ثوابت المشهد السوري ومتغيراته



ما الذي تغيَّر اليوم في المشهد السوري، منذ خروج السوريين يطالبون بالحرية وبالكرامة، ويدفعون، فورًا ونقدًا، ثمن مطلبهم أرواحَهم ودمار بيوتهم ومدنهم وقراهم في كل أرجاء سورية؟ وهل انتصر النظام الأسدي على “المؤامرة الكونية” بقيادة الولايات المتحدة، حتى يأمر أتباعه بالخروج إلى الساحات يرقصون في ساحة الأمويين احتفالًا بهذا النصر “المجيد”، مثلما كان يأمرهم بالخروج في مسيرات لا نهاية لها، لينقل للعالم صورة شعبيته الكاسحة؟

لا توحي المظاهر، من الوهلة الأولى، بتغير هذا المشهد. كأنما بقيَ، في جوهره الأساس، على ما كان عليه في البدء قبل نيِّفٍ وسبع سنوات: إذ لا يزال “الرئيس المنتخب”، حسب تعبير أدونيس، أو “الرئيس الشرعي”، حسب تعريف الروسي بوتين ووزير خارجيته ومعاونيه لافروف، أو الرئيس الإيراني روحاني ووزير خارجيته ظريف، يردُّ بمختلف الوسائل التي يراها “ناجعة”، بدعم ومشاركة حليفيْه الرئيسيْن، وبإجازة ما يسمى المجتمع الدولي، على ثورة الشعب السوري ضده وضد نظامه التي قرر تسميتها “المؤامرة الكونية” التي اتهم بها هذا “المجتمع الدولي” بالذات، كما روجت لذلك أبواقه ووسائل إعلامه؛ وما تزال الجرائم التي يرتكبها النظام الأسدي تمارس يوميًا بحق السوريين جميعًا قصفًا بكل ضروب الأسلحة، المباح منها أو المحرَّم دوليًا، وبحق المعتقلين خصوصًا منهم، ما دام السوريون لا يزالون يتلقون كل يوم أخبار مقتل هذا الشاب أو تلك الفتاة، ممن كانوا في علم الجميع إلى أمد قريب قيد الاعتقال؛ ولا يزال هواة الرقص من أنصار هذا “الرئيس” في الساحات على أشلاء من هم مواطنون، مثلهم، أو على ما تبقى من بلدهم المدمَّر، يرقصون احتفالًا بـ “نصر” بات يحتاج إلى وضع تعريف موسع، كي يضمَّ المعاني الجديدة التي أضفاها على هذه الكلمة روّاد “المقاومة والممانعة”، منذ عام 2006  في لبنان وسورية؛ وما تزال مؤسسات المعارضة وممثلوها ينتظرون “الفَرَجَ” من الولايات المتحدة ومن الأوروبيين، لعلهم يقتلعون هذا النظام دفعة واحدة، فيتاح لهم تحقيق أحلام ممثليها الخاصة التي حلَّت محلَّ مطالب الشعب الذي يزعمون تمثيله.

تلك -ولا شك- ثوابت المشهد السوري القائمة والمرئيّة والمرويّة: ثورة السوريين ضد نظام القمع والاستملاك الأبدي، وجرائم النظام الأسدي في الردّ على هذه الثورة قتلًا وتدميرًا وتهجيرًا، مع اتهام “الجماعات المسلحة” بذلك كله، و”كفاح” مؤسسات المعارضة التي تزعم تمثيلهم من أجل إسقاط النظام والحلول محله.

سوى أن المتغيرات تكاثرت حتى كادت، بطغيان وجوهها المتعددة، لا أن تحجب الثوابت عن الأنظار فحسب، بل، وهو الأنكى، أن تحيلها إلى مجرد عناصر ثانوية فيه.

كان أول هذه المتغيرات، والذي كان النظام الأسدي قد سعى إلى تحقيقه، تدخّل “حزب الله” لدعمه في قمع ثورة الشعب السوري، بحجة “حماية المقدسات”، تدخلٌ جسَّد قرار إيران المتخذ منذ اللحظة الأولى، على الرغم من إعلان تأييدها الثورات العربية في تونس وليبيا ومصر، والخاص بحماية النظام الأسدي من ثورة الشعب السوري عليه، مهما كان الثمن، ودعمه تمهيدًا لاحتلالٍ لا يقول اسمه. وكان المتغير الثاني فرضًا نظريًّا، في أول مؤتمر يعقد في جنيف حول الحدث السوري، لمصطلح “الحلِّ السياسي” القائم على مفاوضات تجري بين النظام والمعارضة، كان النظام قد رفضها من قبل، حين كانت مقاليد الأمور كلها بين يديه، وكان إمكان نجاحها، لو صدق النظام، متاحًا وممكنًا. وكان المتغير الثالث معاصرًا للأول، حين سمع السوريون الثائرون بوجود أصدقاء يتداعون لعقد أول مؤتمر لهم بتونس من أجل دعم ثورتهم ومطالبهم، كي يكتشفوا سريعًا أن هؤلاء الأصدقاء لا يختلفون كثيرًا إلا في نبرة الخطاب عن الخصوم أو الأعداء. ثم جاء المتغير الرابع والحاسم، إلى حين، في المشهد السوري، أي دخول روسيا ميدان المعركة عسكريًا، بعد أن كانت مشاركتها تقتصر على الميدان الدبلوماسي، وذلك لكي تحلَّ شيئًا فشيئًا محلّ الحكومة السورية، في تقرير كل ما يجري على الأرض عسكريًا ودبلوماسيًا. على أن المتغير الذي قلبَ المعادلات جميعًا، ولا يقل أهمية عن الأخير، كان دخول ترامب البيت الأبيض وانقلابه على سياسة سلفه أوباما الذي لم يكن التواطؤ أو التوافق غير المعلن بينه وبين بوتين حول السياسة المتبعة في سورية وإيران سرًّا. ففي كل خطوة كان ترامب، ووراءه المؤسسة الدبلوماسية والعسكرية الأميركية يخطوها في سورية، كانت روسيا هي المستهدفة أساسًا، لا الأسد ولا نظامه. وكان هذا المتغير هو الذي طغى على سواه من المتغيرات وأخضعها لمعاييره.

كان من بعض نتائج هذه المتغيرات ما جرى -وما يزال يجري- على الأرض، على صعيد التغيير السكاني الهائل الذي يمارس منذ سنوات في مختلف المناطق السورية. فبالإضافة إلى خروج ما لا يقل عن خمسة ملايين لاجئ تفرقوا في أرجاء المعمورة كلها، بدءًا بتركيا والأردن ولبنان وليس انتهاءً بأستراليا، كان التغيير السكاني عن طريق التهجير القسري قد بدأ في حمص والقصير ومناطق الجزيرة، ثم امتد إلى مختلف المناطق السورية بلا استثناء، ولم ينته مؤخرًا بكل تأكيد في الغوطة الشرقية. ومن الممكن إلحاق المرسوم 10 الذي يستهدف الاستيلاء على الأملاك العقارية للسوريين الغائبين، بيوتًا وأراضٍ، بهذه التغييرات السكانية التي يعمل الإيرانيون من وراء النظام على تحقيقها. كما أن من نتائجها أيضًا ما أبرمه النظام من اتفاقات مع داعميه، والتي تدعم ترسيخ الوجود الإيراني والروسي على الأرض السورية للعقود القادمة.

من الواضح أن هذه المتغيرات طغت على الثوابت الأولى. لم تستطع بالطبع محوها، ومن المؤكد أنها لن تتمكن من ذلك. لكنها استطاعت إلغاءها من التداول بالتدريج، حتى بات الحديث عنها يبدو أقرب إلى السذاجة منه إلى الواقعية في توصيف الحدث السوري اليوم. ومما لا شك فيه أن هذه الواقعية تقتضي الإقرار بما بات يفقأ العيون جميعًا: أن نظام الأسد لم يعد يملك من أمره شيئًا، مهما هلل البعض لـ”انتصاره” أو لإمكان “استمراره” أو استمرار “تمسك” الدولتيْن المحتلتيْن به؛ وأن سورية اليوم باتت في مهب رياح التنازع بين القوى الكبرى أولًا والإقليمية ثانيًا؛ وأن دول العالم العربي التي كانت قادرة على التأثير فقدت اليوم هذه القدرة كليًا وباتت غائبة أو مُغيَّبة عن المشهد؛ وأن روسيا استطاعت بالتدريج أن تنجح في إزاحة المعارضة السياسية والمسلحة كليًّا من المشهد السوري؛ وأن الشعب السوري الرافض للنظام الأسدي، يجد نفسه، بعد أن هُزم من زعموا وأساؤوا تمثيله، بأمسِّ الحاجة اليوم إلى من يمثله فعلًا وحقيقة، ويعبّر عنه ويفرض على الساحة الدولية كلمته الأصل.

لا يفتقر الشعب السوري إلى النساء والرجال القادرين على تمثيله. فهم آلاف مؤلفة من الأفراد يتواجدون مشتتين في جهات الأرض الأربع. ولن يكون بالوسع جمعهم ما لم تتوافر لدى عدد قليل من المخضرمين منهم، ممن لم تلوثهم المطامح أو المكاسب الشخصية، الإرادة والعزيمة والقوة والصبر والعناد فضلًا عن المهارة التي اكتسبوها بالتجربة من أجل وصل ما انقطع، وبعث الحلم الذي يحاول الجميع دفنه أو الحضّ على نسيانه.

تغير المشهد السوري دون أي شك. ولكن هل انتصر النظام الأسدي؟

ربما كان أفضل جواب هو رقص أنصاره في ساحة الأمويين احتفالًا بالنصر على “العدوان الثلاثي”!


بدر الدين عرودكي


المصدر
جيرون