on
وجه طهران الظريف ووجهها القاسم
في أعقاب الزيارة التي قام بها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة ولقائه رئيسها دونالد ترامب في العشرين من الشهر الماضي، قام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بجولة مضادة تخللتها مقابلات مع الإعلام الأمريكي وندوة جرت قبل يومين في «مجلس العلاقات الدولية»، أهم الهيئات غير الحكومية المعنية بالسياسة الخارجية الأمريكية.
أما الغاية من جولة ظريف فجليّة: في الوقت الذي يحيط الرئيس الأمريكي نفسه برجلين متشدّديْن إزاء إيران ومؤيّديْن لإلغاء الاتفاق النووي معها، أحدهما في منصب وزير الخارجية والثاني في منصب مستشار الأمن القومي، وبعد زيارة لابن العاهل السعودي كان موضوع إيران أحد عناوينها الرئيسية، رأت طهران أن تحاول مواجهة هذا التيّار بلجوئها إلى «القوة الناعمة» وإرسالها الدبلوماسي الإيراني الأول ذي الوجه البشوش إلى أمريكا. أما مهمة ظريف الرئيسية فكانت إغراء المعارضين لترامب ولإلغاء الاتفاق النووي، ولاسيما أوساط الحزب الديمقراطي ومن ورائها الرأي العام الأمريكي برمّته.
ومن يشاهد فيديو الكلمة التي ألقاها الوزير الإيراني في ندوة «مجلس العلاقات الدولية» لا بدّ أن يفطن إلى مدى التكامل بين وجهي «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» الرئيسيين في الساحة الخارجية، ألا وهما الوزير ظريف واللواء قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس». ومن المعلوم أن هذا الفيلق الأخير هو جناح «حرس الثورة الإسلامية» المختص بالعمليات خارج الحدود الإيرانية، بما في ذلك أهم ساحات تدخل إيران الإقليمية، أي العراق وسوريا ولبنان واليمن، وكلّها بلدان استغلّت طهران فيها الانقسامات الطائفية. وفي حين يتميّز وجه إيران العسكري القاسم بتفضيله العمل خلسةً وبصمت، تقوم مهمة وجه إيران الدبلوماسي الظريف على تصدّر الواجهة ببشاشة وكأن حمامة السلام واقفة على كتفه.
في كلمته أمام المجلس الأمريكي، وقد كادت الابتسامة لا تفارق وجهه خلال إلقائها، بذل ظريف جهده كي يُظهر الحكم الإيراني بمظهر التوّاق لتحقيق التوافق والسلام في منطقة الخليج بدولها التسع (دول مجلس التعاون الخليجي الست وإيران والعراق واليمن). ولم يناقض خطابه ويكشف حقيقة مبغاه سوى ترداده تسمية «الخليج الفارسي» بصورة بدت وكأنها مُصطنعة ومتعمّدة لكثافة ورود التسمية على لسانه خلال أقل من ربع ساعة من الحديث، عوضاً عن تسمية «الخليج» المختصرة التي يتوقّع المرء أن يستخدمها مسؤول إيراني يتوخّى حقاً احترام سيادة جيرانه.
وقد ادّعى ظريف أن تلك السيادة هي في رأس المبادئ التي تسعى بلاده وراء مراعاتها تحقيقاً لاستتباب السلم والاستقرار في المنطقة. والحقيقة أن دعوة إيران جيرانها الخليجيين إلى إقامة علاقات مبنية على احترام متبادل ومتكافئ للسيادة إنما تبدو وكأنها قائمة على الاستخفاف بعقولهم. والحال أن النظام الإيراني نظام أيديولوجي مذهبي، يقوم امتداد سلطته الإقليمية على تجنيد قوى محلّية أيديولوجية مذهبية بحيث استطاع إنشاء إمبراطورية خاصة به هي أول إمبراطورية إقليمية منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية قبل قرن من الزمن، وبصرف النظر عن الإمبراطوريتين العالميتين البريطانية والأمريكية اللتين توالتا على بسط نفوذهما في المنطقة.
ومهما قيل عن أخصام طهران الإقليميين، وفي طليعتهم المملكة السعودية التي هي أقدم زبائن الإمبراطورية الأمريكية في الشرق الأوسط، فما من دولة بينهم تحوز على كتائب مسلّحة غير حكومية موالية لها على طراز تلك التي تُشرف طهران عليها، ولاسيما وجهها القاسم، في العراق واليمن، ناهيكم عن دولتي سوريا ولبنان اللتين تقعان خارج منطقة الخليج. وقد تعوّدنا على خطاب السيادة يصدر عن طهران ليعني حرية إيران في التصرّف الإمبراطوري في البلدان الأربعة المذكورة بحجة أن ذلك من سيادة القائمين على السلطة فيها، وهم خاضعون في الواقع للسيادة الإيرانية. وهذا يذكّرنا بدفاع واشنطن المستمر عن «سيادة» الدول الخاضعة لها، مثلما كانت تدّعي إزاء دولة فيتنام الجنوبية وحكومتها «الدُّمية» (كما كان يُطلَق عليها في ذلك الحين)، أو بدفاع موسكو في الماضي عن «سيادة» دول أوروبا الشرقية التي كانت تتحكّم بمصائرها.
هذا وقد كانت أسهل نقطة سجال استخدمها ظريف أمام الرأي العام الأمريكي سخريته من حكام الخليج الذين «يتنافسون على شراء المزيد من الأسلحة من الولايات المتحدة من أجل كسب دعمها بعضهم ضد بعضهم الآخر» على حدّ قوله، وهو يلمّح إلى زيارتي ولي العهد السعودي وأمير قطر الحديثتين والمتتاليتين إلى واشنطن. وقد ترافقت الزيارتان بصفقات جديدة من الأسلحة الأمريكية تباهى بها دونالد ترامب بصورة منعدمة الشهامة. فحذّر الوزير الإيراني من أن كلفة تلك الصفقات للولايات المتحدة «ستكون أعلى بكثير من الأرباح التي سوف تُجنيها من بيع الأسلحة»، وهو وعيدٌ مبطّن من قِبَل وجه طهران الظريف نيابة عن وجهها القاسم.
القدس العربي
المصدر
جيرون