الثورة المغدورة وسِنيها السبع



تلج الثورة السورية عامَها الثامن، وهي مُدماة بفعل خناجر الثورة المضادة التي لم تقتصر على نظام العسف والفساد وأدواته من شبيحة ونبيحة وحسب، بل شملت كل الخائفين من انتصارها، محليًا وإقليميًا ودوليًا؛ حيث ارتُكبت الفظائع الصادمة والمروعة بحق طلاب الحرية والعدالة والكرامة الذين اقتحموا السماء، منذ الساعات الأولى لانطلاقة ثورتهم العظمى في آذار/ مارس 2011، وما حملته من بشائر للتغيير، محطمين جدران الخوف السميكة بفروسية شهدها العالم، حيث داسوا بنعالهم الطاهرة وجه الطاغية الأب ووريثه الطائش؛ فأفزعت هذه الثورة بشكل خاص (وثورات الربيع العربي عمومًا) حرّاس الطغيان في المنطقة العربية والعالم، ليشكلوا حلفًا غير معلن من أجل وأد ثورة الياسمين الدمشقي، خشية انتصارها وانتشار عبيرها في صحراء الاستبداد العربي الواسعة، وحرصًا على العروش المتهالكة، والمصالح العائدة للتابع والمتبوع وفق نظرية المركز والأطراف، التي كتب عنها ذات يوم المفكر والباحث المصري د. سمير أمين.

لقد انطلقت الثورة السورية ناضجة، من حيث شروطها الموضوعية، وذلك تأثرًا برياح الثورة التونسية التي دشنت المداميك الأولى لربيع عربي واعد بالكثير، بعد أن دفع شعب سورية التكاليف الباهظة لفواتير نظام الفساد والاستبداد طوال عقود، وبخاصة بعد ثمانينيات العقد المنصرم، حين اصطدم نظام الطغيان الأسدي مع الإخوان المسلمين الذين شكلوا توجهًا متطرفًا وغير محسوب آنذاك بعناية، للدخول في صراع مع حُكم جنرال كان “على سروج خيله”، (كما يقال).. جنرال تدور حوله الشبهات، ويجيد بخبث لعبة المكائد والتآمر، ويهجس بخوف مزمن من الآخر، مسكونًا بنزعة أمنية مريضة، بررت له أن يسحق التمرد الإخواني بوحشية، ويضرب كل الطيف السياسي السوري ومكوناته بقبضة أمنية ثقيلة، وذلك بحجة محاربة الإخوان المسلمين؛ ما أدى إلى تصحر الحياة السياسية في سورية، وتغييب الرأي الآخر، بفعل سطوة أمنية بوليسية هوجاء تُحصي أنفاس الناس، واضعة في حساباتها أن كل سوري مشبوه إلى أن يثبت العكس.

من هنا، بدأ أول الخراب لمنظومة القيم الوطنية السورية المتوارَثة، على نحو منهجي، بدأ بتمزيق النسيج الوطني السوري، وفق رؤية طائفية غريبة عن ثقافة السوريين وتقاليدهم الوطنية والتاريخية؛ حيث زج النظام من خلالها برموز جِهَوية كَفِل ولاءها المطلق، متبوأة المراكز المفصلية في المؤسسة العسكرية والأمنية، مع منحها الصلاحيات الواسعة لتخريب الذمم وإفساد الضمائر، وتشكيل تحالف طبقي طفيلي بيروقراطي، مع كافة المنتفعين من رجال صناعة وتجارة ودين. أثبتت الأحداث اللاحقة للثورة متانة هذا التحالف، وعداءه المطلق لكل القوى الراغبة في التغيير الوطني الديمقراطي والانتقال بسورية إلى رحاب دولة القانون والمؤسسات والحداثة والعصرنة والمواطنة الحقة.

لقد أبهرت الثورة السورية وطلائعها المدنية الشجاعة كافة المتابعين لانطلاقتها، بوجهها المشرق والسلمي ذي الخطاب الوطني الجامع والمندغم بالمقدامية والرجولة الاستثنائية، لجيل من شباب لم يهابوا الموت حاملين الورد الدمشقي وممتشقين سلاح السلمية بحناجرهم الصادحة والمعبرة عن أحلام تأخر تَحققها عقودًا وعقودًا… وهذا ما أرعب نظامًا أمنيًا فاشيًا، كان متوثبًا على الدوام لقمع أي حراك متوقع، من أي لون أو طيف، واضعًا في حساباته سلفًا كل الخيارات، ومن ضمنها الذهاب بعيدًا بالتوحش والفظاعات وبحرق البلد وتدميره!! حيث رد على الثورة بإطلاق الرصاص الحي صوب جباه الثوار في الساحات والميادين، وإطلاق شبيحته وجلاوزته للقيام بكل الفظائع، ومنحهم كافة الرخص لارتكاب جرائم موصوفة لا مثيل لها على مرأى من الجميع، ومنقولة عبر الفضاء الكوني للميديا البصرية، لكل المتابعين والمهتمين بشأن الربيع العربي الذي قض مضاجع قوى الهيمنة والتسلط، محليًا وإقليميًا وعالميًا، بعد أن عمل على عسكرتها وأسلمتها لاحقًا بحرفية نظام له الباع الطويل في هذا المجال.

سنين سبع، استخدم النظام كل ما في جعبته من أدوات للقمع والتدمير والتنكيل بحق الثورة وأهلها، محولًا سورية إلى خراب ومسلخ حقيقي، وساحة لتصفية الحسابات لقوى تتصارع على النفوذ والهيمنة، ومفرّطًا بالسيادة الوطنية، من أجل كرسي فقد الشرعية منذ أن سطا الأب عليه غيلة، صباح 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، مدججًا بكل رُخَص الممارسات الفاشية من دول كبرى ومنظمات دولية، أسقطت الثورة ورقةَ التوت عنها.. حيث تحوّل مجلس الأمن إلى مجلس للعدوان والحرب على أطفال سورية ومواطنيها العُزل، والأمم (المتحدة) تواطأت ضمنيًا على ما هو مرسوم لسورية وشعبها، بالترافق مع بروباغندا إعلامية مفضوحة تهاجم أفعال النظام قولًا وتدعمه سرًا، خشية انتصار الربيع السوري، الذي لو قيّض له النجاح؛ فإن كثيرًا من العروش والكروش ستتداعى كأحجار الدومينو، وستزداد أزمة المراكز الإمبريالية تعقيدًا بجانبيها الاقتصادي والاجتماعي، بعد نُذر زلزال الأزمة المالية العالمية التي بدأ عصفها بعقر دار هذه المراكز عام 2008، واعتُبرت الأسوأ من نوعها منذ زمن الكساد الكبير سنة 1929.

أما الموقف غير المعلن لبعض العرب، فكان -عمليًا- يتماهى بالسر مع ما يرتكبه النظام من جرائم وحشية بحق الشعب السوري، وبخاصة موقف بعض دول الخليج التي شكلت رأس رمح مسموم للإطاحة بكافة إنجازات الربيع العربي.

وعلى الصعيد الداخلي السوري، انقسم المجتمع الواحد بل الأسرة الواحدة، بين مؤيد ومعارض لنظام حُكم افتقرت رموزه إلى صفات رجال الدولة، وهذا أمر بدهي، بسبب طبيعة نظام قام على العنف منهجًا وعلى الإثراء فسادًا؛ حيث كانت سورية قبل الثورة تُدَمّر بالمفرق، ثم دُمّرت بالجملة لاحقًا.

إن النظام الذي عمل على عسكرة الثورة وحرفها عن أهدافها المعلنة، ليبرر سحقها بخياره الأمني والعسكري، أوصل سورية وأهلها إلى وضع كارثي قد يفضي إلى تقسيم سورية وتعريضها لخطر وجودي حقيقي، على الرغم من أن الثورة لم تهزم -ولن تُهزم- كونها كامنة في صدور الناس الذين آمنوا بأهدافها، وقدّموا الغالي والرخيص لأجل تحقيقها.


مصطفى الدروبي


المصدر
جيرون