في الإرهاب والإرهاب الفكري



دكتاتور، فَظّ، وحشي، متوحش، بربري، همجي، طاغية، مستبد، حيوان.. إلخ. على مدى سبع سنوات من عمر الانتفاضة الشعبية السورية، كانت هذه النعوت تتردد، عبر وسائل الإعلام في الغرب وعلى ألسنة الزعماء الغربيين، بحق رئيس النظام السوري.

نعم. كل هذه الصفات استُخدمت، لكن لم يتمّ وصفه أو وصف نظامه مرة واحدة، بالإرهابي (terroriste).

مئات المقالات في الصحف الغربية، ومئات التصريحات على ألسنة الزعماء الغربيين، وبخاصة في الديمقراطيات الكبيرة، ومع ذلك لم يتمّ توجيه صفة الإرهاب إلى النظام أو رئيسه أو ممارساته، ولا مرة واحدة، على الرغم من الفظاعات المرتكبة من قبله. ولم ترد كلمة إرهابي بحقه قط، لا كتابةً ولا شفاهًا، وكنت أتساءل دائمًا: ما السر في غياب هذه المفردة التي تتكرر في المقابل، يوميًا، عشرات المرات، إزاء منظمات أو قوى أو فصائل، لم ترتكب مِعشار عُشر ما ارتكبه النظام السوري!

كان السؤال يُلحُّ عليّ دائمًا: ما سرّ غياب هذه الصفة، عن واحد من أفظع الأنظمة الشمولية في العالم الثالث، وهل يخفي ذلك أمرًا أو موقفًا سياسيًا مضمرًا!؟

ربما يجدر بِنَا هنا أن نتوقف قليلًا، لنعاين مفهوم الإرهاب وأشكاله.

لقد كان ظهور مفهوم الإرهاب (la terreur)، بالمعنى السياسي التاريخي، في العصور الحديثة على الأرجح في أعقاب الثورة الفرنسية، وكان رمزه الأبرز Robespierre الذي، بعد استلامه السلطة، جعل الرؤوس تتطاير “مثل ألواح الخشب”، كما قال أحد المؤرخين.

منذ ذلك التاريخ حتى الآن، أخذ الإرهاب مضامين وأشكالًا كثيرة، اختفى نسبيًا ليعاود الظهور بقوة مع أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، وما تلاها من أحداث أفغانستان والقاعدة والعراق، وتم تدشين ما سُمّي “الحرب على الإرهاب”، حرب قادتها الولايات المتحدة بداية، ثم التحقت بها أوروبا، لتنتهي مع روسيا حاليًا بشكل مدمر في سورية.

عبر كل هذه التطورات، بدا واضحًا أن ليس هنالك مفهوم محدد ومتفق عليه للإرهاب، بل هنالك مفهوم مطاطي استنسابي ذاتي، بلا معايير أو مرجعيات محددة، وليس أدل على ذلك مثلًا من قيام الولايات المتحدة عام 1991 بشطب اسم سورية (النظام السوري) من اللائحة السوداء للدول الداعمة للإرهاب التي تُصدرها الخارجية الأميركية سنويًا، وذلك بعد موافقة نظام الأسد الأب آنذاك على الدخول في التحالف ضد العراق والمشاركة في الحرب عليه.

هذا بالنسبة إلى القوى العظمى، لكن الأمم المتحدة تبنّت في السبعينيات نصًا متوازنًا، أقرته الجمعية العامة، وورَد فيه أن “لا يجوز استخدام الرعب والترهيب بحق شعب أو مجموعات بشرية (من المدنيين)، ولا يمكن بأي حال، تبرير مثل هذه الأعمال باعتبارات سياسية، أو فلسفية، أو أيديولوجيا، أو عنصرية، أو إثنية، أو دينية أو ما شابه، وأن مرتكبي مثل هذه الجرائم يجب أن يلقوا العقاب الذي يستحقون”.

من الواضح تمامًا أن هذا التعريف ينطبق، أكثر من أي حالة أخرى، على حالة النظام السوري، الذي لجأ، في مواجهة المدنيين السوريين، إلى الرعب والترويع والترهيب بلا حدود.

لماذا إذن تلوذ الأقلام والزعامات الأميركية والأوروبية بالصمت إزاءه؟ وهي الزاعمة أنها صديقة للشعب السوري؟ ثمة شيء مشبوه في هذا الموقف، وبعض الجواب على هذا السؤال يكمن في أنه في غمرة الحملة الحاليّة العالمية ضد الإرهاب، فإن هذه القوى الغربية، إذا صنّفت النظام السوري على أنه إرهابي؛ فستكون محرجة أمام شعوبها، وستكون مضطرة بشكل من الأشكال إلى إعلان الحرب عليه، وهي بكل بساطة لا تريد ذلك لأسباب كثيرة، معلومة مجهولة.

في عام 2003، في أعقاب غزو العراق، صدر كتاب مهمّ يُقدّم بعض عناصر الجواب على السؤال، ويفسر إلى حد بعيد المفارقات والتناقضات الحاليّة، في المشهد السياسي العالمي.

الكتاب كان بعنوان le nouveau désordre mondial (اللا نظام العالمي الجديد – الفوضى العالمية) لمؤلفه البروفيسور Tzevetan Todorov، ويشير الكاتب إلى تطورٍ اعتبره في غاية الخطورة، حين قامت الولايات المتحدة منفردة، من دون أي شرعية دولية، واستنادًا إلى حجج وذرائع ثبت تمامًا أنها واهية: العلاقة مع القاعدة وامتلاك سلاح نووي، حين قامت بغزو العراق واحتلاله وتدميره، وإيصاله إلى نتائج كارثية لا تخفى عن العيان.

كان الكتاب ردًا مباشرًا أو غير مباشر على أطروحة (بالأحرى أسطورة) النظام العالمي الجديد، الذي بشّر به بوش الأب وبوش الابن والمحافظون الجدد. والحقيقة أننا منذ ذلك التاريخ لم نشهد نظامًا، وإنما لا نظامًا (فوضى) وصلت إلى حد شريعة الغاب، كما هو الحال في سورية اليوم، الكل في سورية من دون أي تفويض وبذرائع مختلفة: روسيا، أميركا، أوروبا، إيران، تركيا، ناهيك عن شراذم لبنانية وعراقية وحتى أفغانية.

هكذا إذن، في ظل هذا اللا نظام العالمي الجديد، وفِي غمرة ما يسمى بالحرب على الإرهاب؛ يصبح المحتل مُحررًا، والغازي الأجنبي مُحاربًا للإرهاب، والنظام الجلاد ضحية، والثائر إرهابيًا، ويختفي أَي تحديد أو تعريف نزيه وإنساني لمفهوم الإرهاب، الذي باسمه تجري كل هذه الحروب المتعددة الأشكال والأهداف.

يبقى السؤال: إذا كانت تصفية الآلاف من المعتقلين في سجون النظام من دون أي محاكمة ليست إرهابًا؛ فكيف يكون الإرهاب! إذا كان تهجير نصف الشعب ليس إرهابًا؛ فما هو الإرهاب؟ إذا كان حصار الآلاف من المدنيين (حصار الغوطة مثلًا) تجويعهم، ترويعهم، تركيعهم ليس إرهابًا؛ فما هو يا ترى الإرهاب!؟ إذا لم يكن ضرب الآلاف بالبراميل المتفجرة والنابالم والفوسفور الأبيض والأسلحة الكيمياوية إرهابًا؛ فكيف هو وجه الإرهاب؟!

الحقيقة، بغض النظر عن الخلافات والاختلافات حول تعريف الإرهاب ومقاربته طبقًا للمصالح والأهداف، هي أن النظام السوري كان -وما يزال- جذر هذه الشجرة الخبيثة التي تسمى الإرهاب، الشجرة الخبيثة التي نبتت في ظلها فروع وأعشاب سامة كثيرة.

لكن الصمت عن هذه الحقيقة، كما التلاعب بأطروحة الإرهاب ونقل الاتهام به من طرف إلى طرف تبعًا للمصالح والمطامح، لا يعدو كونه هو الآخر ضربًا من الإرهاب كذلك، إنه الإرهاب الفكري الذي لا يقلّ خطورة عن الإرهاب المادي، وهذا الإرهاب الفكري هو أحد آثار اللا نظام العالمي الجديد.

يروى أن بعض بحارة الإسكندر المقدوني ألقوا القبض ذات يوم على قرصان، كان يلاحق بعض المراكب الصغيرة، ولما مثل أمام الإسكندر؛ سأله: لماذا تعكّر صفو البحر بأفعالك هذه؟ صمت القرصان لحظة ثم قال مجيبًا: أنت يا سيدي تقوم بنفس الأفعال التي أقوم بها، وعلى نطاق أوسع بكثير، لكن لأنك تملك أسطولًا من السفن، فإنهم يسمونك إمبراطورًا، أما أنا فلأنني لا أملك إلا سفينة واحدةً صغيرة؛ فيسمونني قرصانًا!


أحمد خطاب


المصدر
جيرون