on
أطوار الحصار في سورية … من احتواء الثورة إلى الترحيل السكاني
شارفت أكبر حملة حصار عسكري في الحرب السورية قياساً على الرقعة الجغرافية المحاصرة، على الختام. فالغوطة الشرقية، في جوار دمشق، وبعد سنوات من الحصار والقصف وهجوم عسكري دام أكثر من 10 أسابيع، على وشك السقوط [سقطت] في أيدي النظام السوري. وليس اللجوء في الحروب المعاصرة الى تكتيك الحصار شائعاً، على ما كان الحال في النزاع السوري. واستخدمت القوات الحكومية السورية وحلفاؤها الإيرانيون والروس دورياً هذا التكتيك العسكري في وجه الثوار والسكان المنتفضين على سلطة بشار الاسد. وفي أوج النزاع، بلغ عدد المناطق المحاصرة 59 مدينة وبلدة. وبعض حملات الحصار دامت سنوات، وبعضها الآخر لم ينته إلى يومنا هذا.
والحق يقال إن تكتيك الحصار قديم قدم الحرب، وهو تكتيك مشروع في قوانين الحرب. ولكن إثر الحرب العالمية الثانية، تغيرت النظرة الى الحصار. فالثمن الذي يتكبده المدنيون في معركة بين المتقاتلين، هائل: كان أكثر من نصف القتلى في لينينغراد، ومجمل عددهم بلغ مليوني قتيل، من المدنيين. ولا يحظر اتفاق جنيف في 1949 والبروتوكولات الملحقة به في 1977، الحصار. وعلى رغم أن السيطرة على مدينة واقعة في قبضة العدو هو «هدف عسكري مشروع»، ساهم اتفاق جنيف وملحقاته في تغيير قوانين الحرب، ورجحت كفة حماية المدنيين. فالحصار متعذر من دون ارتكاب جرائم حرب. وعليه، صار من يفرض طوق الحصار، عرضة للمحاسبة. وصارت قوانين الحرب تلزم المعتدين التمييز بين المدنيين والمقاتلين، وتحظر مهاجمة المدنيين والتوسل بالجوع وتدمير سبل عيش السكان ومنع المساعدة الطبية عن المحاصرين. وعلى رغم أن المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، التي أبصرت النور في 2002، لا تملك تفويض ملاحقة كل من يطبق الطوق على منطقة من المناطق، إلا أن الحصار جريمة حرب. وفي النزاعات المعاصرة، توسل كل من الجيش الصربي في كراوتيا والبوسنة- الهرسك، والجيش الروسي في الشيشان، والجيش الاميركي في العراق، بالحصار إلى إحكام القبضة. وإثر الحرب الباردة، كان الجيش الصربي أول من استخدم تكتيك الحصار طوال 87 يوماً على فوكوفار شرق كرواتيا. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1991، صارت هذه المدينة أول عاصمة أوروبية تسقط منذ 1945 إثر حصار وتُدمر. وفي البوسنة- الهرسك، حاصر الجيش الصربي 6 مدن. وحصار ساراييفو هو أطول حصار في تاريخ الحرب المعاصرة، ودام من 2 أيار (مايو) 1992 إلى 29 شباط (فبراير) 1996، وهو الأكثر دموية بعد لينييغراد (11541 قتيلاً)، مع حفظ أوجه التباين بين الحصارين. وتحول الحصار هذا إلى رمز المقاومة. فالعاصمة هذه كانت بلا جيش حين حصارها، ولكن المدافعين عنها صدوا ثلاث هجمات كبيرة. واضطر الجيش الصربي إلى رفع الحصار بعد التدخل الجوي «الأطلسي» وإبرام اتفاق سلام. وحصار ساراييفو هو أول حصار وصفته المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، بـ «جريمة ضد الإنسانية» و «جريمة حرب».
وفي حروب ما بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، كان الجيش الأميركي أكثر من توسل بالحصار. وذاع صيت حصاريْ الفلوجة حين كانت المدينة في أيدي ميليشيا سنّية عراقية تحالفت شيئاً فشيئاً مع تنظيم «التوحيد والجهاد»، وهو سلف «القاعدة» في العراق وداعش، في نيسان (أبريل) 2004 ثم في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام ذاته. وأخفق حصار الفلوجة الأول في بلوغ هدفه، بينما أفلح الثاني في كسر شوكة المقاتلين. ولكن ثمن هذا «النجاح» كان سقوط آلاف المدنيين ودمار المدينة. ولم يثن أعظم جيش في العالم تصنيف الامم المتحدة الحصار «جريمة حرب» قبل عام، عن الإقدام عليه والتوسل به إلى السيطرة على مدينة. «وغالباً ما يفرض الأميركيون طوق الحصار، وتكون لهم الغلبة ثم يغادرون»، يقول ميشال غويا، محلل شؤون النزاعات، وهو ضابط فرنسي سابق، صاحب كتاب عن معركة الفلوجة. «في معركة الفلوجة الأولى، أدركوا (الاميركيون) أن عزم المدافعين عن المدينة يقلب الموازين. فعادوا في المعركة الثانية إلى الثقافة العسكرية التقليدية: السحق». ونشر الجيش الاميركي 30 ألف رجل حول الفلوجة في مواجهة 4 آلاف مقاتل لا يمكلون وسائل عسكرية معاصرة. وفي معركة الفلوجة الثانية، دام الحصار شهراً، ودامت العملية العسكرية للسيطرة على المدينة أسبوعاً. وسقط في صفوف قوات المارينز الاميركية 73 قتيلاً، وهو عدد أدنى من الخسائر البشرية في صفوف الجيش العراقي أو المتمردين السنّة المنهزمين. ولكن الاميركيين هالهم هذا العدد، لذا يقيمون أوجه شبه بين معركة الفلوجة والمعارك ضد اليابانيين في جزر الهادئ، أي بين مقاتلي الفلوجة وعدو يقاتل إلى آخر رمق. وتحالف الجيش الأميركي في 2017 مع القوات الكردية وميليشيات سنّية سورية في فرض الحصار على الرقة، عاصمة «داعش» في سورية، طوال 3 أشهر ونصف قبل أن يستسلم التنظيم. وورثة الجيش الأميركي في العراق، أي القوات الخاصة العراقية التي دربتها واشنطن، اعتبرت بعبر تكتيكات الحصار. ولكن الجنود العراقيين يدركون أنهم لن يغادروا الى أرض بعيدة بعد أن تضع المعركة الرحال، وأن سحق العدو ليس نهاية المطاف حين يقاتل المرء في بلده. وفي الموصل، دامت المعارك 9 أشهر (من تشرين الأول /أكتوبر 2016 إلى تموز/يوليو 2017). وأحكم الطوق على مقاتلي داعش في شهر القتال الخامس إثر قطع الطريق إلى سورية. وفي الموصل، فاجأ طرفا القتال خبراء شؤون الاستراتيجية. فمن جهة، سعت القوات العراقية لأول مرة في تاريخها وخلافاً لما أقدمت عليه في نهاية المعارك في المدينة القديمة، إلى حماية المدنيين. وفي الجهة الأخرى، قاوم مقاتلو «داعش» مقاومة شرسة. فكانوا ثلاثة آلاف مقاتل في وجه مئة ألف جندي عراق يدعمهم التحالف الدولي.
ويقتضي حصار مدينة الاستعانة بعدد كبير من الرجال وأن يفوق عدد الجهة المحاصِرة خمسة إلى عشرة أضعاف عدد مقاتلي المحاصَرين. فحين تطويق منطقة من المناطق، يستبسل المقاتلون في القتال في وجه عدو يحرمهم خيار الهرب. وفي سورية، لم يكن في صفوف الجيش الحكومي عدد كاف من القوات لحصار عشرات المدن والسيطرة عليها. وكان هدف نظام بشار الأسد احتواء توسع المتمردين ومعاقبة السكان المعادين له. فالحصار لم يكن فحسب أداة من أدوات المعركة بل خطة طويلة الأمد. وطوَّق أول حصار طويل الأمد، داريا في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012. وكان الجيش السوري عاجزاً عن مواصلة الحصار واستعادة الاراضي إلى حين رجحان كفة إيران في النزاع. وفي نهاية 2013، أحكم طوق معظم عمليات الحصار.
و»بعد قرون من اكتساب الفرس فن الحصار من المغول، صار الإيرانيون أسياد الحصار في سورية. وفي سبيل دعم دمشق، استقدمت طهران، إلى مستشاريها العسكريين، آلاف الشيعة من العراق ولبنان («حزب الله) وباكستان وأفغانستان»، يقول جيرار شاليان، مؤرخ شؤون النزاعات. والاستعانة بالقوات الاجنبية الشيعية هذه كانت جسر النظام الى نشر استراتيجية الحصار الرامية الى الاحتواء الى 2015، تاريخ انضمام الجيش الروسي الى الايرانيين في دعم بشار الاسد. وفي أول تدخل عسكري له خارج حدود الاتحاد السوفياتي السابق منذ هزيمته في أفغانتسان في 1989، عاد الجيش الروسي الى تقنية الحصار التي عادت عليه بالنصر في الحرب العالمية الثانية وفي حرب الشيشان الثانية في حصار غروزني، «المدينة الأكثر دماراً على وجه المعمورة»، على قول الأمم المتحدة. وآذن حصار غروزني بمصير عدد كبير من المدن السورية. وقبل التدخل الروسي كان هدف الحصار الاقتصاص من المدن المنتفضة، تقول فاليري سزيبلا، مديرة «سييج واتش» في منظمة «ذي سيريا إنستيتيوت». وفي عمليات الحصار كان في مرمى النيران المدنيون والمستشفيات والمدارس. و «عليه، عمليات الحصار في سورية هي جرائم ضد الانسانية»، تقول سزيبلا. وتوسل النظام السوري بالحصار أداةً لابتزاز الديبلوماسية الدولية: قطع الطريق أمام المساعدات الانسانية أو فتحها»، يقول سليم سلامة، مسؤول الرابطة الفلسطينية لحقوق الإنسان في سورية. والحق يقال حصار مخيم اليرموك كان الأشرس في البلاد في غياب الغذاء. «على رغم أن عمليات القصف والقنص والهجمات الكيماوية كانت رهيبة وبالغة العنف، صمدت الغوطة الشرقية. ويعود صمودها الى مساحاتها الزراعية الشاسعة وإلى عمليات التهريب والتجارة مع مقاتلي الحكومة. ولكن مخيم اليرموك، على خلاف الغوطة الشرقية، سرعان ما عانى سوء التغذية والجوع. فالتمدين فيه كبير (غياب الأراضي الزراعية). ويشتد خناق الحصار على منطقة من المناطق كلما غلب عليها التمدن. وهذه لازمة في تاريخ الحصار. فعلى سبيل المثل، يعود صمود القسطنطينة في وجه اكثر من حصار إلى المناطق الزراعية الفاصلة بين حصني المدينة. وغالباً ما يغلب الجوع في الحصار في غياب المساحات الخضراء. ففي حصار باريس (1870-1871)، وبعد نفاد المؤن، أكل المحاصرون الجرذان، وحين نفد الجرذان، ألقت باريس السلاح.
وتوسل داعش في دير الزور بالحصار، ويحاصر إلى اليوم الثوار قريتين شيعيتين، الفوعة وكفريا. ولكن 97 في المئة من عمليات الحصار في سورية يُقدم عليها النظام السوري. وتلت مرحلة العقاب مرحلة استعادة الاراضي. وأضنى الحصار الثوار شأن انقساماتهم الداخلية، فلم يسعهم المقاومة. ومن سقوط حمص الى سقوط داريا، ثم سقوط حلب والغوطة الشرقية، ألقوا السلاح، وأحياناً بعد قتال ضار. وغالباً ما ينتهي الحصار بإبرام اتفاقات ترحيل سكاني ينقل فيها المنتصر المقاتلين والمدنيين الى مناطق أخرى. فالترحيل السكاني هو هدف النظام السوري. فهو يجبه ثورة شعبية وليس تمرداً مسلحاً فحسب. وعليه، يبدو أن سبيل دمشق اليتيم إلى الإمساك بالأرض بعد الحصار والسيطرة عيها هو تغيير السكان. وعمليات الترحيل هي جرائم حرب، تقول فاليري سزيبلا. والحصار هو أمضى سلاح في يد قوة حربية باطشة لا تعرف الرحمة.
(*) كاتب فرنسي
الحياة
المصدر
جيرون