دبلوماسية راعي البقر



منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ما فتئ الكتّاب السياسيون العرب عامة واليساريون منهم خاصة، يتناولون السياسة الخارجية الأميركية، بدرجات متفاوتة من الخفة والتسرّع بالاستنتاجات التي تعتريها نسبة عالية من الجهل بآليات صنع القرار في الإدارة الأميركية؛ فالولايات المتحدة تمارس سياسة “راعي البقر” الذي تعرفوا إليه في أفلام “الويسترن”، والسياسة الخارجية الأميركية تمليها مجموعات ضغط تتمحور حول السلاح والنفط، ما يدفعها إلى تأييد ذاك ومعاداة الآخر.. كما تُزيّن كلّ تلك الكتابات باستخلاصات متسرّعة وتبسيطية، تنحصر في تحميل “راعي البقر، العم سام” كلّ الموبقات مُعَزّزةً بتعابير جماهيرية تحشد من لا يقرأ، أو هو مُقلّ في القراءة، كالإمبريالية الغاشمة، الأميركية حصرًا، والتي لها قرصٌ في كل عرسٍ.

كل ما تقدّم ربما يكون جزءًا من عوامل متعددة ومتشابكة وحقيقية، فلا يمكن رميه في سلة القمامة حتمًا، وخصوصًا من قبل المهتمين الموضوعيين، ولكن كان حصر السياسة الأميركية به، مشكلة تكوينية في التحليل السياسي. وخصوصًا في مراحل سابقة على الإدارة الحالية؛ حيث غيّر الرئيس الأميركي، التويتري النزعة، كثيرًا من مفاهيم التحليل العلمي للسياسة الأميركية التي كانت ترفض التبسيط، وتُشير إلى مراكز صنع قرار متعددة ومسارات مُعقّدة له. وقد صار من الممكن اليوم الحديث فعلًا عن دبلوماسية رعاة البقر حاملي مسدسات سريعة القذف.

في الأشهر القليلة الماضية، قامت “الدبلوماسية” الأميركية بإظهار تحدٍ شرسٍ لقوتين إقليميتين، تمارسان الاستنزاف المعنوي والنفسي لقوى الغرب وعلى رأسها أميركا: كوريا الشمالية وإيران. وتفاقمت اللغة الدبلوماسية التي استخدمتها دوائر سياسية متعددة للوصول إلى أبعد من لهجة التهديد والوعيد، لتُحاكي لغة سوقية يتناولها صبية الشوارع الخلفية، وخصوصًا في الإشارة إلى كوريا الشمالية والتي بدورها جارَت البيت الأبيض في المستوى. وتصاعدت التهديدات على مختلف المستويات العسكرية والاقتصادية والسياسية، إلى أن بدا واضحًا أن هذا العنف اللفظي يُخفي جهودًا سياسية موازية تنشط في الكواليس؛ فتبيّن أن وزير الخارجية الأميركي الحالي، زار السفاح الكوري الشمالي قبل وصوله إلى الخارجية، حيث كان مديرًا للاستخبارات الأميركية. ولنصل في غفلةٍ من المراقبين إلى حلٍ شاملٍ وسحريٍ لمشكلة السلاح النووي الكوري المصنوع والجاهز للاستعمال، في ظل حكم وحشي أفقر شعبه ودمّر تاريخه وحوّل ناسه إلى شبه عبيد.

لقد نجح الأميركيون إذًا، باللجوء إلى استخدام لغة القوة والتهديد بالويل والثبور، في التوصّل إلى ثني إحدى أعتى فاشيات القرن الواحد والعشرين عن مآربها “العدوانية” المغلّفة برغبات حمائية تجاه الغرب. ونجحت الصين في دفع جميع الفرقاء إلى تجنب كارثةٍ، كانت ستطيح الأخضر واليابس في شبه الجزيرة الكورية على الأقل. وتَعِد أسواق البلد المحروم شركات الغرب، بعدما سيتم رفع العقوبات، بمناجم لا تنضب من المنافع خلال السنوات القليلة القادمة.

وبعد لقاء القمة الذي جمع الزعيمين الكوريين الشمالي والجنوبي، ستشهد الأيام القادمة لقاءً تاريخيًا بامتياز يجتمع فيه الرئيس الأميركي مع الرئيس الكوري الشمالي، لاستكمال إجراءات الاستسلام الإيجابي لكوريا أمام الإرادة الأميركية. ولقد استبق الكوريون الشماليون لقاءَ القمة هذا بعرض تنازلات جديدة، تتعلق بتسليم الأسلحة النووية التي يملكونها إضافة إلى عرض نزع سلاح شامل في المنطقة.

التراجع الكوري الشمالي مرتبط بعاملين أساسيين: الجدية في اللغة التهديدية الأميركية من جهة، والحال الكارثي للاقتصاد المحلي، إضافة إلى سعي الرئيس الكوري الشمالي للبقاء متحكّمًا في العباد حتى الأبد، كسواه من “قادة” العالم الثالث عمومًا. وبالتالي، مهما كان الثمن لأجل ذلك مرتفعًا، من حيوات شعبه أو من تنازلاتٍ أمام القوى الخارجي؛ فلا مانع.

إثر هذا التراجع، تميل بعض الدوائر الأميركية، وتشاركها في هذا دبلوماسيات تابعة في المنطقة العربية، إلى الظن أن الأسلوب ذاته سيؤتي أُكله مع إيران. وفي هذا جهل عميق بطبيعة النظام السياسي في طهران، وجهل أعمق بالتركيبة الاجتماعية والسياسية لإيران، وبطبيعة دبلوماسيتها وقدرتها على الالتفاف طويلًا كثعبانٍ متمرّس في أدغال الدبلوماسية المهيمنة في العالم. كما أن هذا الظن يُغفل حقيقةً صارخة هي أن لإيران أذرعًا تهديدية واستنزافية تجول في محيطها، وهي قادرة على تخفيف الضغط الخارجي باجتراح بؤر أزمات وحروب متنقلة، تستند وهمًا إلى أجندة دينية، ولكنها حقيقة ليست إلا وسائل متنكرة تخدم في نهاية المطاف مصالح البلاد وقادتها.

دبلوماسية راعي البقر تستنزف فرص الحلول السياسية سعيًا وراء الصدامات، وفي ذهنها مصالح اقتصادية مباشرة ومحددة، إضافة إلى أمن “إسرائيل” المُقدّس الذي يُملي وسيُملي عليها كل تقدم تحرزه أو تراجع تحققه. إذًا، صار من السهل اليوم النظر بتبسيطٍ مُضخّم إلى آلية صنع القرار الخارجي، ما دام دونالد ترامب يستطيع أن يُهين ضيوفه بإشهار ما قام بسرقته منهم، ليأتي في يومٍ لاحق متهمًا أصحاب المال الذي يُغدق على اقتصاده بأنهم مكلفون لخزينته.

لقد أثبتت التجارب أن تاجر السجاد الإيراني أكثر حنكة من راعي البقر الأميركي، حتى عندما كانت سياسة أميركا الخارجية تُدار بشكل عقلاني: فقد سلّمت أميركا بنفوذ طهران في بغداد، كما أنها تساهلت مع تمددها في دمشق في عهد “العاقل” أوباما. وهي اليوم أبعد ما تكون عن العقلانية، وبالتالي؛ فإن طهران ستخرج منتصرة، إن اعتبرت واشنطن أن طهران هي صنوٌ لبيونغ يانغ.


سلام الكواكبي


المصدر
جيرون