“وطن من وراء القصد”



تلقّف الروسي الرسالةَ السياسية الأميركية المغلّفة بفائض القوة العسكرية: المغانم توزع في جنيف وليس في أستانا. فنأى بعسكره في سورية عن مواجهة الضربة الأميركية التي لم تحمل أي قيمة عسكرية مؤثرة في الميدان، وقد يقدّم في الأيام القادمة تنازلات سياسية لا تؤثر -جوهريًا- في مصالحه في الشرق الأوسط. التركي أيضًا فهم أن حجمه الإقليمي لا يمكن أن يتجاوز حجم تحالفاته مع (ناتو). أما الإيراني الذي تأخذه دائمًا نشوة النصرِ الإلهي، لكن بلا رصيد إقليمي أو دولي، فما يزال يرعد ويزبد من دماء السوريين، على حساب مصالحهم، ومن يلحق الإيراني المهتمَّ ببناء مجد قومي على أنقاض ما بناه الآخرون؛ يأخذه إلى الخراب!

ومن يختبئ في حضن الروسي أو الأميركي، وينتف لحيته لحساب لحية الإيراني أو لحية التركي؛ تصبح القسمة في جنيف كلها على حسابه، لأن القسمة هي أساسًا بين الروسي والأميركي، أما السوري فهو الحاضر الغائب في جنيف، كما في أستانا.

نحن -السوريين- ليس لنا من خيار، يصون بلدنا ووحدتنا سوى الحوار الوطني الذي يعيد إنتاج وطنية سورية، غيّبها الاستبداد والفساد ردحًا طويلًا من الزمن، وطنية تعمل على تحرير البلد من كل الاحتلالات، وتبني دولة المواطنة والقانون والحريات والمؤسسات، لا دولة عسكر وحرامية.

في هذا الصدد، يحتاج الحوار الوطني، لكي ينتج وطنًا ومواطنًا بما تحمله المفردتان من معان سامية، إلى قوة ضغط ناعمة، تتكون من مختلف النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية، تدفع باتجاه الخروج من صورة مرتسمة للذهنية السورية أسيرة الوهم بانتصار حاسم مسنود من الخارج. صورة تجلت كاريكاتيريتها، بُعيد العدوان الثلاثي المحدود، باحتفالات موالاة بنصر عظيم على أميركا، في مدن سورية قليلة لم تُدمّر، تشبه احتفالات النصر على “إسرائيل” بُعيد هزيمة حزيران، وبخيبة أمل معارضة، من ضربة ترامب، شاركت في أستانا التي أخرجتها من مدنها السورية المدمرة، بقبة باط أميركية.

ولكن خارج تلك الصورة الكاريكاتيرية، ترتسم في الأفق بداية فصل جديد، يشبه السيناريو العراقي بتعقيداته الداخلية والخارجية، لا يمكن مواجهته منذ الآن إلا بالحوار. والحوار ليس ترفًا -كما يحلو للبعض وصفه- إنما يصبح إمكانية دائمًا؛ إذا توفرت نيّات طيبة من جميع الأطراف المتنازعة لتجنب انهيار دراماتيكي قادم، أو توافق دولي لتقاسم معين للبلد، وكلاهما -برأيي- سياقان مدمّران للذات السورية، أخذا البلد في مجاري أحدهما هو فعل شمشوني غير وطني وغير أخلاقي..

الخيار الوطني ينتجه فقط حوار وطني جامع، شفاف ومثمر، قد يبدو مستحيلًا في ظل تعنّت القوى الداخلية المشحون من داعميها الخارجيين، لكن الفعل السياسي الوطني النضالي لا يجب أن يتبنى خيارات ممكنة آتية من الخارج، لكنها غير وطنية، ويهمل خيارات وطنية حتى لو بدت مستحيلة.

الحوار الوطني هو عملية تفاعلية، وجهًا لوجه، بين الأشخاص والآراء والمواقف والمصالح والهواجس. ويتوقف نجاحه على توفر الإرادة المستقلة وصدق النيّات والالتزام بآداب الحوار، وانتهاج العلمية والمهنية، في عرض المواقف ووضوح الرؤية ونزاهة الأهداف والحرص على المصلحة الوطنية. ويتوخى المتحاورون منه التوصل إلى توافقات وطنية، تنهي المشكلة وترسم خارطة طريق للمستقبل.

وهو أيضًا عملية تنظيمية معقدة، توجب إجراءات اشتراعية وتنفيذية وموارد مالية، وهيئة مستقلة عن أطراف الصراع، تعنى فقط بتنظيم الحوار الوطني، وتكون حيادية وتقف على مسافة واحدة من الجميع، تمتلك حرية التحرك في جميع المناطق السورية وفي مناطق الشتات. وكون المعارضة لا تؤلف كتلة واحدة، وهي مشتتة في الخارج والداخل، ولا تمتلك إمكانية المبادرة لتنظيم هذا الحوار؛ فإن السلطة وهي الطرف الوحيد الذي ما يزال يمسك بمؤسسات الدولة ومواردها، وتستطيع إطلاق الحوار الوطني، وتهيئة ما يلزمه تنظيميًا ولوجستيًا. ولكون رئيس الدولة الوحيدَ الذي أقسم اليمين الدستورية بصون وحدة البلاد ومصالح الشعب؛ فهو الوحيد الذي يتحمل مسؤولية ضياعهما، والتاريخ لن يذكر أحدًا سواه لو حصل ذلك. وعلى ذلك؛ فإن مسؤولية المبادرة لإطلاق الحوار الوطني تقع عليه وحده. وعندئذٍ فقط، يحمل كل طرف أو مكون لا يلتزم الحوار مسؤوليته على كاهله.

سبل الحوار الوطني أربعة:

1ـ مجلس الشعب.

2 ـ لقاءات مغلقة أو مؤتمر في دولة مضيفة.

3 ـ لقاءات مفتوحة عبر وسائل الإعلام.

4 ـ الندوات والمناظرات المنتظمة التي تنتج توصيات تستفيد منها أطراف الحوار.

وبالنظر إلى استحالة إجراء الحوار الوطني في مجلس الشعب السوري، بسبب أحاديته وسيطرة طرف السلطة عليه، وعدم ملاءمة اللقاءات المفتوحة، عبر وسائل الإعلام والندوات والمناظرات، لكون الحالة السورية معقدة وتحتاج إلى توافق عام أو شبه عام من مكونات الشعب كافة؛ لا يبقى سوى مؤتمر للحوار الوطني في دولة مضيفة، وفي الحالة السورية لا يوجد أفضل من مقر الجامعة العربية. كما أن أي حوارٍ، لا يرتبط بجدول زمني محدد ومحاور معينة، يُخشى أن يتحول إلى جدال لا طائل منه، في الوقت الذي تلحّ فيه المحنة السورية، على جميع مكونات الشعب السوري، بأخذ المبادرة لإنتاج توافقات وطنية تجاه مستجداتها، تنمي الانتماء الحقيقي للوطن، والتنافس في خدمته، والتضحية من أجله.

إن غياب الحوار الوطني يعني استمرار الحرب، واستنزاف ما تبقى من وطن، وربما تقسيمه، وعندئذ أي حديث عن انتصار من قبل أحد طرفي الصراع، السلطة أو المعارضة، مدعوم من الخارج، لن يكون له أي معنى على المستوى الوطني؛ لأن الكل، في حساب الربح والخسارة، هو خاسر، كما أن تنحية خيارات الشعب السوري جانبًا، ما هي إلا تواطؤ فاضح على المصالح الوطنية العليا، يتحمل مسؤوليته طرفا الصراع اللذان يتقاتلان على الأرض، ويتفاوضان في جنيف وأستانا، وقد فشلا حتى الآن في التوصل إلى توافق سياسي، يضع المحنة السورية على سكة الحل.

إن مؤتمر الحوار الوطني السوري هو الممكن الوحيد للحل الوطني، وما عداه هو مجرد تسويات برعاية خارجية، تُفصّل على مقاسها، لن يأخذ منها الشعب السوري سوى قبض الريح.


مهيب صالحة


المصدر
جيرون