الكاتب السوري عدي الزعبي



القصّة كالمسرح فنّ القلّة في الأدب، لا نستطيع تجاوز أحد، حتى الكتّاب السيئين.

عدي الزعبي، كاتب سوري. حائز على إجازة في الهندسة الكهربائية من جامعة دمشق 2004، وإجازة في الفلسفة من الجامعة اللبنانية 2007، ودكتوراه في فلسفة اللغة من جامعة إيست أنجليا، في بريطانيا 2015.

صدر لضيفنا مجموعتان قصصيّتان عن منشورات المتوسط بميلانو: (الصمت) 2015، و(نوافذ) 2017. إضافة لكتاب بعنوان (قنديل أم هاشم المفقود/ مقالات) 2016، عن الرابطة السورية للمواطنة ببيروت.

وفي حقل الترجمة، صدر له كتابان؛ الأوّل لبرتراند راسل، بعنوان (ما الذي أؤمن به؟ مقالات في الحرية والدين والعقلانية). دار ممدوح عدوان- 2015، فيما حمل الثاني عنوان (غريزة الحرية. مقالات في الفلسفة والفوضوية والطبيعة البشرية) لنعوم تشومسكي، شاركه في الترجمة مؤيد نشار، (دار ممدوح عدوان- 2017).

التقت به (جيرون)، وكان هذا الحوار:

– أنت من كتّاب القصّة القلائل، حاليًّا. ألا ترى معي أنّه ثمّة إحياء ما لهذا الفنّ الأدبي، والذي كانَ -حتى وقت قريب- شبه منقرض؟

= لطالما كان عدد كتاب القصة أقلّ من كتّاب الرواية والشعر، سواء في الثقافة العربية أو العالمية. لا أعرف السبب بالضبط. ربما لأن الكثير من الكتّاب يستطيعون التعبير عن النفس من خلال الأشعار، ومن خلال المطوّلات الروائية التي تبني عوالم مختلفة لفهم الواقع وتحليله.

القصة، كالمسرح، فن القلة: لا يوجد تعبير عن النفس بطريقة الشعر، ولا بناء عالم كبير الحجم يعطيك لمحة عن العالم الواقعي على طريقة الرواية: في القصة، على المرء أن يكتفي بنبذة عما يدور في العالم. هذه النبذة، على قصرها، تنفذ مباشرة إلى القلب، قلب العالَم وقلب القارئ. القصة القصيرة، كما قال الكاتب الأميركي ترومان كابوتي، أصعب أشكال الكتابة الأدبية.

يبدو لي أن المستقبل سيكون شبيهًا بالماضي: الكثرة ستكتب الرواية والشعر، والقلة ستكرّس نفسها للمسرح والقصة.

– كقارئ ومتابع ومن ثمّ كقاص وصحفي؛ هل هناك تجارب قصصيّة سوريّة استطاعت أن تتجاوز تجارب كتّاب سوريين روّاد، من مثل زكريا تامر وإبراهيم صموئيل؟

= أنا متشكك بمعنى “التجاوز” هنا: هكذا “تجاوز” مربك، وبرأيي، مضلل تمامًا.

في العلم، مفهوم التجاوز أساسي لتقدم العلوم: تجاوزنا اليوم أرسطو، وبطليموس، وابن سينا، وغاليليو، ونيوتن. لا يتقدّم العلم إلا بتجاوز الروّاد.

في الأدب، لا نستطيع تجاوز أحد، حتى الكتاب السيئين لا نستطيع تجاوزهم. لكل كاتب أسلوبه الخاص ودمغته الشخصية على ما يكتب. المنتوج الأدبي لا يمكن نقضه أو إصلاحه أو البرهنة على خطله أو صحته، على العكس من النظريات العلمية. الأدب، بهذا المعنى، لا زمني تمامًا، خالدٌ أبدًا كنص مقدّس.

ربما، المقصود بالتجاوز هو الكتابة بشكل مختلف، وعدم استنساخ تجارب الروّاد. بهذا المعنى، أتفق مع من يريدون التغيير والكتابة بأسلوب متجدد، تعبّر عن العصر الذي نعيشه، وعن الشخصية الفردية للكاتب، في آن معًا. ولكننا، بهذا المعنى، لا نتجاوز الرواد، بل نبني على ما أنجزوه، وننطلق في الكتابة مستندين على إنجازاتهم ومهاراتهم وإبداعهم.

– المُلاحظ أنّ أغلب قصصك مستوحاة من “الحدث” السوري المأسوي. كيف توظّف ما يحدث على الأرض، وهل ما تكتبه من قصص واقعيّة صرفة، أم ثمّة دور للخيال أيضًا؟

= بداية، دعني أقل إن مجموعتي القصصية الثانية (نوافذ)، تُعنى بشؤون أخرى، بالإضافة إلى الحدث السوري؛ وكذا الأمر في المجموعات القادمة.

على أي حال، كل القصص التي أكتبها خيالية تمامًا، أي أنها لا تستنسخ الواقع بحذافيره، ولا يوجد فيها أي شخصية واقعية أو حدث واقعي، ولا تهدف إلى أن تعكس الواقع أو تصوّره. ولكنها مستمدة من الواقع، بعد تعديلات وحذف وتغيير.

بالمناسبة، كل الأدب مستمد من الواقع، حتى الأدب الخيالي. الفارق يكمن في الدرجة وطريقة العرض، فقط. على أي حال، القصص معظمها تُعنى بناس الواقع، في حيواتهم اليومية البسيطة المباشرة، ولكن العميقة الداخلية. هذا ما أعتقد أنه الجانب الأهم في المأساة السورية، والأقل ظهورًا اليوم في الأدب السوري. يسعى بعض الكتّاب إلى الإحاطة بالمأساة، إلى فهمها، إلى تمثيلها بكل أبعادها، وإلى رسم صورة لكل اللاعبين الأساسيين فيها، لتصبح صورة عن المأساة: صورة صادقة وحقيقية. أحترم هذه المشاريع، ولكنني أقل طموحًا بكثير، وأكثر عناية بالتفاصيل التي تقول، برأيي، شيئًا خاصًا وعميقًا، عن الناس وحيواتهم وآمالهم ومخاوفهم، مختلفًا عما تطمح إليه مخططات الروايات الكبيرة والمعقّدة. ربما لأنني أكتب القصة القصيرة، وربما لأنني، في حياتي الشخصية، أراقب صغائر الأمور في صلتها بأسئلة البشر الميتافيزيقية والسياسية: هذا ما يستهويني.

على الضفة الأخرى، بعيدًا عن تمثيل الواقع بحذافيره وتصويره، يكتب البعض فانتازيا خيالية، في محاولة للهروب من الواقعية الثورية السائدة، والتي تسعى إلى تمثيل الثورة. أنا شخصيًا لا أميل إلى خيال بعيد متعال كهذا، لا يقترب مني ولا أستطيع لمسه أو شمّه. ولكنني أتفهّم المحاولة، بل أتعاطف معها.

ما أحاول فعله، في القصص وفي المقالات الأدبية، على الدوام، هو النظر إلى أحوالنا اليوم، والتفكر فيها، ومساءلة النفس عما حصل للناس، وعما فعلناه. لست معنيًا في الأدب بالتنظير للثورة، ولا بالدعوة لها، ولا بنشر التشاؤم أو التفاؤل.

يعني، تستطيع القول إنني أحاول أن أجد لنفسي موقعًا وسطًا، بين الواقعيين والفانتازيين، وهو ما يشبهني، ربما؛ ويشبه الأدب الذي أبحث عنه، وأحبّه.

– قيل إنك، في قصصك، “تُعرّي ما يُحاك من أكاذيب كثيرة حول أوضاع السوريين ومعاناتهم”، إلى أي درجة يمكن للأدب، ومنه فنّ القصّة، أن يؤثّر في الرأي العام في ظل سيطرة الوسائل الإعلاميّة وشبكات التواصل؟

= أعتقد أن هذا ما قاله الناقد أشرف قرقني، في مراجعته لمجموعة (الصمت). لا أعرف ما الذي يعنيه بالضبط، ربما قرأ في القصص صورة مختلفة عما يقوله الإعلام، سواء الإعلام الثوري أو إعلام النظام. هذا صحيح، القصص أقرب إلى الحياة اليومية من مبالغات الإعلام.

لا أعتقد أن الأدب يؤثر في الرأي العام كثيرًا. قلة من الناس تقرأ الأدب، وهذا أمر مفهوم وطبيعي. البعض يحب كرة القدم، والبعض يحب المسلسلات الشامية أو التاريخية، والبعض يحب لعب الورق أو الشطرنج؛ والبعض يحب الأدب؛ لذا، ينحصر التأثير في هذا البعض الذي يقرأ الأدب.

إن أردنا الكلام عن التأثير المباشر في مجرى الأحداث السياسية، فوجهة نظري هي: على الكاتب أن يلتزم بموقف سياسي، وأن يعمل مباشرة، كأي فرد في المجتمع، على تغيير الواقع السياسي. ويكون هذا بالطرق التقليدية: التظاهرات والإضرابات والاعتصامات، والمشاركة بالأحزاب السياسية، وغيرها. أيضًا، ولأنه كاتب، عليه أن يعبّر عن موقفه في كتابة سياسية واضحة مباشرة، غير أدبية، لا لف ولا دوران فيها. في حالتي، كتبت قليلًا عن انحيازي إلى الثورة السورية، وشرحت أسباب انحيازي. أما الأدب بحد ذاته، فمن الأفضل، عمومًا، ألا يكون هو الحامل للمشروع السياسي.

– في الأعوام الأخيرة، نزح قسم كبير من السوريين خارج بلدهم، حيثُ ظهر ما يسمّى بظاهرة الأدب السوري في المهجر، هل من الممكن أن يؤدي ذلك إلى تشكيل ثقافتين سوريتين، واحدة في الداخل، وواحدة في المهجر؟

= لا أعرف ما الذي سيحمله المستقبل، ولكن، في الحاضر، لا يوجد إشارات كبيرة توحي بانقسام الثقافة السورية إلى ثقافتين. بدايةً، لاحظ الاهتمام الهائل من طرف القرّاء السوريين المقيمين في الداخل، بما يصدر عن سوريي الخارج، والعكس صحيح.

أضف إلى ذلك، لا يوجد تشابهات واضحة بين كل كتاب الخارج، مقابل تشابهات بين كل كتاب الداخل. لا يوجد كتلة مثقفين في الخارج تتشارك في الشكل أو المضمون، مقابل كتلة أخرى في الداخل، تتشارك في شكل ومضمون مختلف عن الخارج. الكتّاب، على ضفتي الخارج والداخل، يتابعون مشاريعهم الفردية الخاصة.

قد يقول قائل: إن التجربة الفردية تختلف بين الداخل والخارج، بالتالي، سيختلف الأدب الذي يعبّر عنها. ولكن، حتى بهذا المعنى، هناك أكثر من خارج وأكثر من داخل؛ وبكل الأحوال، التعاطي مع التجربة يبقى فرديًا.

في النهاية، هناك تشابه بين ما يُنتج في الداخل والخارج: طغيان الاهتمام بالسياسة على المنتج الأدبي.

إلى اليوم، يبدو لي أننا نعيش ثقافة سورية واحدة، ولكن الزمن وحده سيحكم أستنقسم إلى ثقافتين أم لا.

– تكتب المقال في عدد من الصحف والمواقع الإلكترونيّة، أهذا رغبة في تدوين ما تقرأه أم هي عملية متمّمة للكتابة الإبداعية؟ وإلى أي مدى يستفيد المبدع من الكتابة الصحفية؟

= الكتّاب مختلفون في علاقتهم بالصحافة، بأشكالها المختلفة: البعض يفصل بين عمله الإبداعي وبين عمله الصحفي، كنجيب محفوظ؛ والبعض يتحاشى الصحافة تمامًا، كخوان رولفو؛ والبعض يخلط بينهما، كبورخيس. هذا الاختلاف طبيعي، ويعود إلى طبيعة الكاتب وخياراته المهنية.

أنا أكتب مقالات صحفية بأشكالها المتنوعة: مقابلات وتحليلات سياسية أو فكرية ومراجعات وغيرها، ولكن اهتمامي الرئيس هو بنوع خاص، المقالة الأدبية.

هذه المقالة التي أعمل على تطويرها جزء من الأدب، وليست على هامشه. أنا أحب المقالة الأدبية، إن كان هذا اللفظ هو الصحيح لهذا الشكل من الكتابة. أعني المقال الذي يقع في مكان ما بين الأدب الصرف والمقالة الصحفية؛ وهذا شكل من الكتابة قليل الانتشار في الثقافة العربية، والعالمية أيضًا. من حسن حظي أن محرري بعض المواقع الثقافية أعطوني الحرية الكاملة للتجريب، أقصد موقعي (الجمهورية) و(رمان): عندي زاوية أسميتها “هوامش” في (رمان)، حيث أكتب ما يحلو لي دون مساءلة من المحرر، بل بتشجيع منه، حين يكون الشكل أو المضمون غير تقليدي.

تتيح لك المقالة الأدبية اللعب على الشكل، من خلال اختبار المساحات الممكنة بين الصحافة والأدب؛ وتسمح لك بالمبالغة، والسخرية، والتسلية؛ كما تعطيك إمكانية تنويع المضمون، بين فلسفة وسياسة ونقد أدبي، وغيرها، وأحيانًا في المقال الواحد نفسه؛ تتكلم عن حياتك الشخصية دون دقة، لتقول ما لا تستطيع قوله، وتتيح لك أن تعبث وتهرف وتسمو بالمعاني؛ باختصار: هي شكل مفتوح ممتع، خاص جدًا، لا يشبهه شيء.

– لمن يقرأ عدي الزعبي، وهل من مشاريع جديدة لديك؟

= ربما من الأسهل الكلام عما لا أقرأه، قد يعطي هذا فكرة أوضح عما أقرأ. لا أقرأ روايات في السنين الأخيرة، إلا نادرًا؛ ولا أقرأ فرنسيي ما بعد التنوير؛ ولا أقرأ المتصوفة. أقرأ في مجالات أخرى، أستمتع بها، وأفهمها، وأحس بها.

هناك مشاريع متعددة: مقالات وأبحاث في الفلسفة؛ ومجموعة قصصية جديدة بعنوان (كتاب الحكمة والسذاجة)، الحاصلة على منحة الكتابة الإبداعية 2017 من (اتجاهات-ثقافة مستقلة)؛ ويعقبه كتاب مقالات جديدة عن المنفى والكتابة، أجمع فيها مقالات متفرقة عن المنفى والكتابة.

وهناك مشروع ترجمات طويل الأمد في العقد القادم، أعمل عليه مع مروان عدوان؛ حيث نختار كاتبًا فوضويًا، ونترجم له مختارات من مقالات ومحاضرات، نجمعها في كتاب. المشروع يقدّم الفوضوية بتجلياتها المختلفة من جهة، ويقدّم فن المقالات والمحاضرات إلى العربية. الأمران غائبان تقريبًا عن ثقافتنا؛ لا يكاد يوجد ترجمات لأعمال فوضوية، بسبب انحياز ماركسي طويل الأمد ضدها؛ ولا يكاد يوجد مختارات تجمع مقالات للكتّاب العالميين، بسبب انحياز غير موضوعي ضد فكرة المقالات المختارة عند الناشرين العرب، وربما عند القرّاء. صدر من المشروع كتابين: مختارات لبرتراند راسل، ومختارات لنعوم تشومسكي، اشترك في ترجمته الصديق مؤيد النشار. نأمل بأن يصدر الكتاب الثالث قريبًا، ويجمع مقالات مختارة لجورج أورويل، يشارك في ترجمته الكاتب المسرحي محمد العطار.

عندي أيضًا مشاريع شخصية، وهي كلها مشاريع، وتستحق الدرجة نفسها من الاهتمام والجهد والجدية لتحقيقها.


عماد الدين موسى


المصدر
جيرون