عـناكبُ ديـونيسيوس



لم يعد ثمة تنشيط للأقنعة في المسارح والأركاح، بقدر ما نصطدم بها على وجوه المسرحيين أنفسهم، في شتى ضروب أنشطتهم الاجتماعية، حتى إنهم تحولوا إلى مجال للفرجة عينها. لقد ابتلي هؤلاء بمصيبة العجز، فصاروا أشبه بالكهنة والمخبرين والدجالين والمهدويين من كل صنف، أما طباعهم فقد تحولت بدورها إلى ضرب من تخصيب القتل وتسطير موت بعضهم البعض، فلم تعد ثمة غير الضغينة والكره والتشفي والحقد، كما أنه ليس ثمة وقاحة، الآن، أكثر من تلك التي تقتطع أرطالًا من لحم الحقيقة الحي، وتلصق بدلًا منه صديد الزيف والافتراء، وإن لمن الصفاقة -أيضًا- أن نروم البحث في الشأن الثقافي، فإذا بسواطير القصابين الحادة كأنصال الصخور، تجبرنا على الإقامة ضمن حدود معادلتها القميئة والمبتذلة، تلك التي تشغل معاركها من باب الكراهية وتدعي براءتها، من كل حدث مسرحي طالته يد الاتهام والفضيحة: لقد صار أغلبهم مثل الشيطان، لا يقدر على الظهور إلا بوصفه وجهًا مقنعًا وشاحبًا من وجوه الجحيم، يخفي حقيقته ويمارس عهره الاجتماعي، بينما يحاول جاهدًا -في ذلك كله- أن يصطنع صدقية النبوة على ملامحه، أو هو يصبغ وجهه بأكثر من قناع.

صرح بيتر بروك قائلًا: “إن التعبير اليومي قناع، من حيث كونه إخفاء أو كذبًا، في تناقض مع الحركة الداخلية. وعلى ذلك؛ إذا كان الوجه يشتغل كقناع، فما الجدوى من وضع وجه كاذب؟” ربما يمكن البحث عن إجابة لسؤال كهذا في ما قاله حسن اليوسفي، وهو يقدم لنا كتابه (المسرح والأنثروبولوجيا): “إن القناع يزيل القناع le masque démasque”، ولكن ذلك سيحرك فينا أكثر من سؤال إضافي؛ إذ لماذا نلتجئ إلى شطب قناع ما، وتعويضه بآخر؟ أي حقيقة نريد إخفاءها حين نفعل ذلك؟ وإذا كان الوجه يمثل قناعًا في حد ذاته؛ فهل صار لزامًا علينا الاعتراف مع نيتشه بأن تلك الحقيقة باتت تسكن “قصرًا من نسيج العنكبوت، بصحبة فيلسوف أصفر اللون، شاحب الدم كالفكر المجرد”؟

أن نبحث عن الحقيقة، معناه تورطنا في سياسات القتل، أو وقوعنا في شراك تلك الحشرة السامة فنضطر إلى صبغ وجوهنا، مثل ذلك الفيلسوف! وعلى ذلك؛ سيكون القناع ضروريًا على ما يبدو، ولكنه معدٌّ سلفًا بغاية التمويه والإخفاء، وهذا ما سيدعونا مجددًا إلى معالجة سؤالنا التالي: ما ماهية هذه الحقيقة التي نبحث عنها؟

لقد خان المسرحي المسرح، منذ أن صار على وعي تام بأن هذا الفن سقط في مستنقع الأسواق والتشيئة والتبضيع، وعوضًا من أن يبحث عن سحره مجددًا، خضع بدوره إلى هذه المعادلة، فتحول إلى تاجر لا تُقاسُ نجاعة أعماله الإبداعية إلا بمدى مشاركاتها في المهرجانات، وما قد تحصده من جوائز أو تعدد عروضها من حيث توزيعها. والأنكى من ذلك، أنه قد ركض لاهثًا إلى قصر العنكبوت، ليتحول بدوره إلى قاتل للحقيقة، فإذا به فريسة سهلة أمام لجان الدعم أو مجرد مخبر لدى المؤسسات المسرحية، وعلى الرغم من سلوكه المقرف ذاك، يقدّم نفسه على أساس أنه من الرافضين للراهن المسرحي وأكثر غيرة على الشأن الثقافي: هكذا نكتشف ماهية الحقيقة عنده من خلال ماهية قناعه. تقول الأنثروبولوجيا على لسان عبد الواحد ابن ياسر في كتابه (حياة التراجيديا): “لا تحدث حالة الحلول الإلهي إلا داخل الجماعة المحتفلة، وفي جو الطقس الذي لا يمكن أن يكون بدوره إلا جمعيًا. هذا ما يفسر أهمية القناع في طقوس ديونيسيوس، حتى سمي بالإله المقنع”، ولكن ما ندركه مع هؤلاء الأرهاط المسرحيين الذين يصبغون وجوههم بقناع ذلك الإله، هو أنهم يخفون تحته قناعًا آخر، ألا وهو قناع جورجو gorgo، المعروف بانتسابه إلى الشر، من خلاله تمثيله لتلك القوة الشيطانية الرهيبة والقاتلة، حيث نكتشف ذلك الوجه الوحشي والحيواني لتلك القوة التي تضخها نظرات الآلهة ميدوزا بغاية الهلاك والموت.

يقدم المسرحي نفسه على أساس أنه ديونيسيوس عينه، ويسعى جاهدًا كي يقنعنا بذلك، ولكننا نكتشف في كل مرة كذبه، بعد أن تحول إلى قاتل تستهويه الضحايا، هكذا، وأمام إقامته في قصر ذلك العنكبوت، يتحول بدوره إلى فيلسوف شاحب اللون يحتاج إلى مزيد من الدماء، كما يذكرنا بمذبح ذلك الإله المقنع؛ حيث يكون الاحتفال قائمًا على تمزيق لحم القربان وأكله نيئًا، أما ماهية الضحية فآدمية خالصة، بعد أن كانت حيوانية، وإن كنا لا نعجب حين نكتشف مع  الديثرامب Dithyrambe “كورَس ترتيلي” أن اسم ديونيسيوس في بعض معانيه يوحي بأكل لحوم البشر، فإننا نستنتج أن أولئك المتكلمين باسمه الآن لم يأخذوا من أبعاده إلا ذلك البعد الدموي والوحشي.

الآن، صار يمكن القول بأن هؤلاء الذين صبغوا وجوههم بدم ذلك الإله، لم يفعلوا ذلك إلا بغاية إرضاء رب الانتظام أبوللو، كي يجدوا الفرصة في التهام أوصال البعض الآخر داخل المدينة، وإلا؛ فإنهم سيطردون منها. ومع أن إمكانية الهرب صارت تبدو مستحيلة، فإن كل فرد منهم مضطر إلى قناع ما، حيث ليس ثمة غير الرياء والكذب والطاعة والولاء، وكل ذلك على حساب من هو مُصِر بعد على الإيمان بزهرة شقائق النعمان وحمرة الأرض. وكل ذلك -أيضًا- على حساب الفن المسرحي عينه؛ حيث لم يعد سائدًا غير الانتحال والبؤس المعرفي، وتلك المهرجانات التي تحوّلت بدورها إلى أسواق يلتقي فيها الرقيق الثقافي، لعقد مساومات رخيصة، لا يمكنها غير الإعلان عن إفلاس بنوك الإنسانية.

ما يمكن التأكيد عليه هو أن هؤلاء جميعًا قتلة، وإن كانوا بأشكال مختلفة! أما ما يجمعهم فذلك القناع الذي يحاولون من خلاله الانتساب إلى الفن المسرحي، غير أننا، بمجرد هدمه، لن نكتشف إلا ما اصطلح عليه حسن اليوسفي: “وجه جهنم”، حيث يظهر الشيطان بقناع هجين وبشع، بينما يظل ذلك القصر الذي يسكنه الفيلسوف، يصطاد في كل مرة ضحية جديدة، ليجعل منها وجبة دسمة لهذا السيد شاحب الدم، حتى إذا ما تكاثروا -مثلما يحدث الآن في هذا الزمن الأغبر- صار يمكن وصفهم بـ “عناكب ديونيسيوس”.


حاتم محمودي


المصدر
جيرون