مشروع الانتخابات الإسرائيلية استباحة لحقوق الجولانيين



لا يختلف اثنان في الجولان السوري المحتل، على أهمية انتخاب الناس لممثليهم، في المراكز واللجان والجمعيات والمؤسسات العاملة في مجالات الخدمات المدنية والاجتماعية والزراعية والدينية والسياسية، ولأن ثقافة الانتخاب لم تكن يومًا من الأيام حاضرة في الوعي والإدراك الاجتماعي والشعبي أو المؤسساتي في الجولان، لخصوصيته كأرض سورية محتلة، حيث ما يزال يخضع لتجاذب وصراع سياسي وتاريخي، بين كيانين سياسيين هما الدولة السورية صاحبة السيادة الوطنية والقانونية، وبين الدولة العبرية “اليهودية” التي احتلت الجولان، بذرائع عسكرية وأمنية واقتصادية وادعاءات ومبررات دينية “توراتية” ليست خافية؛ كان ضحية هذا الصراع ما يزيد عن 700 ألف سوري مُهجر من أرضه ووطنه، وأكثر من 26 ألف نسمة، هم السكان المتبقون من سكان الجولان، بعد حرب حزيران/ يونيو 1967 التي قطّعت أوصالهم مع وطنهم وأبناء شعبهم.

تكتسب الانتخابات الإسرائيلية المزمع إجراؤها في الجولان السوري المحتل، في تشرين الأول/ أكتوبر القادم، اهتمامًا محليًا كبيرًا على صعيد المعارضين والمُؤيدين لها، والمُستفيدين منها؛ كونها تضع حدًا لرفض الواقع السياسي والاقتصادي المفروض على السكان منذ نصف قرن، وضرورة التسليم والتعايش مع الواقع الإسرائيلي، الذي ربط الجولان ودمجه بشكل كامل، في المنظومة الاقتصادية والتعليمية والمعيشية والزراعية الإسرائيلية، وأصبح أمرًا واقعًا بالنسبة إلى الجولانيين في ظل الغياب الكلي للدولة والحكومة السورية عن حياتهم وواقعهم، منذ أكثر من نصف قرن من الزمن، وتركهم وحدهم لمصيرهم الغامض والمجهول، من دون تقديم أي بديل لهم عن مؤسسات دولة الاحتلال.

يتمسك أولئك بأحقية السكان في اختيار ممثليهم في المجالس المحلية، ورعاية أمورهم الخدماتية والمدنية، ووقف سياسة التعيينات التي تُفرض على السكان، وفق رغبة المسؤولين الإسرائيليين، ووفق التسويات التي تتم مع المتنفذين و”مراكز القوة” في المجتمع الجولاني، إضافة إلى تحمّس البعض من أولئك، لأن تُفرز هذه الانتخابات قيادة جولانية، تستطيع التعبير عن قضايا الجولان الوطنية والاجتماعية الشائكة، التي ما زالت من دون حلول، على غرار ما حدث في انتخابات الضفة الغربية، ومناطق الداخل الفلسطيني في سبعينيات القرن الماضي، التي أفرزت قيادات وطنية فلسطينية، كانت عنوانًا للنضال الوطني التحرري الفلسطيني في الأرض المحتلة.

مقارنة واقع الجولان المحتل بواقع فلسطين المحتلة

في استعراض سريع لأبرز المحطات في هذا السياق، بين واقع الجولان السوري المحتل، وواقع الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة، استطاعت الدولة الإسرائيلية المحتلة خلال خمسين عامًا:

– فصل الجولان عن امتداده وعمقه السوري، في حين بقيت المناطق الفلسطينية على ارتباط مع مصر والأردن.

– وقف المنهاج الدراسي السوري بالكامل، وإبقاء المنهاج الدراسي الأردني والمصري في فلسطين.

– فصل المعلمين الوطنيين والحزبيين، من سلك التربية والتعليم، وتركهم على رأس عملهم في المدارس الفلسطينية.

– وقف التعامل بالعملة النقدية والأوراق المالية السورية في الجولان، وتشجيع التعامل بالأوراق المالية الأردنية والمصرية في فلسطين.

– مصادرة السجلات العقارية السورية، وإبقاؤها بيد المخاتير والمؤسسات الفلسطينية.

– فصل قسري بين العائلات السورية ومنع التقائها، وإغلاق المعابر في الجولان مع دولته الأم، بالمقابل تسهيل اللقاءات والزيارات بين العائلات الفلسطينية، وفتح المعابر الحدودية مع مصر والأردن، للزيارات والطلاب ورحلات الاستجمام.

– مصادرة أملاك السوريين الذين هُجروا من بيوتهم ومزارعهم وقراهم، بالتخويف والترهيب والقتل، استنساخًا للنكبة الفلسطينية عام 1948، والإبقاء على سكان الضفة الغربية، ومدينة القدس وقطاع غزة ومخيمات النازحين على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967.

– تدمير منهجي طال أكثر من 98 بالمئة من البلدات السورية، في حين لم تشهد فلسطين هذا التدمير، على نحو واسع ومنهجي في العام 1967.

– لم تُبادر الدولة السورية إلى إقامة مؤسسات سورية بديلة لخدمة مواطنيها، أو إنشاء أطر وأحزاب سورية، فيما سعت منظمة التحرير الفلسطينية إلى مأسسة المجتمع الفلسطيني، وتشجيعه على الانضواء في إطار فصائلها الوطنية والثورية والمؤسسات المدنية والحقوقية. وبقي الارتباط الإداري المصري والأردني مع فلسطين.

– “تدريز” أنظمة التعليم في المدارس، بعد اعتماد المنهاج التعليمي للطلبة الدروز، أواخر السبعينيات، وابتكار مادة “التراث الدرزي”، لتعزيز الذهنية الطائفية في عقول الأجيال الناشئة.

– التعامل بيد من حديد في قمع وسحق أي حركة أو تنظيم مناهض، ومقاوم لبرامج السلطة العسكرية الإسرائيلية، ولاحقًا المدنية، وزجه في المعتقلات والسجون، بخلاف نسبي من واقع الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث نشطت الأحزاب اليسارية والإسلامية.

– إقامة المستوطنات الزراعية الإسرائيلية، على مساحات شاسعة من الأراضي السورية، وزرعها بأشجار التفاح والثمار، التي يعتمد عليها سكان الجولان، لضرب استقلاليتهم الاقتصادية المحلية، واعتمادهم على ذواتهم.

– تجفيف المنتوجات الزراعية من الخضروات والحبوب، وكروم العنب، والحمضيات والحبوب وزراعة التين، وتقليص كميات المياه الزراعية، إضافة إلى استهداف مواسم التفاح، التي شكلت ركيزة اقتصادية ذاتية للسكان، حتى أواخر الثمانينيات، وتشجيع ودعم منتوجات المستوطنات الإسرائيلية التي شكلت المنافس الأكبر للمنتوجات الجولانية، بدعم حكومي إسرائيلي رسمي.

– محاولات استمالة السكان بمشاريع وبرامج تنموية وتطويرية. وفي الوقت نفسه وضع العراقيل الإدارية والقانونية أمام أي مشروع اقتصادي وسياحي محلي.

– إقحام العملية التربوية ببرامج مدنية وترويجية للدولة العبرية، سياحيًا وتربويًا، بعد قرار ضم الجولان إلى “إسرائيل”، والتعامل مع السكان برخاوة وتساهل بتعليمات طواقم الهندسة البشرية في أجهزة الاستخبارات.

– تشجيع السكان على تقديم طلبات للحصول على الجنسية الإسرائيلية، خاصةً في السنوات السبع الأخيرة، بعد الأحداث الأليمة التي عصفت بالدولة السورية. فيما تُسحب الجنسية من مواطني سكان القدس، التي أعلن ضمها أيضًا إلى الدولة العبرية، وبقي مواطنو الضفة الغربية وقطاع غزة يحملون الهوية العسكرية، وجوزات سفر أردنية ومصرية، قبل إنشاء السلطة الفلسطينية منتصف التسعينيات.

– الانتخابات البلدية والمحلية التي جرت في فلسطين، في منتصف السبعينيات في ظل الاحتلال الإسرائيلي، شارك فيها وطنيون ومناضلون ورجال أعمال وأساتذة فلسطينيون، وشكلوا مع آخرين من ممثلي المؤسسات الشعبية، والأحزاب التي نشطت في الأراضي المحتلة، لجنة التوجيه الوطني التي قادت النضال الفلسطيني ضد الاستيطان، ومصادرة المياه، والأراضي، وطالبوا بانسحاب الاحتلال الإسرائيلي من كل الأراضي الفلسطينية، ولم يكن اعتمادهم الأوحد على مؤسسات الاحتلال وسلطات الحكم العسكري آنذاك… فيما الانتخابات المزمع إقامتها في الجولان تشترط أن يكون رئيس المجلس حاملًا للجنسية الإسرائيلية حصرًا، لتعويم الجنسية الإسرائيلية، وتسهيل قبولها من قبل السكان، وتفريغ الوثيقة الوطنية للسكان السوريين من مضامينها السياسية والوطنية وإسقاطها بالتقادم. على الرغم من أن حملة الجنسيات الإسرائيلية في الجولان المحتل لم يتجاوزوا، بعد خمسين عامًا من الاحتلال، نسبة 15 بالمئة من عدد سكان الجولان.

دون أدنى شك، تعدّ الانتخابات عنصرًا من عناصر الديمقراطية، ووسيلة للتجديد والعطاء، والفرص الجديدة للقيادات الشابة، وهي وسيلة لتحقيق الغايات والأهداف الاجتماعية والخدماتية والسياسية لأي مجتمع، ولا يمكن من دونها تحقيق الشفافية والمحاسبة، إلا أنها في ظل الاحتلال تعدّ حرفًا للبوصلة عن الاتجاه الصحيح. ولأنها تجري في ظل الاحتلال واستمراره الذي يقوم أساسًا على حق القوة، واغتصاب حقوق الآخرين، وقضم ومصادرة أراضيهم، وحقوقهم في بساتينهم، وري مزروعاتهم، وبناء منشآتهم دون أي تمييز، أو عراقيل سياسية أو قومية، واقتطاع حقوقهم في المياه والتعليم والسفر والبناء والتوسع العمراني والعمل دون تمييز، كما تضمنه الشرائع القانونية في مواثيق حقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين.

إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي مطالبة، وهو واجب قانوني وأخلاقي، بتقديم كل الرعاية الطبية والمدنية والخدمات الإنسانية، امتثالًا للقانون الدولي، وللقانون الإسرائيلي ذاته، الذي يعامل السكان السوريين تحت الاحتلال، بشكل مختلف كليًا عن معاملته للمستوطنين الإسرائيليين في الجولان المحتل، على الرغم من سيادة هذه القوانين على السكان في الجولان، بعد العام 1981.

إن أي انتخابات أو برامج إسرائيلية، يساهم فيها جزء من أبناء الجولان، وإن كان صغيرًا، سوف تمنح وبشكل مجاني صكوك غفران، لمن اعتدى على المشاعر والكرامة الوطنية، وسلب وصادر بغير حق آلاف الدونمات، ومئات الينابيع، وخيرة الثروات في الجولان المحتل من حجر وآثار وتاريخ وثروة حيوانية، وصناعات محلية، وأرشيف تاريخي. وقتَل بدم بارد ما يزيد عن 43 مواطنًا سوريًا، بين القتل العمد والتسبب في القتل، وسبّب بشكل مباشر أو غير مباشر إعاقة جسدية لأكثر من 70 مواطنًا، واعتقل وسجن أكثر من 1000 مواطن من أبناء الجولان السوري المحتل، بعد حزيران 1967. عدا كونها تشرعن ما رفضه ويرفضه الجولانيون، خلال رحلة كفاحهم الوطني لكنس الاحتلال والعودة إلى الوطن الأم سورية.

في ظل الواقع السوري الذي ينتمي إليه الجولان، تاريخيًا ووجدانيًا ومصيريًا، وانسداد الأفق السياسي والوطني والاجتماعي، وتدمير الوطن السوري، بعد الكارثة الوطنية والإنسانية التي حلت به؛ ترتكز الأجندة الإسرائيلية اليوم على انتزاع اعتراف دولي بسيادتها على الجولان، وطيّ صفحة التسوية السياسية التي خاضتها حكومات “إسرائيل” مع الحكومة السورية، بمعادلة “الأرض مقابل السلام”، ومنح ما تبقى من الأرض الجولانية إلى المستوطنين “اليهود”، ليهنؤوا بأملاك وأراض ليست لهم، وبحياة هنيئة مجبولة بقهرنا، ودمنا، وأحلامنا، ووجودنا على هذه الأرض التي قد نصبح عليها أغرابًا، كما نحن الآن “أغيار”، فلماذا نُساهم في شرعنة الاحتلال، على حساب حقوقنا وحقوق أولادنا، وإذا كان اليأس قد تسرب إلى نفوسنا اليوم؛ فلماذا نحكم على مصير أولادنا من بعدنا، بمصير قد يجعل حياتهم جحيمًا في ظل عنصرية مُقيتة، هي هوية مُعلنة، وعقيدة لدولة قائمة على التمييز العنصري والانغلاق والاستيطان، واستباحة حقوق غير اليهود، كجزء من نظامها التشريعي والقانوني، وجزء لا يتجزأ من ممارساتها.


أيمن أبو جبل


المصدر
جيرون