صورة الله في نماذج من المسرح التونسي



ثمة تراجيديا إلهية وجدت اشتغالها، طوال هذه السنوات، في ذلك الانقلاب العظيم الذي حدث ضد الله الإسلامي، إذ صار بطلًا تراجيديًا عليه مواجهة قدره أمام آلهة جديدة، من نوع خاص جدا، أما ماهية هذه الآلهة فأولئك الذين يتكلمون باسمه الآن؛ إذ لم يكفهم الانتساب إليه بقدر ما تمّ سبيه وتوظيفه لصالحهم، فكان أنْ تحول من كائن ميتافيزيقي خارق لا مرئي، إلى مجرد كائن خاضع تحت مقصلة تدير شؤونها قوة أصولية ووحشية، من بشر تم تدريبهم على القتل، فاحتكروه في دكاكينهم الحزبية ومجازرهم الإرهابية، وقوة ثانية أعلنت وقوفها ضد الأولى بأشكال مختلفة وعنيفة، ولم تكن ثمة نتيجة لذلك، إلا محنة هذا الإله بعد أن تمّ تجريده من استقلاليته كلها، والزج به في معارك قطع الأوصال، ونفي أي إمكانية قد تفضي إلى تحويل العالم.

ما دفع بمأساة هذا الإله إلى التعاظم، هو سحب الفعل عليه وتجريده من أي قوة قد تمكنه من الدفاع عن نفسه، كما استحالت عملية وجود قوة ثالثة قد تحرره من مقصلة القتلة وتعيد رتق أوصاله. لقد تسابق الجميع، الأعداء والموالون له، إلى نحره وتقديمه في شكل قربان بائس على ركح الحياة، حتى إن صورته باتت تحمل أكثر من معنى ودلالة: نحن في هذا السياق سنبحث عن معالم تلك الصورة، لا كما قدمتها لنا التنظيمات الإرهابية والحركات الجهادية أو الأجهزة السياسية والأمنية المنتسبة للحداثة، وإنما سنثير التساؤل التالي: كيف تمثل المسرحيون كلمة الله في أعمالهم المسرحية، وهم الذين يحنون الآن إلى روحنة العالم، بعد أن خيمت عليه وحشية التقنية والفراغ الأنطولوجي؟ وإذا أصبح وجوبًا القطع النهائي والشامل مع اللاهوت نظرًا إلى حيف دمويته الآن، فهل سندرك مع هؤلاء ضرورة تحرير الله من أكلته، أم إننا سنكتشف قتلًا مضاعفًا له، نتيجة فشلٍ ذريعٍ في وضع الحد الفاصل بينه وبين أولئك الدمويين؟

حتى لا يبدو تحليلنا مجرد تجديف كلامي أو محض تنظير قائم على التجريد، ونحن نحاول أن نضع إجابات لهذه الأسئلة، سنضع في اعتبارنا بعض الأعمال الفنية التونسية التي تناولت هذه المسألة، ونسعى إلى تفكيكها وتشريحها، من بينها العرض المسرحي (الصابرات) للمخرج حمادي الوهايبي، والعرض الكوريغرافي (ألهاكم التكاثر) لصاحبه نجيب خلف الله، والمونودراما التي قدمتها ليلى طوبال تحت عنوان (حورية)، على أن نتبيّن فيما بعد صورة ذلك الإله الممدد على حديد المقصلة.

كشف العمل الأول عن محنة مومسات هاربات من جحيم السلفية، بعد أن تمّ هدم الماخور الذي يشتغلن فيه، ولقد نقل لنا مخرجه، عبر شاشة في أعلى الركح، مشاهد حية عن كيف تمت عملية الهدم بتلك الطريقة بالغة الوحشية والانتقام، ومن ثم نقل لنا عبر مشاهد العرض هروبهن أثناء الليل في أزقة وشوارع مدينة القيروان، ليقدم لنا -فيما بعد- نقدًا جذريًا للعوامل والأسباب التي جعلت كلًا منهن تمتهن الدعارة. ما يمكن الظفر به هو تلك المعركة الدائرة بين المتكلمين باسم الإله التوحيدي والنساء، وهي معركة تبدو في ظاهرها جندرية ونسوية بالأساس، كما تجد مرماها في هذه السردية القائلة بضرورة كنس الهيمنة الذكورية، مثلما يتم تشغيلها في أوساط المجتمع المدني، كنوع من ردة الفعل ضد التيارات الأصولية والإسلامية برمتها. هنا تنعكس صورة الله الإسلامي بوضوح: إذ لا يبدو إلهًا متحيزًا للمنطق الذكوري فحسب، بل إنه يمثل خطرًا عظيمًا على النساء، وعلى مسار الانتقال الديمقراطي ككل؛ لذلك فإن ترجمته مسرحيًا في عرض (الصابرات) كانت نتيجة ذلك الخوف العميق من بشاعة المتحدثين باسمه، وعلى الأرجح، إن ذلك مرده الفوبيا التي يعيشها المسرحي من الإسلاميين أنفسهم، فإذا به يقع في ردة الفعل، دون أدنى تشغيل لصورة ذلك الإله، قبل أن يتم استثماره سياسيًا، وعليه فإن محاكاته كانت ضربًا من الاستنساخ السطحي لمعارك الراهن، بيد أنه كان ممكنًا القول: إذا كانت الذكورة “وحدانية” بأمر المقدس، قدرًا لا مفر منه باسم الغيب/ السماء؛ فإن الأنوثة لا يمكن أن تكون إلا “وثنية”، إنها الأرض، منبت الحلول، والاصطلام، والعشق، والانبعاث، إنها ذلك الوحي الخاطف، الملفع بغير قليل من السحر: لا تقدر الوحدانية أن تحيا دون وثنية، كما لا تقدر الوثنية أن تحيا دون أن تتواضع الأخرى، وتخشع للرحم العاشق.

أما العرض الثاني، فهو لم يأخذ من هذا الإله سوى هذه العبارة اللغوية (ألهاكم التكاثر) كعتبة أو عنوان له، وعلينا أن ننتبه إلى أنه ولد في سياق تجاذبات سياسية كبيرة، ما يدفعنا إلى القول إن المبدع اليوم لم يعد ينظر أو يؤسس لحداثة، من زاوية تشغيل الراهن بمحاورة التناقضات الداخلية، بقدر ما أصبح يسقط عليها مفارقات عجيبة وكارثية، حتى إنه في معركته ضد المنتسبين إلى ثقافة النوق وخيام الظلام، ظل عند حدود المواجهة؛ فإذا به يجعل من فنه سلاحًا للقتل المحض، أو هو يتحول إلى تاجر بارع الذكاء، ليستثمر المقدس في أعماله، وكي يثير زوبعة إعلامية تحقق له نوعًا من الشهرة (وهذا ما حدث فعلًا)، وهي شهرة لا يأتي مصدرها من عمله الفني بوصفه عملًا له، أو من القيمة الجمالية والفكرية (الشيء الرفيع) بل من خلال غبار المعارك التي أشعلتها ردّات الفعل حول المعارك نفسها. بهذا الشكل، لن تفصح الحقيقة إلا عن استمرار مأساة ذلك الإله، فهو من جهة تحول إلى بضاعة في يد رأسمالي يتحدث باسم السماء بدافع احتكاره، ومن جهة ثانية تحوّل إلى سلعة يقتات منها المسرحي بغاية استثمارها تجاريًا وإعلاميًا.

يمكن أن نصاب بحمى فكرية، ونحن نتابع العرض الثالث، إذ نكتشف كيف تحول الإنسان الحداثي في تونس إلى مجرد كائن “بافلوفي”، كلما نزلت مصيبة أو حطت كارثة قفز إلى المنابر المتاحة له، كي يدلي بغضبه وشتائمه ورغبته في قطع أوصال ذلك الإله. ومثلما نرى ذلك في الساحات العامة والمنابر التلفازية ووسائل الاعلام، رأيناه –أيضًا- في عرض ليلى طوبال، من خلال نصها الذي لم تحركه سوى نزعة غضبية ساخطة: (جهاد النكاح/ القحط الجنسي/ إسلامكم/ ربكم/ شيخكم/ أوساخكم/ قرفكم). لقد تحول نص العرض إلى ما يشبه الخطاب السياسي المباشر القائم على نزعة سادية ضد الآخر لا غير، وهذا أمرٌ يغرق العمل الفني في السطحية، ويدفعه ليكون مرتبطًا بالحدث، فيموت بموت الحدث نفسه؛ كما يجعل من صورة ذلك الإله منبوذة وكريهة. والأنكى من ذلك، أن نتابع مشهدًا لبست فيه الممثلة الأبيض، ثم انحنت على ركبتيها في أول الركح، وكأنها في لحظة سجود، صاحبتها في ذلك شذرة نصية على لسانها تدعو فيها الوحش الدموي/ الإسلامي إلى رجمها وقتلها، لأنها على غير تعاليمه، وهي في نظره لا تعدو أن تكون إلا الزانية والعاهرة.

رُبّ مشهد فاجع ورهيب يذكرنا بسرديات الدم في العهود الغابرة من الظلم الإسلامي وتاريخه المهمش، ولكن يا لوطأة الضحك، لقد كان المشهد برمته مستنسخًا بطريقة مبتذلة من الفيلم الأميركي/ الإيراني رجم ثريّا، ومثلما تم رجم “ثريا” في إحدى مشاهد ذلك الفيلم؛ لأنها اقترفت الزنا، تذهب طوبال إلى تقديم مشهد مشابه جدًا لذلك، وهذا سلوك ينم عن شيئين لا أكثر: الأول يوحي بفقر كبير في الخيال، دفعها إلى الاستنساخ، أما الثاني فينم عن ظاهرة الانتحال من السينما، بأخذ الأيقونة وإعادة صناعتها بشيء فيه الكثير من الابتذال.

يمكن القول، بأن صورة الله في مثل هذه الأعمال الفنية، لم تخرج عن تلك الصورة المرسومة له سلفًا من قبل المقاتلين باسمه؛ إذ هي قائمة على الازدراء والمتاجرة والاستثمار والوحشية ونفي كل خصوبة روحية، من شأنها أن تسكن عوالم الخراب التي نعيشها، ومثلما يمكن في حالة كهذه عدم الاستغراب من هؤلاء الإرهابيين، لأن أقصى ما يمكن أن تتوج به أفعالهم هو تشويه تلك الصورة، يمكن –كذلك- عدم الاطمئنان لمثل هذه التجارب المسرحية، لأنها على غرار محاكاتها الواقع بشكل سطحي، لم تستطع تجاوز حالة الراهن أو تخطيه، ما يعكس خللًا جذريًا كبيرًا، من حيث خلفياتها وكيفية مسرحتها فيما بعد، كما يحيل إلى ما ردده أدورنو بالقول: “لقد صار من البيّن بنفسه أنه لم يعد شيء في ما يتعلق بالفن، بينًا بنفسه وبديهيًا، لا الفن في حد ذاته، ولا علاقته بالكل، ولا حتى حقه في الوجود. ذلك أن الحرية المطلقة في الفن التي تبقى حرية في ما هو جزئي، إنما تتناقض مع الوضع الدائم لانعدام الحرية ضد الكل. في هذا الكل بات حيز الفن غير موثوق به”.


حاتم محمودي


المصدر
جيرون