المقاومة الفكرية



لعل خروج الدول الاستعمارية من البلاد العربية، بنهاية حقبة الاستعمار، لم يكن الفصل الأخير من فصول اضطهادها للشعوب واستغلالها، ولم يكن خروج المستعمر خروجًا نهائيًا من الحياة العربية؛ إذ مثلت الأنظمة الحاكمة وجهًا آخر للمستعمِر، فالمستبد مستعمِرٌ داخلي، وإن كان يدعي حماية البلاد أو الانتماء إليها، فإنه يمارس شتى صنوف القهر والقمع الذي مارسه المستعمِر الغربي قبله، كما تمثل العولمة نمطًا من أنماط السيطرة غير المباشرة على الشعوب والتحكم بمقدراتها ومصايرها، فقد استخدمت الثقافة الأوروبية العديد من الاستراتيجيات الثقافية، لتفكر في ما كانت تظنه التفوق الأوروبي، وتغريب العالم؛ أي السيطرة الأوروبية على الحضارات الأخرى؛ لنغدو أمام نزوعٍ مركزي غربي يحاول بشتى الوسائل أن يخضِع الشعوب العربية لإرادته؛ فقد زعمت القوى الكبرى أنها حريصةٌ على مصالح الشعوب، وأنها تتطلع إلى تحقيق آمالها في الحرية والديمقراطية، إلا أنها تخفي تحت شعاراتها البراقة مآرب أخرى، لتحقق مصالحها الاقتصادية والسياسية على حساب الشعوب المقهورة، ولأهمية تلك المصالح في التحكم بمقدرات الشعوب، ظهرت نظرياتٌ جديدةٌ تنادي بالعولمة؛ إذ سعت القوى الغربية عبر طرحها لمسألة العولمة أن تذيب خصوصيات الشعوب، وتسلبها هويتها الحضارية، وتدعو إلى نظامٍ عالمي جديدٍ يقوم على أسسٍ جديدةٍ، تنظر إلى العالم بوصفه قريةً كونيةً تخدم مصالح القطب الواحد على حساب بقية الشعوب والأمم. إنها عولمة الهويات والمجتمعات والأوطان، عبر الشبكات والأسواق والهجرات التي تبدو أقوى أو أولى من العقائد والأيديولوجيات. وتلك هي ثمرة الطرقات السريعة للإعلام من جهةٍ، وللسرعة في تحرك الأشخاص وانتقالهم عبر القارات من جهةٍ أخرى: تبدل وجه الحياة على الأرض، وذلك بخلق واقعٍ بلا حدودٍ نهائيةٍ، وبلا هوياتٍ متميزةٍ بصورةٍ حاسمةٍ، بذلك تصبح خارجية المكان الوجه الآخر لمرونة الهويات؛ الأمر الذي يضع الهوية موضع التساؤل، بفتحها على تعدد الأمكنة والعوالم والانتماءات. وهكذا ينفتح الآن المجال لتشكيل هوياتٍ متعددة الانتماءات في موازاة الشركات متعددة الجنسيات؛ لذا فإن البحث عن آلياتٍ تحافظ على الذات، وتصون الهوية أمام الأخطار والتحديات التي تواجهها أضحى أمرًا ملحًا، فعلى الرغم من حديث الغرب المتواصل والمستمر عن حوار الحضارات، والتواصل الحضاري، والشعارات البراقة التي يرفعها في هذا الإطار، فإن ذلك الحوار محكومٌ بلغته ونظرته، وما تفرضه من استيعابٍ للحضارات الأخرى، ومن ثم تبديدها. وإذا كنا لا نستطيع أن ننكر التقدم الهائل الذي حققته العولمة في التواصل، وتطوير آليات التفاعل والاتصال والإنتاج، وتبادل المعارف والأفكار بين الحضارات المختلفة؛ فإن ذلك النزوع الحضاري الغربي ليس مسالمًا أو حريصًا على حياة الشعوب الأخرى أو مصالحها؛ ذلك أن الإمبراطوريات التوسعية لا تخاطب البشر بأهدافها في التوسع والثروة والسرقة والهيمنة، بل باسم القيم السامية. يجب شحن الجيوش الغازية بمفاهيم لا علاقة لها بأصل العدوان: وعد إلهي، مجد الأمة، رسالة الشعب، تحرير الآخر، وإذا لم تكن للحضارات القوية أطماعٌ مكشوفةٌ أمام الشعوب الأخرى، أو لم يكن بمقدورها أن تعيد حقبة الاستعمار المباشر؛ فإنها تسعى إلى التأثير في الرأي العام العالمي؛ لتسوغ مخططاتها الاستعمارية، كما حدث في الغزو الأميركي لفيتنام وأفغانستان والعراق عام 2003، على سبيل المثال، وهذا السلوك ليس جديدًا أو وليد اللحظة الراهنة، بل هو نهجٌ اتبعه الغرب منذ مئات السنين، وقد تجلى ذلك السلوك في الاستشراق الذي كان يخدم المصالح السياسية والاقتصادية للغرب؛ إذ إن الرؤية للاستشراق تتم في كثيرٍ من الأحايين من خلال دوافع سياسيةٍ، حين تتزاحم المشاكل المتصلة بالشرق أمام صانع القرار الغربي يستعين بعلماء الاستشراق؛ لكي يكثفوا جهودهم لإضاءة مناطق معينةٍ اعتمادًا على مسلّمةٍ سارت عليها الثقافة الغربية زمنًا طويلًا، وهي شدة العلاقة بين المعرفة والقوة، وارتباط كل منهما بالآخر. وهذا الأمر يشير إلى الأهمية الكبرى التي أولاها الغرب لنشر مفاهيم وأفكارٍ تتماهى مع سياساته؛ ليخضع بقية الشعوب لهيمنته من جهةٍ، ويجعل منها مجرد تابعٍ له من جهةٍ أخرى.

من هنا تبرز الخطورة الكبرى لما عرف بـ (الغزو الثقافي) الذي يمثل تحديًا كبيرًا للذات، يوجب عليها أن تعتصم بكل ما من شأنه حمايتها والحفاظ على خصوصيتها. ولا نجد منذ ما عُرِف بعصر النهضة العربية، إلا الإخفاقات الكبرى التي عاشها ويعيشها المثقفون العرب، فقد كانوا أسرى لأزمةٍ تتمثل في فقدان المصداقية الفكرية وانعدام الفاعلية النضالية. لقد أفلسوا فكريًا، أخفقت مشاريعهم النضالية حيث وجدت طريقها إلى التطبيق. وهذه الأزمة هي التي تستدعي إثارة الأسئلة، وإعادة النظر في كل ما هو مطروحٌ أو متداولٌ في خطابات المثقفين من الشعارات: لماذا تقلصت فسحة الحريات؟ أو لماذا تراجع عصر التنوير عن ذي قبل؟ أو كيف نفهم أن دعاة الديمقراطية من المثقفين لا يحسنون سوى نقضها أو تلغيمها؛ لذا فإن الأزمة التي يعيشها المجتمع العربي لا تتمثل في المواجهة الحضارية مع الغرب فحسب، بل ثمة أزمات داخلية تزيد من التحديات التي تواجه بنية المجتمعات العربية، فقد تشظت الذات العربية وتفرقت، انطلاقًا من الأيديولوجيات أو الاتجاهات الفكرية التي تدين بها؛ إذ انقسم  المفكرون بين علماني، وسلفي، وليبرالي، وحداثي… فضلًا عن الانقسام العريض أو الجوهري بين المثقفين العرب (رأسمالي/ اشتراكي)، وهذه الانقسامات أحدثت صراعًا داخليًا بين التيارات الفكرية المختلفة، وجعلت التناحر الداخلي يستنفد طاقات المفكرين، على حساب الصراع الحضاري مع الآخر.

ولعل السؤال الذي يجب أن يطرحه المرء في هذا السياق: ما جدوى إدراك الخطر الذي يمثله الصهاينة من دون امتلاك الأدوات الكفيلة بمقاومة مشاريعهم الخبيثة؟ على العكس مما نلاحظه لدى الغرب، الذي طوع الباحثين والمستشرقين، وجعل من الاستشراق أداةً طيعةً لتحقيق أهدافه وفرض سياساته وهيمنته. وإذا لم يكن بمقدور الغرب أن يعيد حملاته التبشيرية؛ لأنها تتناقض مع ما يعلنه من مدنيةٍ وعلمانيةٍ، فإنه يسعى عبر الاستشراق والعولمة إلى نشر ثقافةٍ تساعده على تحقيق أهدافه وضمان مصالحه، ذلك أنه نشر أينما ذهب ثقافةً استعماريةً تعمل على إضعاف الروح المعنوية في الشعوب التي نزلت بها، وهذا يشير إلى أن الغرب، على وجه التحديد، يسعى إلى طمس هوية الذات وجعلها مجرد خاضعٍ أو تابعٍ، إن لم يكن على المستوى السياسي، فعلى المستوى الفكري والثقافي على أقل تقدير.

ما تزال الأزمة العميقة التي يعيشها العرب منذ عصر النهضة العربية مستمرةً؛ إذ لم يمتلكوا أدواتٍ تعزز من القدرة على مواجهة أطماع الدول الغربية، وخير دليلٍ على ذلك أن العالم الغربي يستطيع، عن طريق الإعلام وعن طريق الصحف، أن يشكل العقل الشرقي ويسيطر عليه، لدرجة أنه أصبح يرزح تحت عقدة النقص والشعور بالذنب. والشعوب الشرقية مجبرةٌ على أن تحكم على نفسها بالمعايير والقيم الغربية، فتجد نفسها عاجزةً دائمًا عن الوفاء بمتطلبات النظام الغربي، فضلًا عن أن الشعار العريض الذي رُفِع ضد الإمبريالية في دولنا العربية، لا يعدو أن يكون كلامًا لا طائل منه؛ لأننا نحارب الإمبريالية باللسان، ولا نستطيع الاستغناء عن منجزاتها، وعمّا تقدمه لنا؛ لذا فقد وضع العرب أيديهم فوق رؤوسهم رمزًا للهزيمة المنكرة: كان ذلك هو ما آل إليه العربي؛ أي إنه تحول من الصورة النمطية الباهتة باعتباره من الرحّل راكبي الجمال إلى صورةٍ كاريكاتوريةٍ ساخرةٍ، باعتباره تجسيدًا للعجز ويُسْر القهر، ولم يكن النطاق المسموح به للعربي يزيد عن ذلك.


إبراهيم الشبلي


المصدر
جيرون