كيمياوي دوما.. رمزية الغوطة وتخاذل المجتمع الدولي



حازت الغوطة الشرقية مكانة فريدة في الثورة السورية، منذ بداية انطلاقتها، وذلك لعدة عوامل؛ ربما لانخراطها المبكر في الثورة، وهي خاصرة دمشق، حيث كانت قِبلة الدمشقيين للتظاهر فيها، أو ربما لاستقلالها وخروجها من عباءة النظام مبكرًا، أو لأسباب كثيرة أخرى، وقد بقيت على الدوام تحظى بحصة كبرى، في الإعلام المرئي والمقروء والمكتوب، لدى جمهور الثورة ومؤيديها.

عانت الغوطة كثيرًا؛ نتيجة تسلط أحد الفصائل وتحكمه في الغوطة، وتحويلها إلى دويلة خاصة به، وانكفاء بقية الفصائل في مدن الغوطة، وتركزهم على جبهات دمشق، مع عدم إنكار صمودهم على الجبهات (جوبر، حرستا، برزة) صمودًا أسطوريًا.

في ظل تشتت المشهد الداخلي للغوطة؛ قرر النظام اجتياحها وإعادتها إلى حظيرة الولاء، واستخدم حشودًا هائلة، وبدأ التمهيد بقصف جوي لم تشهده مدينة سورية من قبل، متّبعًا سياسة الأرض المحروقة، بالتزامن مع قرار الهدنة من مجلس الأمن رقم 2401، الذي تم تنفيذ عكسه تمامًا! وهكذا بدأت محرقة الغوطة، بكل أنواع الأسلحة الفتاكة والمحرمة دوليًا، الموجهة نحو الأحياء السكنية والمدنيين، بالتحديد؛ وسقطت ورقة بعض الفصائل، بتهاوي قرى الغوطة وسقوطها على نحوٍ صدم الجميع، على الرغم من سيطرة تلك الفصائل على الأرض طوال سبع سنين مضت، حيث يُفترض أنها اكتسبت فيها خبرات وتكتيكات.

غاب مشهد العروض العسكرية والعتاد الهائل المغتنم و”الأوسا” والتعداد الكبير للمقاتلين وغيره، وغدا طي النسيان، طبعًا مع استمرار التصريحات النارية العسكرية والسياسية والانتصارات لفصائل المعارضة، وتضليل الناس وعدم مصارحتهم بما جرى على الأرض وتحت الطاولة. وليبدأ من بعد ذلك مسلسلُ التسليم والتفاوض للقرى والبلدات، وكَيل الاتهامات بين الفصائل، وليسقط 90 في المئة من الغوطة، وتبقى دوما بضعة كيلومترات وحيدة أمام الموت، وعلى مشارف نهاية محتومة جلية واضحة؛ وتبدأ صيحات الصمود والثبات من القادة!

هنا؛ يضرب النظام دُوما بالسلاح الكيمياوي (في مشهد موتٍ لم تعش الثورة مثله)، على الرغم من أنه منتصر! وهو ما أثار جدلًا وتساؤلات، على صفحات التواصل الاجتماعي: لماذا الكيمياوي الآن؟! طبعًا بدا المشهد سريعًا غريبًا؛ فكثرت التكهنات والتحليلات لتفسير الحوادث غير المفهومة.

سارعت روسيا -كعادتها- إلى حماية تجريم النظام بفيتو في مجلس الأمن، وفي سابقة غريبة، طالبت روسيا والنظام بشدة، بدخول لجان تحقيق أممية إلى دوما، للتحقيق كشهود بزيف استخدام الكيمياوي! فيما سارعت أميركا وفرنسا وبريطانيا، إلى توجيه ضربة عسكرية استعراضية إلى عدة مواقع للنظام، منها محيط دمشق (ما هي إلا رسالة لروسيا وإيران، ما كان هدفها النظامَ، ولا كانت حميةً لأطفال دوما وشهداء الكيمياوي)، وكثفت روسيا سعيها لجمع الأدلة والقرائن، لنفي استخدام النظام للكيمياوي، وأحضرت أطباء ومسعفين من دوما؛ ما أثار عاصفة من الجدل على صفحات التواصل الاجتماعي، بين من يدين الأطباء، ومن يبرر ويتعاطف معهم، وترفض تخوينهم (قبل أن تكتمل لدي الصورة برمتها).

أما اليوم، بعد أن تمّ سوق هؤلاء الأطباء والمسعفين إلى (لاهاي) للشهادة، وغدًا ربما إلى مجلس الأمن؛ فقد اتضحت الصورة كاملة، وبتحليل لمجريات الأحداث مع شهادات لبعض الأهالي في دوما؛ يتضح جليًا أن النظام وروسيا، لإدراكهم قيمة ورمزية الغوطة في الثورة السورية، قرروا هذه النهاية الوحشية المفرطة، مع علمهم بتخاذل المجتمع الدولي، وقبوله ضمنًا بما يجري على الأرض، بموجب تفاهمات تمّت بين جميع الأطراف، ولكن هذا وحده لم يكن ليرضي النظام وحلفاءه؛ فقد أراد النظام من ضربة الكيمياوي (وهو المنتصر من دونها) -بعد أن أعدّ وجهّز لها السيناريو كاملًا- أن تكون رصاصةَ الرحمة على مصداقية الثورة والإعلام الثوري، وأن تكون إعادة تسويق له.

أراد نظام الأسد أن يستثمر ما حدث في دوما، كدعاية ورسالة إلى شعوب العالم، لتغيير نظرتهم إليه، ولشيطنة من يدّعون أنهم منظمات مدنية كـ “الخوذ البيضاء” (وهو ما سعى له مرارًا، وذلك عبر ربطها بـ “النصرة”، ولا سيما بعد حصولها على جوائز عالمية)، مستغلًا تغيّر مزاج الشارع الغربي الذي بات مستاءً من أن ضرائبه تدفع في سورية لجهات إرهابية، لذا رأينا سعار روسيا لجمع الأدلة والشهود، وتأخير دخول اللجنة الدولية قرابة 20 يومًا، بذريعة وجود إطلاق نار، طبعًا لتنظيف وإزالة الآثار (علمًا أن كثيرًا من أهل دوما دخلوها بصحبة بعض المتنفذين، فيما عجزت اللجنة عن الدخول!) وقد تمّ ترتيب السيناريو وتحضيره مسبقًا مع الأطباء، عبر طبيب وسيط، بعد أن استشعر هؤلاء قرب غرق السفينة، وأرادوا الحفاظ على مكتسباتهم، وقد تمّ إعطاؤهم ضمانات ووعودًا وأعطيات، لقاء الإدلاء بشهادتهم في مسرحية قذرة، أريد منها تزييف الحقائق وتزويرها، والتشكيك في تاريخ ثورة بأكملها، لا بحق ضحايا الكيمياوي وحدهم، علمًا أن معظم هؤلاء الأطباء كان محسوبًا ومقربًا من الفصيل الحاكم في الغوطة.

على صعيد آخر، غابت مؤسسات المعارضة عن المشهد، إبّان قصف الغوطة وتهجير أهلها، وفي مجزرة الكيمياوي، فبدلًا من أن تتواصل مع الخارجين من دوما، وتبحث عن شهود لمجزرة الكيمياوي، وتجهز القرائن والأدلة؛ باتت منشغلة في تغيير أدوار مستحاثاتها واستقالاتهم، وكأن أحدًا يقيم لهم وزنًا أو قيمة! وبذلك ساهمت أيضًا مع النظام في طمس الحقيقة وتزييف الصورة.

وفق ذلك كله؛ استطاع النظام ضرب الحلم والثورة ضربة قاسية، عند غالبية السوريين، حيث حقق نصرًا مضاعفًا على الغوطة والثورة معًا، وأثار موجة إحباط لدى غالبية جمهور الثورة، لا بل ذهب البعض إلى تبني رواية النظام، بعدم وجود كيمياوي أو التشكيك في إعلام الثورة، نصرة للأطباء “شهود الزور”، وهذا أكثر مما يريده النظام بين جمهور الثورة، فكيف الحال لدى شعوب العالم.

أصبحنا اليوم، ولسان حال الكثيرين أن الثورة كانت أكذوبة ومؤامرة وعصابات مسلحة، وأن إعلامها المفبرك يستجدي قوى دولية لضرب سورية، وبشهادة شهود من أهلها، وليسجل التاريخ أن أطباء دوما باعوا شهداءها والثورة، وقدموا أوراق اعتماد القاتل للمجتمع الدولي على أنه ضحية.


عبد الناصر كحلوس


المصدر
جيرون