من النهضة إلى التطرف



في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بدأت ملامح نهضة فكرية تسود العالم الإسلامي، بعد قرون من الجمود والانغلاق، وخاصة مع رعيل المثقفين الذين أذهلتهم أوروبا بإنجازاتها المعرفية علميًا وفكريًا واجتماعيًا. تميز هذا الرعيل بفهم عميق لمسألتي الهوية والتقدم، وأدركوا ضرورة الابتعاد عن خلق صراع بين المسألتين؛ فكانت معظم جهودهم تصب في إطار دفع الهوية باتجاه الحداثة والتقدم، من خلال استثمار ما يتوافق من أسسها مع النهضة، ومناقشة ما يشكل حجر عثرة نقاشًا عميقًا أقرب إلى التفكيك، فالأفغاني وعبده والطهطاوي والشدياق وإقبال وأرسلان والكواكبي ومحمد رشيد رضا وابن باديس ودرية شفيق ونقولا حداد وملك حفني ناصيف ومحمد عزة دروزة ومحمد البشير الإبراهيمي وأمين الريحاني وعلي عبد الرازق وحتى سيد قطب (قبل أن يدخل حمى المواجهة السياسية)، وصولًا إلى مالك بن نبي وعلي شريعتي وآخرين، أضاؤوا الفضاء الفكري بما يدفع هذه المجتمعات نحو النهضة، ومن الملفت أن الإحيائية الدينية أو القومية ارتبطت في بداياتها باستلهام التنوير الأوروبي.

مع حمى الصراع على السلطة، وانتشار الأحزاب الأيديولوجية؛ بدأ الاصطدام بين مسألتي الهوية والتقدم؛ ما دفع الواقع الفكري والسياسي إلى عملية فرز حادة بين اتجاهات تعادي الحداثة لصالح الهوية، واتجاهات مضادة تعادي الهوية لصالح الحداثة.. بل بدأ الصراع داخل كل تيار أيضًا، كالصراع بين الهويات الدينية المختلفة، والصراع بين الهويات القومية، هذا الصراع الذي أجهض النهضة، ودفع هذه المجتمعات إلى حمى الصراع على السلطة، بدلًا من العمل على نهضة المجتمعات وتنميتها. وهو ما مهد للتطرف أن يسم الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية، منذ أواسط القرن العشرين، تطرف ديني وتطرف ذو صبغة علمانية، انشغل كل منهما بالآخر.

امتد هذا الصراع إلى راهننا، وأفسد أهم حراك تاريخي في المنطقة؛ حيث لم يشهد تاريخها مثل هذه الحمية والشجاعة في مواجهة الاستبداد المهيمن بقوة عليها، إذ سرعان ما شتتَ القوةَ الناهضة والثائرة، وشرذمها إلى أجندات مختلفة ومتصارعة. ولئن كانت الداعشية الدينية تعلن عن حضورها بشكل واضح للعيان؛ فإن الداعشية العلمانية ما زالت تتلطى خلف حداثة مزعومة وشعارات مزيفة. وهي لا تقل عن الدينية رغبة في الإقصاء والاحتكار وإعادة إنتاج الاستبداد.

ثمة وهم فظيع يتلبس الثقافة الراهنة، وهو وهم الريادة العلمانية للتنوير، وإن كنت -شخصيًا- لا أنكر دورًا تنويريًا واضحًا لمفكرين وباحثين، يتم تصنيفهم كعلمانيين على الرغم منهم، إلا أن أبسط قارئ للمرحلة التي أعقبت صدمة الحداثة، يعلم أن رواد التنوير كان معظمهم من العاملين أو المرتبطين بالحقل الديني فكرًا ووظيفة، بل شكلًا أيضًا. ومعظم المقولات التنويرية المرتبطة بالحداثة تعود في جذورها إليهم، إضافة إلى أنها كانت الأعظم تأثيرًا بما لا يقاس، وأحدثت تأثيرات عميقة في الفكر والثقافة والمجتمع، كان من الممكن أن تثمر وعيًا جديدًا، لولا الأنظمة التي تقنعت بالعلمانية، وحاربت التنوير الديني ضمن حربها الشاملة التي أدت إلى خنق التنوير، وظهور تيارات تقليدية وعنفية بديلة كردة فعل على سياسة الإقصاء والاجتثاث. بمعنى آخر: ساهمت في قتل الفكر التجديدي المتقبل للحداثة، والعامل على بلورة مشروع حداثي نسيجه تمازج الثقافة الخاصة مع المنجزات المعرفية الحديثة.

القفز على الإسلام، بتجريمه أو الحط من شأنه، لن يدفع هذه المجتمعات إلى الأمام، بل سيفرض عليها العودة إلى صراعات بدائية عرقية وقبلية وتحزبية، يضاف إليها صراعات سياسية ومذهبية، والمدخل إلى وعي جديد ناهض، يتمثل بالاحتفاء بكل الجهود التجديدية العاملة داخل الحقل المعرفي الإسلامي، وليس فقط تلك العاملة خارجه أو على حدوده، وهي بالتأكيد وبالتجربة أقل تأثيرًا.

العلمانية القومية أساءت إلى مفهوم العلمانية بشدة، كما أنها -وإن اتخذت العلمانية قناعًا- اختزلتها في معاداة الدين، لا في رفض الاستبداد الديني وغيره من أنواع الاستبداد. ثمة وهمٌ يتلبس العلاقة بين الدين والعلمانية، برأيي. وبمعنى آخر: إن هذا الصراع ملفق، وذلك لأن العلمانية ليست ضد الدين بحد ذاته، إنما هي ضد الإكراه والاستبداد والتمييز، سواء أكان محملها دينيًا أو غير ديني، بل يمكن عد العلمانية حامية للدين، لأنها مثلما تمنع الدين من العدوان، تمنع أيضًا الاعتداء عليه، وهي التي تحمي الحريات الدينية في الغرب، ففي حين يبني المسلمون جوامعهم في كل أنحاء أوروبا على اختلاف مذاهبهم، تمنع بعض بلدان المسلمين بناء جوامع لمذاهب مختلفة، وليس معابد لأديان مختلفة فقط. وبينما يمارس المسلمون حرية التعبير الديني في ظل العلمانية الغربية، هم ممنوعون منها في ظل العلمانيات السلطوية المزعومة في بلدانهم الأصلية. من جهة ثانية، أرى أن اللحظة العلمانية في تاريخ الغرب مباركة دينيًا وقرآنيًا، فلفظ (الطاغوت) الذي يتكرر في القرآن، معناه في كثير من معاجم المصطلحات الإسلامية: الكاهن المستبد. ومباركة القرآن لمناهضة الطاغوت تتسق تمامًا مع التنوير العلماني الذي واجه الاستبداد الديني. أما العلمانية القومية، وبشكل خاص عند الاتجاهات القومية العربية والتركية والفارسية، فهي علمانية مزيفة، وهي القناع الذي ارتدته أحزاب وهيئات وسلطات عبر ستة عقود وأكثر.

يلجأ البعض إلى الاحتجاج بأن العلمانية قد تغلظ في القول، لكنها مسالمة ولا تقطع الرؤوس، ويغيب عنهم أن هذه العلمانية قتلت وعذبت وقمعت الملايين على مدار أكثر من نصف قرن، وإذا كنا سنشكك في نسبة هذه العلمانية المزعومة إلى العلمانية (وأنا أول المشككين، بل أول من ينفي هذه النسبة) فمن الإنصاف أيضًا ألا نجعل (داعش) واجهة للمتدينين.. أو رمزًا للاتجاهات الدينية.

يسوغ البعض العنف العلماني على أنه ردة فعل على عنف الإسلاميين، وإذا كنا سندقق في الأسبقيات: من الذي بدأ ومن الذي استجاب بردة الفعل؛ فإنما يكفي التذكير بأن إعدام سيد قطب شكّل اللحظة الفارقة والمبكرة في هذا السياق، وأن كل الاتجاهات المتطرفة اليوم تتغذى وتستفيد من الاحتقان الذي كانت سببه أنظمة تدعي العلمانية.

لا أعتقد أن أي مواطن في منطقتنا أو في العالم هو داعشي بالفطرة، أو يميل إلى قتل الآخر جينيًا. كل الناس يرغبون في حياة منصفة وآمنة ومزدهرة. وقلة من السماسرة والجشعين هم من يرهنون واقع الإنسانية إلى المآسي والكوارث… ويتلاعبون بالعقول والنفوس ويثيرون غريزة القتل. هذا ما دعا المفكر الفرنسي أوليفيه روا إلى كتابة مقالين مهمين جدًا، بعد أحداث ملعب باتكلان في باريس، حول هوية (داعش)، وقرب (داعش) من الثقافة الأميركية (ثقافة الأكشن السينمائية)، ومجافاتها لطبيعة التاريخ الإسلامي، وإن اتخذت شعارات إسلامية.

لا شك أننا في مجتمعات نعيش أزمات هائلة، ولا شك أن جزءًا لا بأس به يعود إلى أسباب تاريخية وثقافية ذاتية، وأن الطبقة الدينية تتحمل المسؤولية أيضًا كأداة من أدوات السلطة، لكن كل ذلك لا يشكل شيئًا، أمام الأسباب الناتجة عن سياسات ومصالح العالم المامدن والحضاري، والنخبة (المدنية) الحاكمة بالبطش والأكاذيب.

مسألة الحرية لا تقام على الإقصاء، إنما تقوم على إنهاء الاستبداد بمحامله المختلفة، ابتداء من استئصاله في ثقافة النخبة، لأنهم لم يكونوا أفضل من (فقهاء الظلام).


عبد الواحد علواني


المصدر
جيرون