التدخل الروسي والقدرات الذاتية للسوريين



لم يحُل الدعم الروسي سياسيًا وعسكريًا في بدايات الثورة السورية، وبدايات الصراع العسكري، دون تكبد النظام السوري هزائم كبيرة، أدت لاحقًا إلى صراع عسكري ثابت رغم الحركة، أي استعصاء عسكري. وذلك في المرحلة الممتدة منذ العام 2012 حتى العام 2016 تقريبًا، التي زخمت بالصراعات العسكرية والهجمات المتبادلة بين النظام والميليشيات الطائفية الحليفة له من جهة، وبين مختلف القوى المسلحة المعارضة من جهة أخرى، دون حدوث تبدلات جوهرية ومتواصلة، في سيطرة أي من الطرفين على مواقع جغرافية جديدة، وكأننا أمام حالة من الجمود والثبات، بالرغم من تعدد الجبهات المشتعلة، وتعدد مظاهر الحرب والصراع العسكري. حيث عبّرت عن مرحلة لا غالب ولا مغلوب، وعن عجز الطرفين عن إلحاق هزيمة واضحة المعالم ونهائية بالطرف الآخر.

بينما توحي الأخبار والأحداث الراهنة بقرب حسم الصراع العسكري لصالح حلف النظام، أو حسم غالبيته على الأقل، مع العلم أن الثقل والتأثير الأكبر لهذا الحسم، يُعزى للتدخل العسكري الروسي، القائم على عقود احتلال روسيا لسورية، وعقود تمتع الروس بالثروات والاستثمارات السورية الرئيسية. وكأن النجاح الروسي، في احتلال سورية دون أي تكلفة تذكر، يمثل السبب الوحيد والرئيس لهذا الحسم، وهو ما يهمل مسببات الحسم الحقيقية، وانعكاساته المستقبلية السياسية والميدانية، التي تتطلب استعادة مسار الصراع العسكري من أجل إيضاحها.

فمن ناحية، أثبت التدخل العسكري الروسي الواضح في سورية عجز النظام، وحلفائه الإقليميين من الإيرانيين ومن الميليشيات الطائفية العراقية واللبنانية، عن إلحاق هزيمة نهائية بأي من القوى المسلحة التي يحاربها وحدهم، على الرغم من التفوق التقني واللوجستي الهائل لصالحهم؛ ما دفعهم إلى الاستنجاد بالروس، الذين لم يفوتوا الفرصة واندفعوا نحو تحالف عسكري ينشد إنهاء الاستعصاء العسكري بأي ثمن، ولو كان حرق الأرض السورية وارتكاب أفظع المجازر بحق المدنيين. لكن ونظرًا إلى تفشي حالة الفوضى والتهلهل والإرهاق داخل صفوف مقاتلي النظام من السوريين والمرتزقة الخارجية الملحقة بالنظام، فقد عانى الروس في العام الأول من تدخلهم العسكري كثيرًا، وهو ما كان يشير إلى استمرار حالة الاستعصاء العسكرية، وإن مالت الكفة قليلًا لصالح تحالف النظام.

وعلى ذلك؛ فقد واجه الروس الحقيقة السورية المرّة بالنسبة إليهم، التي تعبّر عن انتهاء صلاحية نظام الأسد، سياسيًا وأمنيًا وعسكريًا واجتماعيًا، لدرجة بات من شبه المستحيل الاتكاء عليه، مهما حاول الروس مده بالسلاح وبالتقنيات، ومهما بلغت شدة عمليات القصف الجوي والبحري. وعليه فقد أيقن الروس حاجتهم إلى عوامل جديدة من أجل الحسم، مثل توسيع حجم تدخلهم العسكري، عبر إرسال قوات برية، تتحمل مسؤولية إنجاز ما عجز النظامان السوري والإيراني عن تحقيقه، وهو ما سوف يعود على الروس بارتفاع تكلفة الاحتلال المادية والبشرية. أو عليهم البحث عن سبيل آخر لحسم المعارك؛ ما دفعهم نحو السعي لكسب ود الدول الإقليمية المعارضة للأسد، والداعمة للمجموعات المسلحة المعارضة. وعندئذ فقط بدأنا نلمس آثار التدخل العسكري الحقيقية على حل الاستعصاء أو إنهائه. لتتسارع الأحداث وتتوالى الانسحابات أو المصالحات والتسويات كما يحلو للنظام تسميتها، حتى باتت الخبر الأكثر تداولًا هذه الأيام.

وقد كشفت غالبية هذه الانسحابات عن امتلاك قوات المعارضة المسلحة لمخزون كبير من الأسلحة الثقيلة والخفيفة، ومن الزاد الطبي والتمويني الكافي لمواجهة النظام وحلفائه، مدة زمنية طويلة نسبيًا، إن توفرت الإرادة والرغبة السياسية. فضلًا عن امتلاك هذه القوى القدرات الكافية لإلحاق الأذى بقوات النظام وحلفائه الطائفيين، في مرحلة ما قبل التدخل الروسي، لو امتلكوا الحد الأدنى من الإرادة في إنهاء حالة الاستعصاء. لكننا، نظرًا إلى تمثيل غالبية هذه القوى لمصالح داعميهم، على حساب مصالح السوريين وثورتهم المغدورة؛ شهدنا استمرار حالة الاستعصاء العسكري لما يقارب خمس سنوات، كما شهدنا الاقتراب من إنهاء هذه الحالة لصالح تحالف النظام، بالصورة والشكل الهزلي الحاصل اليوم، حيث يُتوقع إنهاؤه كاملًا في الفترة القادمة، على ضوء بعض التفاهمات الدولية الروسية من جهة، والأميركية والإسرائيلية من جهة أخرى، والتي سوف تتجاوز أبعادها الملف السوري، وعلى ضوء نتائج الانتخابات التركية المزمع عقدها قريبًا، والتي يأمل أردوغان من خلالها تثبيت سيطرته على جميع مفاصل الدولة التركية، ومن ثم التفرغ لاقتناص مكاسبه من الملف السوري.

وعليه فقد احتاج الروس إلى تفعيل قواهم ونفوذهم السياسي والاقتصادي، بالتوازي مع قدراتهم العسكرية، من أجل الوصول إلى المرحلة الراهنة التي تمثلت في مسارعة روسيا نحو مقاربة رغبات الدول الإقليمية الفاعلة في سورية، من تركيا إلى مصر والأردن والدول الخليجية، بما يحقق مصالح الاحتلال الإسرائيلي، ويتجنب أي مواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية. وعليه فقد بات الحسم العسكري بداية المرحلة التالية الأكثر أهمية، وهي مرحلة استكمال التفاهمات الدولية والإقليمية، وتثبيت نتائجها سوريًا وعالميًا، والتي قد يصعب التكهن بتفاصيلها وحيثياتها الدقيقة، إلا أن تبعاتها السورية سوف تتجاوز واقع الحسم العسكري الراهن، لتعبّر عن مقاربات سياسية تقوض نفوذ وسلطة الأسد السياسية والأمنية، إن لم تنهيها.

وذلك بالاعتماد على خسارة الأسد لشرعيته الشعبية، منذ نجاح الثورة في حشد ألوف السوريين، في كل من ساحات حمص والقامشلي ودير الزور وحماة وغوطة دمشق، واستنادًا إلى تراجع شعبية الأسد داخل حاضنته الشعبية، نتيجة لممارساته وتوجهاته التي أخضعت سورية لقوى رجعية إيرانية، ومافيوية روسية، سوف تتحمل الأجيال القادمة عبء التخلص منها. إضافة إلى انهيار شرعية النظام السوري إقليميًا ودوليًا، والذي بدا جليًا في السياسية الدولية في مرحلة ما بعد الضربة الأميركية الأخيرة على سورية؛ إذ مثلت نهاية مرحلة الحديث عن شخص الرئيس السوري، كجزء رئيس في الحملة العالمية لمكافحة الإرهاب، واستعادة الخطاب الإعلامي والسياسي الذي يركز على إجرام الأسد ووحشيته.

قد يعتبر البعض أن مجرد التفكير في نهاية حكم آل الأسد اليوم ضربًا من الخيال، وفقًا لمجريات المعارك الميدانية، أو بالأصح وفقًا لمجريات المسرحيات الهزلية الميدانية. غير أن التمعن في مجمل الأوضاع السورية والدولية، التي أدت إلى إنهاء حالة الاستعصاء العسكري، تشير إلى هامشية القدرات العسكرية في الحسم، وأولوية التفاهم والتقاسم الدولي والإقليمي لسورية ولبعض القضايا الدولية العالقة؛ ما يقلل من تأثير هذه الانتصارات الوهمية على حظوظ الأسد في البقاء أو الرحيل. كما تجدر الإشارة إلى ثانوية بقاء الأسد أو رحيله على مستقبل سورية القريب والبعيد، نظرًا إلى تعدد قوى الإجرام والاحتلال والاستبداد والرجعية، المسيطرة عليها. وهو ما يعيدنا إلى المربع الثوري الأول، أي لن يجد السوريون نصيرًا لهم سوى أنفسهم، فهل حان الوقت كي نعي حقيقة العالم الدولي، وندرك حجم قدراتنا الذاتية، ونحسن استخدامها، أم أننا مستمرون في الانحدار والتوهان حتى إشعار آخر؟


حيّان جابر


المصدر
جيرون