on
“عشوائية” أميركية أم استراتيجية مدروسة
المحتويات
مقدمة
أولًا: رابحون وخاسرون
ثانيًا: صفقة مُعطِّلة
ثالثًا: إيران في عين أميركية
رابعًا: رسائل محتملة
خامسًا: تشوّش/ تشويش أميركي
سادسًا: المعارضة والمنطلقات الجديدة
خاتمة
مقدمة
قبيل الضربة العسكرية التي قامت بها ضد مواقع للنظام السوري فجر 14 نيسان/ أبريل 2018، بدت الولايات المتحدة جادة هذه المرّة في تهديداتها للنظام السوري، ورفعت سقف وعيدها بصورة لافتة مختلفة عن أي مرّة ماضية، وحّركت بالفعل قطعها العسكرية البحرية في أكثر من مكان في العالم نحو سورية، واعتقد السوريون حينها أنها تُخطط لأمر ما سيؤذي النظام السوري بشكل كبير، ويضرّ حلفاءه الروس والإيرانيين، خاصة أنها حشدت خلفها موقفًا أوروبيًا مؤيدًا صلبًا.
كل هذه التصعيد والوعيد، وتحريك الأساطيل، تمخّض عن قصف بضعة صواريخ، تشاركت فيها الدول الثلاث، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ضربات لم تستغرق الساعة، قالت الولايات المتحدة إنها لا تهدف منها إلى إسقاط النظام، وإنما إلى تقليص قدراته على إنتاج السلاح الكيماوي فحسب، وأُفرغت الضربة الجوية الأميركية من أي محتوى استراتيجي، وتحوّلت إلى ألعاب نارية رقص عليها النظام السوري وأنصاره في شوارع دمشق.
أولًا: رابحون وخاسرون
كان النظام السوري أكثر الرابحين، بل والمنتشين من الضربة الأميركية، فهي كانت خفيفة إلى الدرجة التي لم تؤثر فيه عسكريًا أو سياسيًا، وخرج بعدها متباهيًا بقدرته على صد الهجوم الأميركي، ومواجهة ما دعاه “العدوان الثلاثي”، وسخرت وسائل الإعلام الرسمية من هشاشة القوة الأميركية وتوعدت بأن يواجه “الجيش السوري” هذه القوة و”يردها على أعقابها” خاسرة.
ارتفعت نبرة تباهي النظام بقوته، كما ارتفعت صيحاته في الجامعة العربية وفي أروقة الأمم المتحدة، وطالب العالم بموقف ضد الثلاثي الدولي الذي قام بالهجمات الصاروخية، كما طالب بمعاقبة ومقاطعة هذه الدول، ولم يهتز للمسؤولين السوريين جفن وهم يتحدون ببطولة مصطنعة البيت الأبيض.
محدودية الضربة الأميركية أثارت الكثير من الأسئلة حول جدّية الولايات المتحدة وأهدافها، فالرئيس دونالد ترامب الذي توعّد نظام الأسد بدفع “ثمن باهظ”، تسامح في الواقع معه، وتصرف عمليًا كمن يريد أن يُوبّخ لا أن يؤذي من ارتكب جرائم ضد الإنسانية في حق الشعب السوري.
اعتبرت المعارضة السورية أن ما قامت به الولايات المتحدة هو “ضربة علاقات عامة” تحفظ ماء وجه زعماء أميركا وفرنسا وبريطانيا، الذين لم يقوموا خلال سبع سنوات بما يجب لوقف إجرام النظام السوري وجرائم حربه وارتكاباته الآثمة ضد الإنسانية، و”ضربة سد ذرائع” لدول تفخر بأنها مدافعة شرسة عن حقوق الإنسان أمميًا لكنها بقيت صامتة وسلبية تراقب عملية إبادة بطيئة للشعب السوري يقوم بها النظام وحلفاؤه.
لم تستهدف الولايات المتحدة المطارات التي يستخدمها النظام السوري لشن هجمات على القرى والبلدات والمدن السورية لقتل وتهجير المدنيين، ولو كانت هناك نيّة للتصدي للنظام وشلّ قدراته، لكانت استهدفت المطارات العسكرية، وعدم حصول هذا الأمر طمأن النظام السوري بأنه غير مستهدف في بنيته.
لم يلق التحرك الأميركي رضا المعارضة السورية لأنه شكلي وغير مجدي، وسخرت من الولايات المتحدة وقالت إنها لم تؤثر في النظام، ولم تهتم بالسوريين الذين يموتون كل يوم بالمئات، خاصة أن مشكلة السوريين ليست في السلاح الكيماوي فحسب، فالنظام سيواصل قتل الشعب بواسطة البراميل المتفجرة وسلاح الطيران وقذائف المدفعية والقنص، وأسلحة أخرى عشوائية محرمة دوليًا كالصواريخ العنقودية والارتجاجية والحارقة، ولن يتغير شيء من الواقع المرير.
كانت الضربة الثلاثية ذات فائدة تجميلية لمن قام بها؛ فترامب يريد تحسين صورته في الداخل الأميركي، ويسعى لإظهار نفسه بمظهر السيد القوي، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يريد العودة إلى الشرق الأوسط ولعب دور فاعل هناك، خاصة في سورية، وكذا الأمر بالنسبة إلى رئيسة الوزراء البريطانية التي أرادت تعزيز صورتها الداخلية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي صيف العام 2016.
حجم ونوعية الأهداف يدل على أن الضربة الأميركية هي مجرد رسائل لا أكثر؛ فقيمتها العسكرية الحقيقية شبه معدومة، فهي لا تُقلق الروس، ولا تمسّ الإيرانيين، ولا تُعاقب نظام الأسد، بل ربما شجّعت الثلاثي على التمادي أكثر في استخدام الأسلحة غير الكيماوية.
ووفق المنطق، فإن أي ضربة عسكرية في سورية لن تكون مجدية إلا في حال اندرجت في سياق استراتيجية متكاملة تهدف إلى حصول تغيير في العمق، يقود بالقوة إلى مرحلة انتقالية، وكلّ ما عدا ذلك إضاعة للوقت وخدمة للنظام، وهدية مجانية له ليُتاجر بها.
ثانيًا: صفقة مُعطِّلة
أكّد مسؤولون في إدارة الرئيس ترامب أنه كان يريد حملة متواصلة وشديدة ضد النظام السوري، وتوقع بعضهم أن تشمل أهدافًا إيرانية وروسية، خاصة بعد أن غرّد على (تويتر) في 11 نيسان/ أبريل 2018، ردًا على تحذير روسي بإسقاط أي صاروخ أميركي يُطلق على سورية، وكتب “روسيا تتعهد بإسقاط أي صاروخ يطلق على سورية… استعدي يا روسيا لأن الصواريخ قادمة… لطيفة وجديدة وذكية”.
لكن العملية العسكرية الأخيرة لم تختلف عن العملية السابقة التي قامت بها الولايات المتحدة حين استهدفت مطار الشعيرات في ريف حمص الشمالي في 7 نيسان/ أبريل عام 2017، وليست أكبر منها كثيرًا، فقد أطلقت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا 105 صواريخ هذه المرة مقابل 59 عام 2017، أي ضعفي حجم المرة السابقة، وكما فشل ضرب مطار الشعيرات عام 2017 في إقناع الأسد بوقف استخدام السلاح الكيماوي ضد السوريين، يبدو أن هذه الضربة المضاعفة ستفشل لأنها من حيث المبدأ لا تختلف عن سابقتها بشيء.
ما يُدعّم هذا الجزم إعلان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بعد الضربة بأن عناصر البرنامج الكيماوي لا تزال قائمة في سورية، وبأنه لا يمكن ضمان عدم قدرة سورية على تنفيذ هجوم كيماوي في المستقبل على الرغم من استهداف “قلب برنامج الأسلحة الكيماوية السوري”.
من المؤكد أن الولايات المتحدة لم تتحرك بهذه القوة من أجل مئة من السوريين قُتلوا في دوما في الغوطة الشرقية بريف دمشق بسلاح كيماوي، ولم تتحرك بهذه القوة من أجل صفقة ما شرق الفرات الذي هو تحت سيطرتها أساسًا، ولم تتحرك من أجل الحصول على مكسب ميداني صغير هنا أو هناك، فهذا رهن إشارتها وهي قادرة عليه في أي وقت، وإنما تحركت من أجل هدف استراتيجي أكثر يستحق منها هذا التحرك.
في هذا الصدد، لا بدّ من الأخذ في الحسبان تلك الأنباء التي أشارت إلى أن روسيا أعطت النظام السوري قبل أيام من العملية إحداثيات المواقع التي ينوي التحالف الثلاثي استهدافها، وما جرى استهدافه كان قد أُخلي سابقًا.
لا يمكن الجزم بدقة نهائية بفحوى الأهداف الأميركية غير المُعلنة، فما جرى يُرجّح وجود صفقة ما مع روسيا أو عبرها في اللحظات الأخيرة، تمامًا كما حصل عام 2013 عندما استخدم النظام السوري السلاح الكيماوي في الغوطة أيضًا وقتل ألفًا وخمسمئة مدني في ساعة واحدة، حيث استطاعت الولايات عبر تحريك أساطيلها انتزاع صفقة عبر روسيا تقضي بسحب السلاح الكيماوي من سورية، وأوقف الروس كل العملية العسكرية التي كانت إدارة الرئيس باراك أوباما تنوي القيام بها في سورية.
هذا الاحتمال ربما حدث هذه المرة أيضًا، وفي الغالب أرادت الولايات المتحدة أن تضغط على إيران بشكل خاص، أكثر من سعيها للضغط على النظام السوري، وهذه التحركات العسكرية الكبيرة وفق المنطق الأميركي قد تدفع روسيا إلى التدخل لإقناع إيران بضرورة لملمة تغلغلها في سورية، وتخفيض الوجود العسكري، وإرغامها على وقف تمددها الأخطبوطي، عسكريًا وبشريًا.
ثالثًا: إيران في عين أميركية
ليس مستبعدًا أن تكون الضربة الأميركية ضغطًا غير مباشر على إيران، وربما بُرضى الروس؛ فموسكو ترغب فعلًا في أن تضعف إيران في سورية، وأن تبقى تابعًا لها لا شريكًا، ويأتي الضغط الأميركي كحجة خارجية تُسهّل الأمر على روسيا.
كذلك، لا بدّ من ملاحظة أن الولايات المتحدة تأخذ مصلحة “إسرائيل” قبل وبعد أي ضربة عسكرية، ومدى فائدتها للإسرائيليين، وضربة قاسية تستهدف النظام السوري لن تفيد “إسرائيل” التي تربطها تفاهمات من تحت ستار مع النظام السوري منذ عقود، لكن ضربة لإيران ستنفعها، وتخفف مخاطر إيران التي لا تأتمنها “إسرائيل” نهائيًا على الرغم من حالة الهدنة القلقة بينهما.
دارت شائعة قبيل القصف الأميركي تقول إن النظام السوري والحكومة الروسية عرضتا إخراج إيران وميليشياتها من سورية ضمن تسوية مقترحة، مقابل الامتناع عن الهجوم والانخراط في عملية سياسية جديدة. لكن ما يُشكك بصحة هذه الشائعة أن الطرفين السوري والروسي فاقدان للصدقية لدى الولايات المتحدة، واعتادا على تسويق الأكاذيب. وفي هجوم السلاح الكيماوي الأخير، نسج الثلاثي معًا روايات غير معقولة بأن المعارضة هي من نفذت الهجوم على نفسها، وتمسكوا بضرورة أن تُجري الأمم المتحدة تحقيقات ميدانية على طريقتهم التي تُميّع التحقيق ولا تسمح لمجلس الأمن بمراقبته.
كانت الضربة الأميركية مُقيّدة ومحدودة ومحسوبة بوضوح لتجنب استفزاز راعيي النظام السوري، روسيا وإيران؛ ففي سورية توجد قوات روسية وأخرى إيرانية، والصدام مع الأولى قد يصعّد المواجهة بشكل غير مرغوب فيه أميركيًا، والصدام مع الثانية قد يدفعها لتنفذ عمليات انتقامية ضد الجنود الأميركيين الموجودين في سورية والعراق، وربما ضد مصالح أميركية حول العالم.
لا شك في أن الولايات المتحدة تسعى لإضعاف إيران عبر البوابة السورية، وتريد أن تُخفف من قبضة إيران على العراق ولبنان، ووقف إثارة طهران للقلاقل في المنطقة، لكن تهديد النظام السوري بقصفه إن لم يضع حدًا لإيران أمر غير منطقي، فهو غير قادر عمليًا على وضع حد للإيرانيين، ولا هو قادر على إخراج الحرس الثوري وميليشيات إيران الطائفية متعددة الجنسيات من سورية.
لا بدّ من ملاحظة أن الضربة أتت أيضًا قبل نحو شهر من موعد اتخاذ إدارة ترامب موقفًا من الاتفاق بشأن الملف النووي الإيراني الذي جرى التوصّل إليه صيف العام 2015 مع مجموعة 5+1 (أعضاء مجلس الأمن الدائمين وألمانيا)، والمحدد له موعد أولي في 12 أيار/ مايو 2018، ورغبة الولايات المتحدة في إلغاء الاتفاق على عكس الأوروبيين. رسالة تؤكد لإيران أن الولايات المتحدة يمكن أن تتحرك متى شاءت وأين شاءت، بعيدًا من مظلة مجلس الأمن، ولن تستطيع روسيا ردّها إن شاءت استهداف النفوذ الإيراني في سورية.
تبقى سورية هي الساحة الأهم والأخطر بالنسبة إلى الإيرانيين؛ فخروجهم منها يعني نهاية مشروعهم في المنطقة، فقد حوّلوا سورية إلى كعب أخيل لهم، ويسعون لتحويلها إلى دولة ميليشيات تابعة لإيران، ليستخدمها الحرس الثوري كقاعدة انطلاق للمناطق المجاورة، والفوضى تجعل سورية مصدر قلاقل يُناسب تمامًا إيران وروسيا اللتين تبحثان عن المزيد من الأوراق لتكونا طرفًا في قضايا المنطقة، وفي إشعال المعارك وإطفائها.
سياسة الولايات المتحدة الراهنة في سورية سلبية إلى أبعد حد، وتفتقر إلى وضوح وتجسيد، حتى الآن على الأقل، كما تفتقر لمعرفة حقيقية بحجم التغلغل الإيراني في الدولة السورية، والجيش والأمن والاقتصاد والمجتمع والدين، وسلسلة البيانات المتناقضة التي تصدر عن المسؤولين الأميركيين دليل على تخبط هذه السياسة، بما فيها تصريحات ترامب نفسه.
رابعًا: رسائل محتملة
قد تكون الضربة الأميركية رسالة غير مباشرة لروسيا بأنها ليست الوحيدة في الساحة، وأن الولايات المتحدة قادرة على التحرك بمفردها من دون انتظار قرار من مجلس الأمن لن يأتي أبدًا بسبب 12 فيتو روسي منذ 7 سنوات عطّلت كل القرارات المتعلقة بسورية، وأنه على بوتين أن يعرف حجمه وحدود قوته، وأن أصوات أسلحته يجب أن تصمت أمام أصوات الأسلحة الأميركية.
إن أعادت هذه الضربة مسار الأزمة السورية إلى المسار السياسي، وإلى مربع التفاوض السياسي الذي لا بدّ منه مهما اعتقدت روسيا وإيران والنظام السوري أنهم نجوا منه أو استطاعوا الاحتيال عليه، فهذا يعني أن هناك بالفعل رسالة إلى روسيا، ووصلت، وهي تذكير أميركي لجميع الأطراف بأن لها أنيابًا قوية لا ترحم، وأنه لا تهمها المواقف الروسية “العنترية” الارتجالية، وأنها ستفرض الحل السياسي بالعصا.
هذا الأمر بحد ذاته، إن كان صحيحًا، قد يكون الميّزة الإيجابية الوحيدة للضربة الأميركية؛ أي دفع الأطراف كافة للعودة إلى الحل السياسي، خاصة حل جنيف الذي لا يوجد بديل عنه حتى الآن، ولا توافق دولي كبير على أي حل آخر سواه، وهو الذي يقضي وفق بيان جنيف 1 بتشكيل هيئة حاكمة انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، وهذه الهيئة، بحال تشكّلت وبصلاحيات كاملة، تعني نهاية حتمية تدريجية للنظام السوري ورموزه ومجرميه، وهو المسار الوحيد الذي يمكن أن يوقف الحرب السورية.
تؤكّد الضربة الأميركية لروسيا أن “عنتريتها” فارغة، وأن موسكو لا تستطيع البقاء في سورية من دون موافقة غربية كاملة، وأنها ليست قادرة على حماية النظام السوري إلى ما لانهاية، وأن هناك حاجة إلى لجم إيران وإعادتها إلى حجمها الطبيعي، ويجب على روسيا بالتالي أن تستمع للأخ الأميركي الأكبر، وتسعى للحد من الوجود الإيراني، وتُرغم النظام السوري على العودة إلى المسار السياسي.
في خطابه الذي رافق الضربة العسكرية، قال ترامب “في عام 2013، وعد الرئيس الروسي بوتين وحكومته بأنهما سيضمنان تدمير كل الأسلحة الكيماوية السورية. ومن ثم، فإن هجمات الأسد الكيماوية الأخيرة، وردنا عليها هذا المساء، هما نتيجة مباشرة لفشل روسيا في الوفاء بما وعدت به”، هذا يعني أن الولايات المتحدة منزعجة للغاية من بوتين الذي لم يف بوعوده، وخدع الأميركيين، في اتفاق تدمير ترسانة السلاح الكيماوي لدى النظام السوري، الذي أبرمه مع الرئيس الأميركي آنذاك، باراك أوباما، أو في غيره من الملفات التي حاول بوتين التفرد بها في سورية، وتحدى الغرب عبرها من دون أن يأخذ توازنات القوى والوعود الضمنية للأميركيين حولها. وهذه الرسالة تُبرر المشاركة البريطانية المتحمسة أيضًا، فهي رد على تسميم عميل روسي مزدوج في بريطانيا الشهر الماضي.
يمكن فهم الضربة العسكرية الأميركية في سياق التجاذب الغربي – الروسي، وخاصة الأميركي – الروسي. وهو سياق يسعى كل طرف فيه لفرض نفسه كعنصر قوي في الساحة السورية، من دون أن يضطر إلى إقحام نفسه بمواجهة مباشرة مع الطرف الآخر، وكل طرف يُفضّل بقاء النظام السوري في هذا المسار، لضعفه الشديد وخوفه الدائم، ولهذا يُصرّح مسؤولون روس وتكتب وسائل إعلام مقربة من الكرملين أن روسيا غير مهتمة بشخص الأسد، ولهذا أيضًا لم يصفه حتى الآن أي من الزعماء الغربيين بالنظام الإرهابي حتى لا يضطرّوا إلى إطاحته قبل أن يصلوا إلى أهدافهم، وهذا يفتح المجال للتخمين بأن الضربة لم تكن إلا رسائل تحذير ومناوشة، وليست رسالة بأنه آن الأوان لوضع سورية على سكة الانتقال السياسي.
خامسًا: تشوّش/ تشويش أميركي
لا تندرج الضربة الثلاثية في سياق استراتيجية أميركية شاملة ومتكاملة في سورية خصوصًا، والشرق الأوسط عمومًا، أو بتعبير أدق، ليست في سياق استراتيجية أميركية واضحة، وقد تكون ارتجالية مشوّشة، وربما استراتيجية راسخة تحاول الولايات المتحدة التشويش عليها كي لا يُكشف ما لديها من خطط للمستقبل.
قبل شهرين، أعلن وزير الخارجية الأميركي السابق، عن استراتيجية أميركية تتمثل بالحفاظ على الوجود الأميركي في شمال وشرق سورية، ودعم نظام حكم بديل، والضغط باتجاه تسوية سياسية شاملة في سورية، والضغط على إيران لخروجها من سورية، لكن ترامب أقاله وأدلى بتصريحات معاكسة تمامًا، وهو ما يؤكد وجود تناقض وتخبط في السياسة الخارجية الأميركية تجاه سورية على الأقل.
جاءت الضربة الأميركية بعد أيام من إعلان الولايات المتحدة على لسان الرئيس ترامب أنها ستسحب قواتها من سورية في وقت قريب لتتسلم إدارة الوضع قوى أخرى، وحاول مستشارو ترامب للأمن القومي وجنرالات الجيش الأميركي إقناعه بضرورة الإبقاء على تلك القوات في سورية، لكنّه أصرّ على ضرورة وجود جدول زمني سريع لسحبها.
بعد الهجوم الكيماوي في دوما، اتخذ موقفًا نقيضًا لموقفه السابق؛ فقد قرر القيام برد قوي ضد النظام السوري، على الرغم من تحذيرات القادة العسكريين خشية أن يؤدي ذلك إلى صدام مع روسيا على الأرض السورية، فقد حذّر وزير الدفاع الأميركي، جيم ماتيس، من القيام بهجوم سريع من دون وضع استراتيجية مدروسة بعناية، وعبّر عن قلقة من إمكانية تصعيد الصراع عن طريق جر روسيا وإيران إلى مواجهة أعمق مع الولايات المتحدة.
لا بدّ من الأخذ في الحسبان أن العملية الأميركية أتت منسجمة مع خطوات واستحقاقات أميركية عديدة؛ فقد أتت بعد فترة وجيزة من تعيين وزير خارجية أميركي جديد (مايك بومبيو)، ومستشار جديد للأمن القومي (جون بولتون)، وهو ما يوحي بأن الضربة قد تكون نتيجة سياسة مختلفة فيما يخص سورية، وقرار أميركي بالخروج من حالة السلبية أو الضياع التي تسم موقفها منذ سبع سنوات، خلال فترة تولي باراك أوباما الرئاسة ومن بعده دونالد ترامب.
لا بدّ من ملاحظة أن الضربة الأميركية أتت أيضًا بعد قمة أنقرة التي حاول فيها الحلف الثلاثي (روسيا – تركيا – إيران) صوغ معادلات فيها إقصاء كبير للولايات المتحدة، إذ أتت العملية العسكرية لإفهام هذا الحلف أن مفتاح الحل والربط هو بيد الولايات المتحدة لا غيرها، وأن أوان التسوية لم ينضج بعد، بسبب تشابك قضايا دولية خلافية بين الولايات المتحدة وروسيا.
كذلك، للضربة الأميركية علاقة مباشرة بيوم 12 أيار/ مايو المقبل، حيث سيتخذ الرئيس الأميركي قرارًا حيال انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، وكذلك بالقمة المرتقبة في شهر أيار/ مايو أيضًا بين ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم يونغ أون، وكلها تحديات تستدعي أن تدخلها أميركا قوية منتصرة، وأقوى الانتصارات هو انتصار في وجه روسيا، وهو ما قد تحققه العملية في سورية.
وأخيرًا، فقد قرر الرئيس ترامب القيام بضربته العسكرية، وهو يُحاصر بفضائح متتالية لمكتب التحقيقات الفيدرالي، واتهامات بعلاقات جنسية مشبوهة، وعودة الإعلام الأمريكي إلى إثارة موضوع التأثير الروسي في الانتخابات الرئاسية السابقة.
ومع هذا، يوحي كل ما سبق بغياب استراتيجية أميركية واضحة في سورية، وارتجالية وتشويش في المواقف والأفعال، وهيمنة سلبية وعدم اكتراث أميركي لما يجري في سورية من مقتلة وجرائم حرب، ومواقف مبهمة ومتناقضة لا يستطيع معاونو ترامب أنفسهم تفسيرها، ربما لإبقاء سورية ورقة رابحة في مفاوضات حول قضايا دولية أخرى مترابطة.
سادسًا: المعارضة والمنطلقات الجديدة
ضمن هذه الظروف، تواجه المعارضة السورية جملة من التحديات، تتمثل في ضرورة استعادة خطابات الثورة ومقاصدها الأساسية كثورة وطنية ديمقراطية لا طائفية ولا مناطقية، هدفها التحرر من نظام الاستبداد والفساد، وإقامة دولة مؤسسات وقانون لمواطنين أحرار ومتساوين في نظام مدني يفصل بين السلطات، ويأخذ بالديمقراطية وتداول السلطة والعدالة في الحكم.
وعليهم إدراك أنه بات من المهم بناء جبهة سياسية من النخب السياسية والثقافية السورية، تعترف الأطراف التي تشكلها ببعضها بعضًا، بمشتركاتها واختلافاتها، وتجتمع على هدف الثورة الأساسي، جبهة ديمقراطية لها رؤية سياسية واضحة، واستراتيجية متينة، قادرة على صوغ خريطة طريق يكون من شأنها عقلنة الحياة، وتُدافع عن مصلحة أكبر عدد من السوريين، وتبني بلدًا، وتُنتج وطنًا حرًا موحدًا قويًا وعادلًا ومنصفًا، وتوحد أبنائه بإثنياتهم ودياناتهم وطوائفهم.
جبهة قادرة على تسهيل الحوار والتواصل بين السوريين المؤمنين بمبادئ الثورة الأساسية، التي تستند إلى إرادة العيش المشترك، ووحدة الأراضي السورية، ومبدأ المواطنة، والعلمانية، وحرية العمل السياسي، وترفض الأقلية والأكثرية، وتحترم الحرية الفردية وحرية التعبير. وقادرة على التفكير في وسائل إنتاج الدولة السورية، المنهارة والمرتهنة حاليًا، جبهة تلتحم مع الحامل المجتمعي سياسيًا وحزبيًا، وتنحي خلافاتهما السياسية، وتوجه النضال الديمقراطي بأصعدته المختلفة، وتُفكّر في وسائل إعادة الثورة إلى مكانتها في العالم الخارجي، قادرة على إقناع الأطراف العربية والأجنبية أن مصالحها لن تتحقق من دون تلبية مطالب الشعب السوري، وفي مقدمها رحيل نظام الأسد وإقامة نظام ديمقراطي، وتعمل على الفصل التدريجي الذي يضمن استقلالية القرار الوطني عن أي مصالح وسياسات أخرى، وتُوطّن الخيارات في واقع من صنع السوريين يخلو من العشوائية والارتجال والفوضى.
جبهة تؤكد على أن الحل التفاوضي ينبغي أن يتأسس على تلبية مصالح وحقوق جميع السوريين بلا استثناء، بالوقف التام لكل أعمال القتل والتدمير والتشريد، وبالإفراج عن المعتقلين، وخروج الميليشيات والقوات الأجنبية تحت إشراف الهيئة الحاكمة الانتقالية المشكلة وفق وثيقة جنيف 1 والقرار 2118، وتوفير أفضل الشروط لعقد مؤتمر وطني جامع.
خاتمة
مكّنت الضربة الأميركية المحدودة النظام السوري، الضعيف والمرتهن، من التباهي بقدرته على “الصمود والتصدي”، وحرفت نظر الكثيرين عن جرائمه وعنفه، وغيّرت مواقف البعض إلى صفّه كنظام “يُدافع” عن بلده ضد عدوان “استعماري”، واستغلها ليطعن من جديد بالمعارضة السورية وبشعارات الحرية والكرامة.
حتى اللحظة، أضرّت العملية العسكرية الأميركية أكثر مما أفادت، فلا هي أضعفت النظام، ولا أوصلت الرسالة بشكل واضح إلى إيران، ولم -ولن- تمنع النظام السوري من استخدام الأسلحة الثقيلة العشوائية عالية التدمير ضد الشعب من أجل الحفاظ على الحكم.
لن تفيد الضربة الأميركية مع النظام السوري، ولا مع إيران، ولا حتى مع روسيا، وما لم تتجاوز واشنطن حالة التردد والسلبية والإحجام عن وقف الحرب السورية، وما لم تتخذ موقفًا صلبًا وحاسمًا من الحدث السوري، فإن الصراع سيستمر، ولن يحصل أي انتقال سياسي في سورية، ولن تنجح أي مفاوضات سياسية، وهو ما يجب أن تُدركه المعارضة السورية، التي يجب أن تتحرك وفق أسس ومنطلقات جادة وجديدة كلّيًا.
مركز حرمون للدراسات المعاصرة
المصدر
جيرون