متى سيقدم ترامب جزرته لـ “الحيوان”؟



من المؤكد أن مافيا السلطة في سورية تعلم علم اليقين، أن لا استقرار لها ولا بقاء، في المدى المنظور والمتوسط، إذا لم تتمتع بمظلة واشنطن، إلى جانب مظلة موسكو. ولا بد أن مستشاري بشار، من بقايا الحرس القديم، قد أفادوه بأن نجاح الدكتاتور الأب في القفز إلى السلطة في 1970، والحفاظ عليها منذ ذلك الوقت المشؤوم، ما كان ليتم؛ لولا توفر المظلة الأميركية له يوم انقلابه على “رفاقه”. بخصوص ذلك، تحضرني فكرة، نقَلها بعض القياديين في الحزب والجيش من معارضي حافظ الأسد، على لسان صلاح جديد، حين همس في أذنه عددٌ من الضباط الكبار المناهضين لحافظ الأسد، يوم الانقلاب، أن باستطاعتهم تدمير كل القوات التابعة لحافظ الأسد بالصواريخ والمدفعية، وإفشال انقلابه، فكان رد الجنرال صلاح جديد لرفاقه: (لا فائدة من ذلك فموسكو وواشنطن يؤيدان قدومه). وأعتقد أن الدكتاتور الأب، خلال إعداده للوريث “البدل عن الوريث القتيل”، لا بدّ أنه حرص على تلقينه الكثير من الدروس، وأهمها أن يبقي على العلاقة الودية مع واشنطن، بل الأكثر من ودية.

في زمن الثورة السورية 2011، لم تكن واشنطن، كما “يزعبر” الممانعون المقاومون، أو كما توهّم العدد الأكبر من المعارضين، تهتم بنجاح الثورة والإطاحة بسلطة بشار. ولولا دخول إيران إلى سورية، تحت راية الدفاع عن “النظام الممانع والمقاوم”؛ لما ظهرت تصريحات أميركية تنتقد الأسد، وتلوح له أحيانًا بالتهديد برحيله، وتشيع أنها تؤيد الديمقراطية في سورية، وتتبجح بتأييد الحرية التي ينشدها الشعب السوري. وكانت تجربة الكيمياوي في عهد أوباما دليلًا على محدودية التعارض مع سلطة بشار. وفي عهد ترامب تتركز المواقف الأميركية على ما يسمى “هزيمة داعش”، مع لاحقة متكررة تنص على أن (ليس وجودنا في سورية من أجل مواجهة “النظام”). غير أن التأكيد الأميركي المتواصل على رفض المشروع الإيراني في شرق المتوسط، وضرورة إنهائه، تأكيد لا يفارق مسامع الفئة الضيقة في السلطة، ولا بد أن يراود رجالاتها البحث عن مترتبات تحجيم دور إيران، التي لولا ميليشياتها وأسلحتها وأموالها، لتقهقرت سلطتهم منذ وقت مبكر، وربما تهاوت نهائيًا. ولكن مع النجاحات الوحشية ضد الثورة في مناطق واسعة من سورية، يفترض أن عددًا من جماعة بشار تراوده فكرة تحسين العلاقة مع الإدارة الأميركية، وينتظر منها رسائل واضحة، سرية أو علنية. وعندئذ يتم البحث عن تغيير العلاقة مع طهران، والاستعداد لتداعيات ذلك التغيير على مرتكزات قوة السلطة.

على الرغم من تحالف روسيا القوي مع طهران، في الأزمة السورية تحديدًا، فلطالما أعلن صانعو سياسة موسكو أنّ ما يطلبونه من واشنطن، في معالجة الوضع السوري، هو المساهمة في تقديم العون السياسي والدبلوماسي لخطواتهم في صياغة الحلول على مبدأ: “بقاء النظام”، وهو ما تنطوي عليه بنود ومقترحات آستانا. أي أن نقطة اللقاء المقبولة للروس هي إقرار أميركي واضح بقبول إدارة ترامب استمرار السلطة القائمة، ولا يعني شيئًا قول موسكو إن روسيا لا تتمسك بشخص “الرئيس”؛ ذلك أن بنية سلطة المافيا تشبه تصميم بناء القبب الذي ينهار سقفه بسقوط أو إزاحة “حجر الغلق”، وبشار هو حجر الغلق في تركيب المافيا الحاكمة. ويستفاد من ذلك أن روسيا على استعداد لتغيير في الاتجاه، نحو وجود إيران في سورية، إن ضمنت الاتفاق مع الإدارة الأميركية على استمرار السلطة، لأن “شرعية” وجودها ومصالحها تمت باتفاق معها، تلك السلطة التي على رأسها بشار.

كما أن منع تفاقم العلاقة مع تل أبيب، والعودة بها إلى الاستقرار الودي والإيجابي، هو بالنسبة إلى بوتين قضية حيوية، وطهران هي مصدر التأزيم للتفاهمات الروسية – الإسرائيلية، ومفاده أن الإشكالية بين موسكو وكل من واشنطن وتل أبيب، المتصلة بالشأن السوري، هي إيرانية أولًا وأخيرًا. ويبدو أن موسكو قد انكفأت عن انتقاد تل أبيب في ردّات فعلها على الغارات الإسرائيلية ضد المواقع الإيرانية أو التابعة لها، منذ أزمة سقوط الطائرة الإسرائيلية اليتيمة في شباط الماضي، ويلتزم دبلوماسيوها وعسكريوها الصمت عند قيام “إسرائيل” بضرباتها، كما هو حاصل منذ الغارة على الـ T4، حتى القصف الأخير على قواعد إيرانية في حلب وحماة.

وعلى ذلك؛ فإن إلقاء إدارة ترامب جزرتَها لمن وصفته بـ “الحيوان”، والتأكيد على قبولها ببقائه، عندما يثبت أنه سيعمل على وضع حد للدور الإيراني في الوضع السوري، هو تحصيل حاصل. وما يلوح في أفق السياسة الأميركية، خاصة بعد التغييرات الأخيرة في الأمن القومي والخارجية، مركزية التصدي لأنشطة طهران الجيوبولوتيكية والنووية، يشير إلى ذلك. فهل يكفي قبول ترامب ببقائه، وقبوله هو بالتخلي بقدر كبير عن “جميل” طهران معه، لتمضي الأمور في سورية نحو استقرار لسلطة الأسد تحت المظلتين الأميركية والروسية في آن؟

لا شك أن إيران وأدواتها في سورية، وهي أدوات لا تقتصر على الميليشيات الشيعية والحرس الثوري والقواعد العسكرية، هي ذات نفوذ قوي داخل أجهزة السلطة، ولن تتردد في تفجير الصراع ضد كل المواقع غير الموالية لها داخل بنية السلطة السورية، وستسعى للانقلاب عليهم، حتى إن كان بشار على رأسهم، وستسعى لمنعه من التقاط الجزرة، في محاولة، ربما يائسة، لاحتواء محاولات دحرها في سورية. ويترتب على هذا السلوك الإيراني، إن حصل، زيادة الكارثة السورية تجذرًا واتساعًا وتعقيدًا.

تبقى ملاحظة أخيرة هنا، فالجزرة التي يقدمها ترامب لـ “الحيوان”، لا ضيرَ أميركيًا من فشله في التقاطها، وسيكون الهدف من تلك الجزرة منجزًا أيضًا، إن قامت طهران بتفجير أزمة جديدة ونوعية بوجه مراكز السلطة المافيوية، وبين أطراف “التحالف الممانع للمؤامرة الإمبريالية”، ولن تربح طهران، ولو خسر بشار الجزرة الأميركية، لأسباب مختلفة.


مصطفى الولي


المصدر
جيرون