أبـو شــنب



الآن، غائب الآن.

لكن فرار علبة السردين، من سفل الخُرج المهترئ، سيطلق معركة شديدة الواقعية في قادم الأيام.

عارٍ إلا من عباءته الموصوفة، الموروثة كابر عن كابر، التي قطرت أذيالها كل حصيد الريح من شوك وبلان وشيح، فواكبت مسيره المتأرجح غيمة صفراء ضخمة هشّة وزنها صفر.

يحمل رمحه، هديّة ذي القرنين إلى جده الأول من الوسط، أفقيًا متوازيًا مع مثواه الأخير، بعد أن قضمت أفواه الصخور الناتئة، وأنياب وحوش الليل الجسورة، طرف قناته فشوهتها.

مترنحًا يجهد للحفاظ على توازنه فوق مطيّته المرهقة التي خطّ رسنها المتروك على الغارب أثرًا طويلًا متعرجًا، شَطَرَ خواءه إلى نصفين. فأفضى إلى بحر سديم كتيم، بلا معالم أو ملامح أو زمن.

رقعة السواد الوحيدة التي رافقته طيلة حياته، الوحيدة التي لم يطأها الضوء، ظله القمريّ، نديم ليله، تمرد عليه، ضلّ عن كتلته، شاكس حركات جسده، فراح يطبخ القهوة بمعزل عنه.

هسهسات حبات البنّ اليمَني المُر، المتقلبة على جمر الصفيح، تتناقل تفاصيل بطولات عشيرته، سيرة عائلته، مكارم أخلاق أجداده، بطولات أبيه.

عبق حَبّ الهال النضر، سافر يروي للبشرية المآثر التاريخية لبني جلدته، إن كان في الحرب أو زمن السِلم.

والآن، غائب حتى الآن.

ترفّعه عن اختلاس النظر نحو ظله المتمرد، عمّق صورة الحدث في فضاء رأسه، وزاد من شعوره العميق بالفخر والرفعة والندرة، شحذه المشهد بطاقة عظيمة مكّنته، من تعديل قامته فوق المركوب، ورفع يده اليسرى حتى منتصف وجهه، وعقف سبابة يده كإشارة الاستفهام، ثم مسّد شنبه باتجاهين متعاكسين، ببطء نظر إلى القمر المتواطئ مع ظله عليه، وابتسم بتواضع ماكر وكأنه يقول: “أسمعت؟!”.

انحراف مسيره تماشى مع غابة بازلت حاذته بنهوضها المفاجئ، فاصطفّت صخورها على نسق كحسناوات فارعات في حفل عرس، كشطن ضوء القمر على مهل، فبدأ ظله بالانسحاب، وصار في مواجهة مباشرة مع ريح مثابرة ذهبت برؤاه، وأتت بتجلياته.

والآن، ليس موجودًا الآن.

قشرت الريح العباءة عن جسده بعنف، فردتها خلفه على متن الفراغ كبساط السندباد، ثم انحسرت لتعلق في رقبته مثل خِرقة تشبثت بشاهدة قبر، دفعة واحدة انكشف عريّه كاملًا للحسناوات الخافرات اللاتي أخذن يتغامزن عليه بغنج ودلال، ما لبثن أن تحولن إلى راغبات شبقات مهجورات يزحفن نحوه على بطونهن، ينظرن إليه بنهم بَجَسَ ينابيع الرغبة فيهنّ فخرّ ماء شهواتهن كالجداول.

بداية، صعقته نوبة من الخجل الشديد تمركزت أسفل بطنه، سرت سريعًا إلى عضوه الذكري، فانسحب واختبأ كرأس غيلم داهمه الخطر، ثم عاجله خوف لم يختبره من قبل تكمّش في مفصليّ ركبتيه. لكن خَبّ المطيّة الهادئ المنتظم، نجوم الليل اللامعة، وصوت غناء صرصار البرية الرتيب، أيقظ وحشه المدفون في محبس الخطيئة الأولى، بين جدران العيب، وتحت ركام الحرام، وثقل انعدام الثقة بالنفس، نهض وحشه ثائرًا مُستثارًا كالمارد المقهور.

بين الرمحين الثائرين الحارثين المتوازيين مع السرير، اختلط القتل بالخِصب بالموت بالنشوة.

والآن، مختفٍ إلى الآن.

صقيع ضوء الفجر لفح قروح جسده، فأيقظه الألم، ثم عاد فغلبه النعاس، لمّا أطلت الشمس عليه برفق؛ أحيت ظله من جديد، مطّته وطاولته خلفه حتى لطمت رأسه بجرف مرتفع ترامت صخوره في الأفق البعيد فشجّته. استيقظ منتفضًا ناظرًا مباشرة إلى الشمس، ثم خطف نظره سريعًا نحو الحسناوات القتيلات اللات بدأت تحوم فوقهن النسور، نَهَزَ مطيته بكبرياء، ورمق الشمس ثانية، مبتسمًا ذات ابتسامته المتواضعة الماكرة، كأنه يقول: “شفتي؟!”.

عندما بدأت المطية تتلوى تحته، ولهاثها يكنس غبار دربها الذي طال، وأصبحت تنقل خطاها بصعوبة، وتتعثر حتى بالحصاة الصغيرة، كانت الشمس في قبّة السماء، تصبّ جام نارها فوقهما.

توقف، ثم ترجّل عن ظهرها، غرز رمحه هدية الإسكندر الأكبر إلى جده في التراب، وخلع عباءته الموصوفة، علّقها على قناة الرمح، تمطّى، قام بدورتين حول المطيّة، ثم تقدم منها ودسّ يده في عين الخُرج اليمنى، جالت يده داخلها قليلًا لكنها خرجت فارغة، استدار نحو عين الخُرج اليسرى برويّة، دسّ يده فيها بثقة العارف، بدأت يده تحوّم باحثة داخله ببطء، لكنها راحت تتسارع حركتها شيئًا فشيئًا مع جحوظ واضح غزا عينيه، أصبح بحثه سريعًا موتورًا عنيفًا متخبطًا.

استلّ يده من عين الخُرج ببطء وذهول.

توًا حضر الآن بكل ثقله وبأسه، هبط عليه فجأة كالجلمود الأعمى، باغته السؤال الحقود فاخترق صدغيه: أين علبة السردين؟! وتوًا بدأ معركة أخرى شديدة الواقعية والحقيقة هذه المرّة. أين علبة السردين؟!

زاد من حضور الآن وعسفه، كفّ ثقيلة هبطت واستقرت على جذر رقبته، رجّت دماغه بعنف.

أبو نصار: “ليش تارك المعزا هيك داشرة ع كروم الناس ولاه؟! أبتخفش من الله ذابحو للجحش من التعب ع بيمصي عرق مصي، مثل اللي زاتو ببركة مي! مش خطي؟! مهو روح مثلك يا بغل. جيب عصايتك وغطا راسك، فز لمّ المعزا والحقني، حزير شو؟ اليوم بدي أحكيلك عن حملة سامي باشا ع الجبل، وكيف جدك الله يرحمو خزّق العصمليي تخزيق وقتها، جدك كان وحش يا زلمي لمين طالع خِسع انت؟ ربوط الجحش بالفي وتعال قعود”.

ـ “طيب عم بو نصّار، بس شفتلي شي علبة سردين واقعة عالطريق وانت جاي؟!  بو شنب”.


جهاد عبيد


المصدر
جيرون