مآلات الفرز الجغرافي عسكريًا، وانعكاسه على مستقبل الحل السياسي



بعد الانتهاء من الغوطة الشرقية وجنوب دمشق؛ يأتي الدور على ريف حمص الشمالي، فقد أمهل النظام السوري -وفق وسائل إعلامه- “التنظيمات الإرهابية” في ريف حمص الشمالي، 48 إلى 72 ساعة، للاتفاق فيما بينها، للاستسلام والخروج إلى إدلب وجرابلس، كمهلة أخيرة قبل البدء بالعملية العسكرية.

لا يكاد يختلف اثنان على أن المعارك الأخيرة تأخذ طابع “المسرحية”؛ حيث يتم تسليم المناطق من دون قتال حقيقي، عقب حدوث انهيارات سريعة غير مبررة عسكريًا، في صفوف المعارضة السورية، وما حديث النظام عن “انتصارات” إلا أوهام تدغدغ عقول السذج من مناصريه؛ ذلك أن القوى الإقليمية والدولية تريد إعادة تشكيل المشهد العسكري على الأرض، تمهيدًا لأمرٍ ما، بحيث تنحصر اللعبة بين الروس والأتراك والأميركيين. ولن يُسمح لأي فصيل -سواء أكان توجهه وطنيًا أم إسلاميًا أم متطرفًا- بالخروج من الدائرة التي ترسمها هذه القوى، ومن هنا؛ نتوقع خضوع (حركة تحرير الشام) لمطالب تركيا أو الدخول في حرب معها، فلم يعُد مسموحًا بوجود قوة ثالثة.

لسنا هنا في صدد إثبات صدق هذا المخطط الواضح -فيما نرى- إنما في صدد مآلات هذا المخطط، وانعكاسه على المستقبل السوري، ولا سيما أن سنوات الحرب العجاف جعلت السوريين (موالاة ومعارضة) مسلوبي الإرادة، أمام إرادة الدول الإقليمية والدولية؛ إذ يجري العمل -فعليًا- على تقسيم سورية إلى ثلاث مناطق:
الأولى منطقة تحت النفوذ الروسي، وهي الواقعة تحت سيطرة النظام، وتمتد من دمشق جنوبًا إلى حلب المدينة شمالًا، أي “سورية المفيدة”، وفق مصطلح رأس النظام، وتندرج تهديدات النظام لريف حمص والمعارك القادمة في تحقيق هذا الهدف.

المنطقة الثانية تحت النفوذ التركي، وتسيطر عليها المعارضة السورية المسلحة، وتشمل معظم الريف الحلبي، ولا سيما الشمالي والغربي ومحافظة إدلب، وتجد تركيا فيها معضلة (هيئة تحرير الشام/ النصرة)، حيث أُوكلت إلى تركيا -بموجب اتفاقات أستانا- مهمة تصفيتها، ودّيًا أو عسكريًا، وتساعد عمليات تهجير الفصائل الثورية تركيا في ترجيح كفة الثوار، على حساب “تحرير الشام” التي ستجد نفسها مضطرة إلى حل نفسها، والذوبان -كأفراد- في الفصائل، أو الدخول في صراع دامٍ، سيكون الجميع فيه خاسرًا باستثناء النظام.

أما المنطقة الثالثة فهي تحت النفوذ الأميركي، وتسيطر عليها (قوات سورية الديمقراطية/ قسد) التي يمسك حزب PYD بمفاصل القرار فيها، وهي تمتد من منبج في ريف حلب الشرقي إلى أقصى الشمال الشرقي (القامشلي)، ومن ضمن ذلك الجزيرة السورية التي تضم أجزاءً واسعة من دير الزور، وتواجه هذه المنطقة معضلة رفض المكون العربي هيمنة “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكردي، على مفاصل الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وتعمل الولايات المتحدة هنا على تعزيز دور العنصر العربي، لضمان الاستقرار ومنع قيام اضطرابات، وتتولى الولايات المتحدة هنا -كما تركيا في إدلب- مهمة القضاء على (داعش)، وقد أوضح وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس ذلك قائلًا: القوات الأميركية هي في سورية فقط لهزيمة (داعش). وتُعد منطقة الجنوب السوري منطقة باردة حاليًا؛ إرضاء من القوى الدولية لـ (إسرائيل)، ويتوقع أن تبقى باردة حتى انتهاء “الطبخة”.

إن الحل السياسي، أيًا كان، سينطلق من عمليات الفرز الحالية؛ ذلك أن ما يحصل من اتفاقات على طاولة المفاوضات هو انعكاس لما يُرسَم على الأرض، وفي هذا الإطار، يُفهَم تصريح ماتيس: لا نريد ببساطة أن ننسحب من سورية، قبل أن ينجح الدبلوماسيون في تحقيق السلام.

إن دور الأسد في السلام الذي يقصده ماتيس سيكون ثانويًا، وفي الغالب سيكون مرحليًا، فهذه القوى ستشكل سورية مختلفة عن تلك التي كانت قبل 2011، من ناحية النظام السياسي والتقسيمات الإدارية؛ فسورية الاتحادية ستعتمد على فكرة الأقاليم، حيث يكون لكل إقليم برلمانه وحكومته وميزانيته وقوته الأمنية، بما يشبه إلى حد بعيد إقليم كردستان العراق، على أن تتبع جميعها حكومة مركزية، ليس لها تلك السلطة التي لحكومة العراق على إقليم كردستان، وهذا ما سيؤدي -فعليًا- إلى انتقال سياسي لا مكان فيه للأسد.

ينبغي على السوريين -في هذه المرحلة- صوغ دستور محكم، يمنع أن تكون هذه الأقاليم نواةً لتقسيم سورية من جهة، ويمنع نشوء حكومات ديكتاتورية داخل هذه الأقاليم شبيهة بدكتاتورية الأسد من جهة ثانية. قد يُعدّ سيناريو “الأقاليم” المخرجَ السياسي الوحيد للأزمة السورية في ظل المعطيات الحالية، ولا نجانب الصواب إذا قلنا إنه المخرج المقبول أيضًا، بالنسبة إلى الدول الإقليمية والدولية، من المستنقع السوري، باستثناء إيران التي ستجد نفسها الخاسر الأكبر؛ إذ إنها وضعت بيضها في سلة الروسي، ولكنها لن تستطيع فعل شيء إلا تقبل الخسارة؛ إذ جردها الروس من عناصر القوة، ناهيك عن انعدام الحاضنة الشعبية، ونزعم هنا أن القصف الصاروخي مؤخرًا على مواقع عسكرية في ريف حماة وحلب، وقبله في منطقة عزان وغيرها، تمّ بمباركة روسية.

لا يتطلب ما سبق وجود روسي أميركي لهذا السيناريو، غير أن التطورات الميدانية، واستبعاد المواجهة العسكرية بينهما، تقودنا إلى هذا السيناريو.


جلال زين الدين


المصدر
جيرون