. يعيش هذا الشبيح حالة نفسية معقدة؛ فهو عبدٌ، ويعلم أنه عبد، ولأنه يتوافر على نفسية العبد، ويدرك وضاعته، ويدرك شعور الآخر بوضاعته؛ فإنه يبالغ بولائه خطابًا وممارسة، كي يبدو سيدًا.

يُحاول الشبيح المثقف أن يُعبّر عن ذاتٍ قلقة، فيكذب ويختفي خلف المفاهيم المجردة بنفسية اللص، صحيح أن الشبيح المثقف الطائفي المدافع عن النظام والمتنكر لصورته التي راح يرسمها بقلم الحداثة هو الأكثر صدقًا في تشبيحه، غير أن المثقف الآخر يتحايل بنفسية المخاتل أيديولوجيًا، ليبدو صادقًا أمام ذاته وأمام الآخرين.

يخرج المثقف الشبيح من ذاته النفسية الرعاعية النائمة، والمسؤولة في الأساس عن انتمائه إلى التشبيح. ولأنه لا يملك من أدوات النقد الأخلاقي والمعرفي قطيمة، فإنه يخرج المكبوت النفسي ضد المثقف النبيل. فوعيه الدنيء بالعالم يحطم لديه نفسية المثقف المنتمي إلى الهمّ الكلي، فتبرز في ثنايا خطابه نفسية الحسد والغيرة التي يعبر عنها بالشتيمة.

ينتصب المثقف النبيل، أمام المثقف الشبيح، قوة أخلاقية معلنة الانتماء وفخورة بانتمائها؛ فيشعر المثقف الشبيح بصغاره، فيخرج هذا الصغار بنفسية القاتل الممتلئة حقدًا وضغينة. يتوفر لدى الشبيح المثقف، في الحالة السورية، عدة أيديولوجية جاهزة، يتكئ عليها مبررًا تشبيحه؛ فهو شاعر، كاتب قصة، كاتب مقال، صحافي.. وهذا يعني أنه قد كوّن حضوره عبر قلمه، وهو يعلم أن أفكار الحرية والديمقراطية ورفض الدكتاتورية التي قامت عليها الثورة السورية، أفكارٌ أثيرةٌ لدى الناس، ولا يمكن لمثقف أوتي حظًا من العقل والكرامة أن يقف ضد هذه المفاهيم، فوجد نفسه في إحراج شديد. فكيف له أن يكون مثقفًا، ولسان حال سلطة دكتاتورية فاسدة قاتلة، في آن واحد؟ فما عليه -والحال هذه- إلا أن يتوسل خلاصه من هذا المأزق بمفاهيم: الوطن، الوطنية، الممانعة، المقاومة، مواجهة الإمبريالية، السيادة.. إلخ. ولأن هؤلاء الشبيحة هم بقية من بقايا أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وبعضهم لم يستطع أن يتخلى عن هويته الطائفية، وآخرون لا وجود لهم أصلًا إلا عبر فضلات السلطة؛ فهم يستظهرون كل الكلمات التي ينطوي عليها قاموس الإعلام الرسمي؛ فيصبح الاحتلال الروسي دفاعًا عن السيادة الوطنية، والاحتلال الإيراني حفاظًا على الموقف الممانع، وقدوم ميليشيات الوسخ التاريخي الطائفي من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان ردفًا للجيش العقائدي، وتصبح الثورة السورية مجموعة من الحركات الأصولية، ويغدو تدمير المدن والقرى دفاعًا عن الحداثة، وزج الآلاف بالسجون وتصفيتهم تخلصًا من أعداء الوطن. وهم يفعلون ذلك ظنًا منهم أنهم، عبر هذا الإهاب الأيديولوجي، يتخلصون من العار الذي لحق بهم وسقوطهم من أعين الأكثرية. وبعد تيقنهم باستحالة مرور هذا التزييف على الناس، يبالغون في فجورهم، ويموت الآخر في وعيهم، وهم بذلك يعلنون موتهم.

ومن الملفت للنظر أيضًا، أن ظاهرة التشبيح هذه قد انتقلت إلى نمطٍ من مثقفين يعلنون عداءهم للنظام، وهؤلاء يحتاجون إلى قول آخر.


أحمد برقاوي


المصدر
جيرون